ماذا بقى في بغداد مِن بغداد؟ وماذا تبقى من معالمها الحضارية، أبنيتها، مساجدها وكنائسها، شوارعها، حدائها، مقاهيها، أسواقها، مكتباتها، جامعاتها القديمة والحديثة، نهرها، روحها، بهجتها وألقها، أغانيها وموسيقاها، مسارحها، ألوانها، دور السينما فيها، أزقتها العتيقة، بل الأكثر من هذا ناسها. لا شيء تبقى من بغداد في بغداد اليوم، فهي ليست بغداد الأمس، وهي ليست بغداد البغداديين، هي ليست بغدادكم أو بغدادنا، أو بغداد كما عرفها أي زائر لها في السابق.. إنها ببساطة بغداد التي هي ليست ببغداد، ليست المدينة التي كان يتبغدد فيها المقيم والزائر منذ أن بنيت. . وحتى خربت.
«الشرق الأوسط» استغرقت لأكثر من شهر في سطح المدينة وعمقها، حولها وفوقها، فوق أرصفتها وعلى حافات نهرها، وبين ناسها وفي أسواقها، بحثا عن روح بغداد الألقة، فلم نجد سوى بقايا مدينة تتخرب كل ساعة ويوم أمام أهلها، وبرصد شهود عيان، بعضهم يبكي من أجلها، والبعض الآخر يمعن في خرابها، وبعض ثالث لا يهمه ما يراه من مشاهدها الحزينة.
هنا اكتشاف جديد لبغداد التي لم تعد بغداد. بغداد التي خرجت من بوابات الحروب والدمار متألقة دوما، إلا في هذه المرة، فقد خرجت ولم تعد حتى اليوم.
وتعتبر أرصفة بغداد مشروع دائم للأسواق المتجولة، أو أسواق الأرصفة، أو باعة الأرصفة، الأسماء كثيرة، منها أيضا «أصحاب البسطات»، وكلها تخص أولئك الباعة الذين يعرضون بضاعتهم فوق أرصفة الأحياء والمناطق التجارية الآمنة خلال النهار والمساء.
غالبية هؤلاء الباعة هم من الأطفال والفتيان والشباب، وممن تتراوح أعمارهم ما بين العاشرة والخامسة والثلاثين، وفي مناطق أخرى تتجاوز هذه الفئات العمرية حتى الستين عاما. وتشكل شوارع: السعدون والجمهورية والكفاح والرشيد وأحياء الأعظمية والكاظمية، أكبر أسواق الأرصفة نهارا، بينما تزدهر منطقة الكرادة (داخل) والمنصور أضخم أسواق الأرصفة على الإطلاق مساء.
كل شيء يمكن أن يباع فوق الأرصفة: ملابس، ومواد كهربائية استهلاكية، ومعلبات، ومواد غذائية، يضاف إليها مطاعم متجولة وهي عبارة عن عربات يدوية تبيع المشاوي للمستطرقين. ولو ألقينا نظرة عامة وواسعة من الجو لبغداد، سواء خلال النهار أو المساء، لاكتشفنا أنها عبارة عن سوق للباعة الجوالين أو باعة الأرصفة، فهؤلاء الباعة بلا عمل في ظل بطالة شبه عامة تجتاح العراق. وحسب باحثة اجتماعية عراقية التقيناها في بغداد فإن «الفتيان والشباب من كلا الجنسين يشكلون ما نسبته 69% من عموم العراقيين»، مع تنويه مهم، مفاده أن «هذه النسبة لا تستند إلى إحصاءات دقيقة»، معبرة عن اعتقادها بأن «النسبة تتجاوز هذا الرقم وقد تصل إلى 72%».
وتستطرد هذه الباحثة التي تعمل في إحدى مراكز جامعة بغداد، قائلة: «لنا أن نتصور أن غالبية عظمى من هذه النسبة عاطلة تماما عن العمل، مع أن بينهم أعدادا هائلة من خريجي الدراسة الإعدادية وخريجي الجامعات الحاصلين على شهادات بكالوريوس في شتى الاختصاصات الإنسانية والعلمية، وأن قسما كبيرا منهم لا يجد له فرصة عمل سوى بيع الملابس أو أي مواد أخرى فوق الأرصفة أو عمال مطاعم، ومن يحالفه الحظ ويحصل على سيارة فسوف يعمل مباشرة سائق سيارة أجرة».
