لا تستقيم
لغير الفلسطيني!
تختلط المقاييس لدى الشعب
الفلسطيني، ويتباعد الزمن عن المسافة في حياته.
كم المسافة التي تفصل بين ميلانو وشواطئ فلسطين بالطائرة.. ساعة؟ ساعتان؟ أكثر؟ أقل؟
بالجنسية الأخرى، هي كذلك.. لكن
بوثيقة اللاجئ، ليس هناك «نسبة وتناسب» بين المسافة والزمن.
فعلى حدود فلسطين الشمالية مثلاً، تحمل مسافة الخمسين متراً في ثناياها وحناياها
وطيّاتها أثقال ظلم هذا العالم وتواطئه على عشرة ملايين فلسطيني، منذ أن كانوا 800
ألف فقط حتى اليوم (ها قد احتسبنا الزمن بعدد السكان، لا بعقارب الأيام والسنين!).
إذاً، مسافة الخمسين متراً على الحدود الفلسطينية الشمالية تصبح بالمقياس الزمني 61
عاماً، ويمكن قياسها بعشرات المجازر ومئات الاغتيالات وآلاف الشهداء وعشرات آلاف
الجرحى ومئات آلاف الأيتام والمشردين.
تعددت السبل، وتعددت الأساليب، وكل الطرق توصل إلى فلسطين.
ألم يقل الشاعر عن رفيقين تعارفا في ساحات النضال «منذ عشرين شهيداً ونيّف!».
وما أكثر البدايات!
أوكلما انتهت معركة نبدأ من جديد؟ نتعاهد من جديد؟
أوَكلما دفنّا شهيداً نصطلي بدمه، ونُقسِم بترابه، ونبدأ من جديد.
***
هي ليست تغريبة واحدة..
إنها تغريبات بعدد اللاجئين، فهم ليسوا مجموعة ممسوخة بصورة واحدة تُذكر كلها أو
تُحذف كلها بقرار أو برصاصة.. كانوا 800 ألف لاجئ، واحداً واحداً، قصة قصة.. صحيح
أنهم متحدون في نكبة واحدة وقضية واحدة، لكنهم ليسوا مجاميع بدون أسماء أو تجارب
حياة. إنهم 800 ألف قصة وحكاية تجربة ورؤية..
أكتب هذه الكلمات وفي بالي تجربة حدثت معي في كتابي «شعب وحاميتها»، ومن جرب
التوثيق الشفوي وخَبِرَه سيُدرك ما أعني، فالقصة الواحدة تُروى بشكل مختلف بين
عشرات الشهود، رغم أنهم لا يكذبون ولا يبالغون.. فكل عين ترى بشكل مختلف من زاوية
مختلفة، وكل قلب يقرّب صاحبه ويبعده بمقدار علاقته بصاحب الشأن..
الجميع يرى النكبة نكبةً، لكنها تتمثل لكل واحد منهم بشكلها الذي يختزل حكايته
الحزينة تلك (أو أسطورته الشخصية – كما في خيميائي باولو كويلو).. فهناك من يتذكر
الخسارة بالشهداء، أو بفراق الأهل والديار، أو بفراق الأرض والفلاحة والحصاد..
وهناك من يراها فراق صحبة الصبا، أو فراق عمر الصبا. فجأة، أصبح رجلاً، مع أنه
بالأمس فقط، خبأ مرطبان البنانير لحين عودته بعد 15 يوماً.. ولكنه لم يعد، وبقي
يذكر فلسطين و.. مرطبان البنانير!
صاحب هذه الحكاية، شارك في حركة فتح منذ انطلاقتها من أجل أن يعود إلى هناك ضمن
مشروع التحرير المنتظر، وبقيت فلسطينه (أسطورته الشخصية) أن يلعب البنانير في قريته.
***
كانت تُسمّى فلسطين، صارت تُسمى فلسطين (كبيرة أو صغيرة؟! حرة أو محتلة؟! شهيدة أو
مقاومة؟! مقسمة أو موحدة؟!).