وتضيف الباحثة التي فضلت عدم نشر اسمها، قائلة لـ«الشرق الأوسط»، إن «ارتفاع نسب البطالة لأكثر من 65% وفي أحيان كثيرة تصل إلى 73% بين هذه الفئات العمرية يؤدي إلى نتائج سلبية في المجتمع العراقي، في ظل سيادة العنف والسرقات والفساد المالي والإرهاب». وتقول أيضا: «كنا نجري دراسة على شريحة عمرية ما بين الـ18 و22 عاما، والمشكلات التي يعانون منها، وكانت النتائج مرعبة للغاية، فمن بين عشرة شباب هناك 9 يعانون من البطالة، و3 إلى 4 من هؤلاء لا يمانعون في العمل حتى مع عصابات الجريمة المنظمة، أو الجماعات الإرهابية بشرط أن تتوافر الأموال بين أيديهم»، منبهة إلى أن «نتائج هذه الدراسة كانت سرية ولم نطلب خلالها أي أسماء أو عناوين».
وما ذهبت إليه هذه الباحثة الأكاديمية لا يشكل مفاجأة لواقع العراق عامة وللأوضاع السائدة في بغداد خاصة. ففي حديث عرضي مع حسين، هكذا عرف نفسه، الذي التقيناه في أحد المقاهي الحديثة بحي الكرادة وقريبا من فندق بابل، أو بالأحرى بقايا فندق بابل، قال: «ما هو ذنبي في أني لا أجد أي عمل سوى أن أذهب إلى تاجر هو صديق لخالي وآخذ منه بعض الملابس التركية الصنع وأعرضها على الرصيف لأجني القليل من الأرباح التي لا تكاد تسد حاجتي اليومية بينما هناك، وفي نفس عمري، من يتمتعون بملايين الدولارات، ويسكنون في فيلات مترفة ويقودون سيارات حديثة من غير أن يحصلوا على شهادات عالية أو يبذلوا أي جهد؟ إنهم ببساطة أبناء متنفذين في الحكومة!».
حسين (22 عاما) كان يجلس بين ثلاثة من أقرانه وهم يدخنون «الشيشة»، لم يتراجع عن البوح بما في داخله من طموحات، حتى وإن كان قد طرحها بطريقة مازحة «ما عندي مانع حتى لو أعمل (حرامي)، (حرامي) مرتب وليس حرامي شوارع، يعني مع عصابة ونسرق مصرفا كبيرا وتكون حصتي مليون دولار مثلا»، ووسط ضحكات خافتة تنطلق من أصدقائه، يستطرد قائلا: «كل يوم نسمع في الأخبار عن وزراء ومسؤولين سرقوا مليار دولار أو ملايين الدولارات ولم يحاسبهم أحد، كما أن المصارف العراقية تتعرض لسرقات منظمة باستمرار من قبل المسؤولين، فلماذا ينظر إلى هؤلاء باعتبارهم محترمين ونحن إذا عملنا نفس الشيء نكون (حرامية)؟».
عندما نقلنا حديث حسين إلى شاب في الثالثة والعشرين التقيناه قرب جامعة بغداد في الجادرية، ابتسم وقال: «أنا لا أتعامل مع طموحات حسين بجدية، لا بد أنه كان يمزح أو يعبر عن مرارة مشاعره إزاء أوضاعه الصعبة، فالشباب العراقي طموح وطيب ومبدع ولكن في ظل ظروف خاطئة وأجواء يتحول فيها المسؤول في الدولة إلى لص من غير أن يشعر بالحرج، سيكون من السهولة أن يتحدث شاب فتي مثل حسين بطموحات مرة مثل التي سمعتموها».
هذا الشاب، بلال تحسين، في السنة الأخيرة من دراسته الجامعية ومن سكان منطقة السعيدية في الكرخ، كانت له طموحات كبيرة بإكمال دراسته العليا، لكنه تراجع عن هذه الطموحات لما يعيشه من ظروف صعبة، وهو يفكر جادا في أن يتطوع إلى كلية الشرطة ليتخرج ضابط شرطة، أو أن يجد وظيفة مدرس، يقول: «الثانية صعبة جدا، من الصعب أن تجد اليوم وظيفة في دوائر الدولة ما لم تكن معك مفاتيح سرية وهي الوساطة ومعرفة أشخاص أو جهات متنفذة ليمهدوا الطريق أمامك، أو أن تبحث عن طرق أخرى مثل التطوع لكلية الشرطة، وهذا الخيار أيضا ليس سهلا بل في أحيان كثيرة يبدو مستحيلا». يتطلع بلال حوله، حيث المئات من طلبة الجامعة يتوزعون في كل الاتجاهات بعد أن أنهوا يومهم الدراسي، ويقول: «انظروا إلى كل هؤلاء، شباب وشابات، ماذا سيفعلون بعد أن ينهوا دراستهم الجامعية؟ نحن نتسلى هنا في الجامعة، نقضي أوقات فراغنا في التعلم، لقد فقدنا أمرا مهما للغاية وهو أحلامنا، وفقدنا طموحاتنا، ولو تسأل أي طالب أو طالبة الآن، ماذا ستفعل بعد التخرج فلن تحصل على أي إجابة سوى علامة استفهام ترتسم على وجوههم».
«للحصول على وظيفة في الدولة يجب أن تدفع»، يوضح خالد (24 سنة): «أعني أن تدفع مبلغا من الدولارات، فلكل وظيفة سعرها، والأسعار تبدأ بخمس أو سبع أوراق وترتفع مع أهمية الوظيفة»، والورقة في اللغة الشعبية العراقية تعني 100 دولار، منبها إلى أن «المسألة مع ذلك غير مضمونة، فربما تدفع سبع أوراق (700 دولار أميركي) لتتطوع في الشرطة وتصير مجرد شرطي، ثم يفاجئك من دفعت له الذي تعتقد أنه متنفذ في وزارة الداخلية بأن (الشغلة ما صارت) ومن دون أن يذكر الأسباب، ويذهب المبلغ أدراج الرياح!».
خالد أنهى دراسته الإعدادية منذ سنوات ولم ينتسب إلى الجامعة «لقد سألت نفسي كثيرا لماذا أذهب إلى الجامعة وأتحمل النفقات والتعب لأعود وأعمل في مطعم أو سائق سيارة أجرة أو عامل من الدرجة العاشرة، لهذا اختصرت الطريق ووجدت عملا في مطعم، وها أنا أتنقل من مطعم إلى آخر»، ويعلق مازحا «على الأقل هنا أضمن وجبات طعام مجانية!». ولا يبدو وضع الشابات أفضل من الشباب، فغالبية عظمى من العراقيات الشابات عاطلات عن العمل ينتظرن في بيوتهن «القسمة والنصيب (الزواج) أو فرصة عمل لا تتناسب مع المستوى الدراسي للشابة، مثل عاملة في صالون حلاقة نسائي أو في صيدلية أو سكرتيرة طبيب»، حسبما توضح نهلة التي تعتبر نفسها محظوظة لأنها وجدت عملا مع شركة أمنية في مطار بغداد، إنها ببساطة تقوم بتفتيش النساء والحقائب اليدوية النسائية عندما تدخل أي مسافرة إلى المطار، تقول: «حصلت على هذا العمل بواسطة ابن عمي الذي يعرف أحد موظفي هذه الشركة، ولأنني خريجة قسم اللغات (الإنجليزية) من الجامعة المستنصرية، فقد تم تفضيلي على غيري».
وتضيف نهلة التي تضع الحجاب على شعرها وتتحدث بلباقة، قائلة: «هذا الحجاب من مستلزمات العمل، لا أدري لماذا، ولكنهم قالوا لي يجب أن تضعي الحجاب ففعلت، الحصول على العمل أهم بالنسبة إلي من حرية اختياري للحجاب من عدمه، كما أن عملي مريح على الرغم من طول ساعات العمل، لكننا هنا نتناوب فيما بيننا على تفتيش النساء، والعمل يكون مزدحما في مواسم معينة، خاصة خلال العطل ومواسم زيارة المراقد الشيعية».