لكلٍّ منا فلسطينه (أسطورته الشخصية) التي أَنْسَنها، فبات يأنس إليها ويشتاق
ويناجيها، ويعايشها (أو يعايش فراقها) ويحبها ويعاني فراقها.. لقد فارقها، لكنه حمل
تراثها وأغانيها معه، وكررها كي لا تصبح غريبة عنه، حتى الدبكة بقيت قوية بقوة
إصراره، أحضر أرضه بالتراث والأدب والفن، وحمل وطنه في قلبه، حتى التصقت به العبارة
الشهيرة: للجميع وطن يعيشون فيه إلا الفلسطيني فوطنه يعيش فيه.
والفلسطيني.. يفخر بحبه الذي فقده، لكنه لم ينسَ هذه الحبيبة، يموت ويوصي بأن يدفن
فيها ولو بعد حين. والفلسطيني، الذي تحمّل «ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيّا»، شعب
تحمّل ما لم يتحمله شعب آخر، وظل مصراً على حقه من دون أن يرضخ لأنصاف الحلول التي
يسعى إليها العالم مجتمعاً، لتخليص الصهاينة من سوء اختيارهم لهذه الأرض.
والفلسطيني، بعيداً عن العنصرية، شعب لم يدرس المستعمر خصائصه، فأخطأ حين استسهل
استعماره، والمقايضة على أرضه مع حفنة من الصهاينة، فتورطوا مع من لا ينسى بعد 61
سنة تفاصيل أرضه وقراه ومدنه، ولا ينسى أن المقاومة حق وواجب، ولا يتركها، ولكن..
ماذا لو اختار مؤسس الصهيونية تيودور هرتزل بلداً غير فلسطين، مما عُرض عليه أولاً:
الأرجنتين وأوغندا وألبانيا، مع كل الدعم العالمي له، هل كان سيصمد شعب ويكابر
ويقاوم لو كان غير الشعب الفلسطيني.
هذه أمور لا تستقيم إلا للفلسطيني، وسيندم الاحتلال ذات يوم على عدم اختياره بلداً
غير فلسطين ليستعمره! بل لقد ندم مبكراً..
لغير الفلسطيني!
بقلم: ياسـر عـلي |
|
تختلط المقاييس لدى الشعب
الفلسطيني، ويتباعد الزمن عن المسافة في حياته.
كم المسافة التي تفصل بين ميلانو وشواطئ فلسطين بالطائرة.. ساعة؟ ساعتان؟ أكثر؟ أقل؟
بالجنسية الأخرى، هي كذلك.. لكن
بوثيقة اللاجئ، ليس هناك «نسبة وتناسب» بين المسافة والزمن.
فعلى حدود فلسطين الشمالية مثلاً، تحمل مسافة الخمسين متراً في ثناياها وحناياها
وطيّاتها أثقال ظلم هذا العالم وتواطئه على عشرة ملايين فلسطيني، منذ أن كانوا 800
ألف فقط حتى اليوم (ها قد احتسبنا الزمن بعدد السكان، لا بعقارب الأيام والسنين!).
إذاً، مسافة الخمسين متراً على الحدود الفلسطينية الشمالية تصبح بالمقياس الزمني 61
عاماً، ويمكن قياسها بعشرات المجازر ومئات الاغتيالات وآلاف الشهداء وعشرات آلاف
الجرحى ومئات آلاف الأيتام والمشردين.
تعددت السبل، وتعددت الأساليب، وكل الطرق توصل إلى فلسطين.
ألم يقل الشاعر عن رفيقين تعارفا في ساحات النضال «منذ عشرين شهيداً ونيّف!».
وما أكثر البدايات!
أوكلما انتهت معركة نبدأ من جديد؟ نتعاهد من جديد؟
أوَكلما دفنّا شهيداً نصطلي بدمه، ونُقسِم بترابه، ونبدأ من جديد.
***
هي ليست تغريبة واحدة..