ولنهلة طموحات كبيرة لا تريد التضحية بها، تقول: «أنا ومجموعة من الشابات نفكر في مشروعين مهمين ويمكن أن ننفذ أحدهما عندما تعود الحياة إلى طبيعتها في بغداد، أول هذه المشاريع هو تأسيس شركة أمنية نسائية، أي نقوم نحن بكل الأمور التي تقوم بها الشركات الأمنية الأخرى خاصة فيما يتعلق بالتفتيش وتسهيل أمور المسافرين، فالمرأة أكثر قدرة من الرجل على التعامل بصورة مهذبة مع الآخرين، أما الفكرة الثانية فهي تأسيس شركة (تكيس) نسائية لا تنقل سوى النساء، وهذه الفكرة معمول بها في بلدان عربية أخرى ونحن نعتقد نجاحها».
«الشرق الأوسط» استغرقت لأكثر من شهر في سطح المدينة وعمقها، حولها وفوقها، فوق أرصفتها وعلى حافات نهرها، وبين ناسها وفي أسواقها، بحثا عن روح بغداد الألقة، فلم نجد سوى بقايا مدينة تتخرب كل ساعة ويوم أمام أهلها، وبرصد شهود عيان، بعضهم يبكي من أجلها، والبعض الآخر يمعن في خرابها، وبعض ثالث لا يهمه ما يراه من مشاهدها الحزينة.
هنا اكتشاف جديد لبغداد التي لم تعد بغداد. بغداد التي خرجت من بوابات الحروب والدمار متألقة دوما، إلا في هذه المرة، فقد خرجت ولم تعد حتى اليوم.
وتعتبر أرصفة بغداد مشروع دائم للأسواق المتجولة، أو أسواق الأرصفة، أو باعة الأرصفة، الأسماء كثيرة، منها أيضا «أصحاب البسطات»، وكلها تخص أولئك الباعة الذين يعرضون بضاعتهم فوق أرصفة الأحياء والمناطق التجارية الآمنة خلال النهار والمساء.
غالبية هؤلاء الباعة هم من الأطفال والفتيان والشباب، وممن تتراوح أعمارهم ما بين العاشرة والخامسة والثلاثين، وفي مناطق أخرى تتجاوز هذه الفئات العمرية حتى الستين عاما. وتشكل شوارع: السعدون والجمهورية والكفاح والرشيد وأحياء الأعظمية والكاظمية، أكبر أسواق الأرصفة نهارا، بينما تزدهر منطقة الكرادة (داخل) والمنصور أضخم أسواق الأرصفة على الإطلاق مساء.
كل شيء يمكن أن يباع فوق الأرصفة: ملابس، ومواد كهربائية استهلاكية، ومعلبات، ومواد غذائية، يضاف إليها مطاعم متجولة وهي عبارة عن عربات يدوية تبيع المشاوي للمستطرقين. ولو ألقينا نظرة عامة وواسعة من الجو لبغداد، سواء خلال النهار أو المساء، لاكتشفنا أنها عبارة عن سوق للباعة الجوالين أو باعة الأرصفة، فهؤلاء الباعة بلا عمل في ظل بطالة شبه عامة تجتاح العراق. وحسب باحثة اجتماعية عراقية التقيناها في بغداد فإن «الفتيان والشباب من كلا الجنسين يشكلون ما نسبته 69% من عموم العراقيين»، مع تنويه مهم، مفاده أن «هذه النسبة لا تستند إلى إحصاءات دقيقة»، معبرة عن اعتقادها بأن «النسبة تتجاوز هذا الرقم وقد تصل إلى 72%».
وتستطرد هذه الباحثة التي تعمل في إحدى مراكز جامعة بغداد، قائلة: «لنا أن نتصور أن غالبية عظمى من هذه النسبة عاطلة تماما عن العمل، مع أن بينهم أعدادا هائلة من خريجي الدراسة الإعدادية وخريجي الجامعات الحاصلين على شهادات بكالوريوس في شتى الاختصاصات الإنسانية والعلمية، وأن قسما كبيرا منهم لا يجد له فرصة عمل سوى بيع الملابس أو أي مواد أخرى فوق الأرصفة أو عمال مطاعم، ومن يحالفه الحظ ويحصل على سيارة فسوف يعمل مباشرة سائق سيارة أجرة».
وتضيف الباحثة التي فضلت عدم نشر اسمها، قائلة لـ«الشرق الأوسط»، إن «ارتفاع نسب البطالة لأكثر من 65% وفي أحيان كثيرة تصل إلى 73% بين هذه الفئات العمرية يؤدي إلى نتائج سلبية في المجتمع العراقي، في ظل سيادة العنف والسرقات والفساد المالي والإرهاب». وتقول أيضا: «كنا نجري دراسة على شريحة عمرية ما بين الـ18 و22 عاما، والمشكلات التي يعانون منها، وكانت النتائج مرعبة للغاية، فمن بين عشرة شباب هناك 9 يعانون من البطالة، و3 إلى 4 من هؤلاء لا يمانعون في العمل حتى مع عصابات الجريمة المنظمة، أو الجماعات الإرهابية بشرط أن تتوافر الأموال بين أيديهم»، منبهة إلى أن «نتائج هذه الدراسة كانت سرية ولم نطلب خلالها أي أسماء أو عناوين».
وما ذهبت إليه هذه الباحثة الأكاديمية لا يشكل مفاجأة لواقع العراق عامة وللأوضاع السائدة في بغداد خاصة. ففي حديث عرضي مع حسين، هكذا عرف نفسه، الذي التقيناه في أحد المقاهي الحديثة بحي الكرادة وقريبا من فندق بابل، أو بالأحرى بقايا فندق بابل، قال: «ما هو ذنبي في أني لا أجد أي عمل سوى أن أذهب إلى تاجر هو صديق لخالي وآخذ منه بعض الملابس التركية الصنع وأعرضها على الرصيف لأجني القليل من الأرباح التي لا تكاد تسد حاجتي اليومية بينما هناك، وفي نفس عمري، من يتمتعون بملايين الدولارات، ويسكنون في فيلات مترفة ويقودون سيارات حديثة من غير أن يحصلوا على شهادات عالية أو يبذلوا أي جهد؟ إنهم ببساطة أبناء متنفذين في الحكومة!».
حسين (22 عاما) كان يجلس بين ثلاثة من أقرانه وهم يدخنون «الشيشة»، لم يتراجع عن البوح بما في داخله من طموحات، حتى وإن كان قد طرحها بطريقة مازحة «ما عندي مانع حتى لو أعمل (حرامي)، (حرامي) مرتب وليس حرامي شوارع، يعني مع عصابة ونسرق مصرفا كبيرا وتكون حصتي مليون دولار مثلا»، ووسط ضحكات خافتة تنطلق من أصدقائه، يستطرد قائلا: «كل يوم نسمع في الأخبار عن وزراء ومسؤولين سرقوا مليار دولار أو ملايين الدولارات ولم يحاسبهم أحد، كما أن المصارف العراقية تتعرض لسرقات منظمة باستمرار من قبل المسؤولين، فلماذا ينظر إلى هؤلاء باعتبارهم محترمين ونحن إذا عملنا نفس الشيء نكون (حرامية)؟».
عندما نقلنا حديث حسين إلى شاب في الثالثة والعشرين التقيناه قرب جامعة بغداد في الجادرية، ابتسم وقال: «أنا لا أتعامل مع طموحات حسين بجدية، لا بد أنه كان يمزح أو يعبر عن مرارة مشاعره إزاء أوضاعه الصعبة، فالشباب العراقي طموح وطيب ومبدع ولكن في ظل ظروف خاطئة وأجواء يتحول فيها المسؤول في الدولة إلى لص من غير أن يشعر بالحرج، سيكون من السهولة أن يتحدث شاب فتي مثل حسين بطموحات مرة مثل التي سمعتموها».
هذا الشاب، بلال تحسين، في السنة الأخيرة من دراسته الجامعية ومن سكان منطقة السعيدية في الكرخ، كانت له طموحات كبيرة بإكمال دراسته العليا، لكنه تراجع عن هذه الطموحات لما يعيشه من ظروف صعبة، وهو يفكر جادا في أن يتطوع إلى كلية الشرطة ليتخرج ضابط شرطة، أو أن يجد وظيفة مدرس، يقول: «الثانية صعبة جدا، من الصعب أن تجد اليوم وظيفة في دوائر الدولة ما لم تكن معك مفاتيح سرية وهي الوساطة ومعرفة أشخاص أو جهات متنفذة ليمهدوا الطريق أمامك، أو أن تبحث عن طرق أخرى مثل التطوع لكلية الشرطة، وهذا الخيار أيضا ليس سهلا بل في أحيان كثيرة يبدو مستحيلا». يتطلع بلال حوله، حيث المئات من طلبة الجامعة يتوزعون في كل الاتجاهات بعد أن أنهوا يومهم الدراسي، ويقول: «انظروا إلى كل هؤلاء، شباب وشابات، ماذا سيفعلون بعد أن ينهوا دراستهم الجامعية؟ نحن نتسلى هنا في الجامعة، نقضي أوقات فراغنا في التعلم، لقد فقدنا أمرا مهما للغاية وهو أحلامنا، وفقدنا طموحاتنا، ولو تسأل أي طالب أو طالبة الآن، ماذا ستفعل بعد التخرج فلن تحصل على أي إجابة سوى علامة استفهام ترتسم على وجوههم».