إنها تغريبات بعدد اللاجئين، فهم ليسوا مجموعة ممسوخة بصورة واحدة تُذكر كلها أو
تُحذف كلها بقرار أو برصاصة.. كانوا 800 ألف لاجئ، واحداً واحداً، قصة قصة.. صحيح
أنهم متحدون في نكبة واحدة وقضية واحدة، لكنهم ليسوا مجاميع بدون أسماء أو تجارب
حياة. إنهم 800 ألف قصة وحكاية تجربة ورؤية..
أكتب هذه الكلمات وفي بالي تجربة حدثت معي في كتابي «شعب وحاميتها»، ومن جرب
التوثيق الشفوي وخَبِرَه سيُدرك ما أعني، فالقصة الواحدة تُروى بشكل مختلف بين
عشرات الشهود، رغم أنهم لا يكذبون ولا يبالغون.. فكل عين ترى بشكل مختلف من زاوية
مختلفة، وكل قلب يقرّب صاحبه ويبعده بمقدار علاقته بصاحب الشأن..
الجميع يرى النكبة نكبةً، لكنها تتمثل لكل واحد منهم بشكلها الذي يختزل حكايته
الحزينة تلك (أو أسطورته الشخصية – كما في خيميائي باولو كويلو).. فهناك من يتذكر
الخسارة بالشهداء، أو بفراق الأهل والديار، أو بفراق الأرض والفلاحة والحصاد..
وهناك من يراها فراق صحبة الصبا، أو فراق عمر الصبا. فجأة، أصبح رجلاً، مع أنه
بالأمس فقط، خبأ مرطبان البنانير لحين عودته بعد 15 يوماً.. ولكنه لم يعد، وبقي
يذكر فلسطين و.. مرطبان البنانير!
صاحب هذه الحكاية، شارك في حركة فتح منذ انطلاقتها من أجل أن يعود إلى هناك ضمن
مشروع التحرير المنتظر، وبقيت فلسطينه (أسطورته الشخصية) أن يلعب البنانير في قريته.
***
كانت تُسمّى فلسطين، صارت تُسمى فلسطين (كبيرة أو صغيرة؟! حرة أو محتلة؟! شهيدة أو
مقاومة؟! مقسمة أو موحدة؟!).
لكلٍّ منا فلسطينه (أسطورته الشخصية) التي أَنْسَنها، فبات يأنس إليها ويشتاق
ويناجيها، ويعايشها (أو يعايش فراقها) ويحبها ويعاني فراقها.. لقد فارقها، لكنه حمل
تراثها وأغانيها معه، وكررها كي لا تصبح غريبة عنه، حتى الدبكة بقيت قوية بقوة
إصراره، أحضر أرضه بالتراث والأدب والفن، وحمل وطنه في قلبه، حتى التصقت به العبارة
الشهيرة: للجميع وطن يعيشون فيه إلا الفلسطيني فوطنه يعيش فيه.
والفلسطيني.. يفخر بحبه الذي فقده، لكنه لم ينسَ هذه الحبيبة، يموت ويوصي بأن يدفن
فيها ولو بعد حين. والفلسطيني، الذي تحمّل «ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيّا»، شعب
تحمّل ما لم يتحمله شعب آخر، وظل مصراً على حقه من دون أن يرضخ لأنصاف الحلول التي
يسعى إليها العالم مجتمعاً، لتخليص الصهاينة من سوء اختيارهم لهذه الأرض.
والفلسطيني، بعيداً عن العنصرية، شعب لم يدرس المستعمر خصائصه، فأخطأ حين استسهل
استعماره، والمقايضة على أرضه مع حفنة من الصهاينة، فتورطوا مع من لا ينسى بعد 61
سنة تفاصيل أرضه وقراه ومدنه، ولا ينسى أن المقاومة حق وواجب، ولا يتركها، ولكن..
ماذا لو اختار مؤسس الصهيونية تيودور هرتزل بلداً غير فلسطين، مما عُرض عليه أولاً:
الأرجنتين وأوغندا وألبانيا، مع كل الدعم العالمي له، هل كان سيصمد شعب ويكابر
ويقاوم لو كان غير الشعب الفلسطيني.
هذه أمور لا تستقيم إلا للفلسطيني، وسيندم الاحتلال ذات يوم على عدم اختياره بلداً
غير