«للحصول على وظيفة في الدولة يجب أن تدفع»، يوضح خالد (24 سنة): «أعني أن تدفع مبلغا من الدولارات، فلكل وظيفة سعرها، والأسعار تبدأ بخمس أو سبع أوراق وترتفع مع أهمية الوظيفة»، والورقة في اللغة الشعبية العراقية تعني 100 دولار، منبها إلى أن «المسألة مع ذلك غير مضمونة، فربما تدفع سبع أوراق (700 دولار أميركي) لتتطوع في الشرطة وتصير مجرد شرطي، ثم يفاجئك من دفعت له الذي تعتقد أنه متنفذ في وزارة الداخلية بأن (الشغلة ما صارت) ومن دون أن يذكر الأسباب، ويذهب المبلغ أدراج الرياح!».
خالد أنهى دراسته الإعدادية منذ سنوات ولم ينتسب إلى الجامعة «لقد سألت نفسي كثيرا لماذا أذهب إلى الجامعة وأتحمل النفقات والتعب لأعود وأعمل في مطعم أو سائق سيارة أجرة أو عامل من الدرجة العاشرة، لهذا اختصرت الطريق ووجدت عملا في مطعم، وها أنا أتنقل من مطعم إلى آخر»، ويعلق مازحا «على الأقل هنا أضمن وجبات طعام مجانية!». ولا يبدو وضع الشابات أفضل من الشباب، فغالبية عظمى من العراقيات الشابات عاطلات عن العمل ينتظرن في بيوتهن «القسمة والنصيب (الزواج) أو فرصة عمل لا تتناسب مع المستوى الدراسي للشابة، مثل عاملة في صالون حلاقة نسائي أو في صيدلية أو سكرتيرة طبيب»، حسبما توضح نهلة التي تعتبر نفسها محظوظة لأنها وجدت عملا مع شركة أمنية في مطار بغداد، إنها ببساطة تقوم بتفتيش النساء والحقائب اليدوية النسائية عندما تدخل أي مسافرة إلى المطار، تقول: «حصلت على هذا العمل بواسطة ابن عمي الذي يعرف أحد موظفي هذه الشركة، ولأنني خريجة قسم اللغات (الإنجليزية) من الجامعة المستنصرية، فقد تم تفضيلي على غيري».
وتضيف نهلة التي تضع الحجاب على شعرها وتتحدث بلباقة، قائلة: «هذا الحجاب من مستلزمات العمل، لا أدري لماذا، ولكنهم قالوا لي يجب أن تضعي الحجاب ففعلت، الحصول على العمل أهم بالنسبة إلي من حرية اختياري للحجاب من عدمه، كما أن عملي مريح على الرغم من طول ساعات العمل، لكننا هنا نتناوب فيما بيننا على تفتيش النساء، والعمل يكون مزدحما في مواسم معينة، خاصة خلال العطل ومواسم زيارة المراقد الشيعية».
ولنهلة طموحات كبيرة لا تريد التضحية بها، تقول: «أنا ومجموعة من الشابات نفكر في مشروعين مهمين ويمكن أن ننفذ أحدهما عندما تعود الحياة إلى طبيعتها في بغداد، أول هذه المشاريع هو تأسيس شركة أمنية نسائية، أي نقوم نحن بكل الأمور التي تقوم بها الشركات الأمنية الأخرى خاصة فيما يتعلق بالتفتيش وتسهيل أمور المسافرين، فالمرأة أكثر قدرة من الرجل على التعامل بصورة مهذبة مع الآخرين، أما الفكرة الثانية فهي تأسيس شركة (تكيس) نسائية لا تنقل سوى النساء، وهذه الفكرة معمول بها في بلدان عربية أخرى ونحن نعتقد نجاحها».
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر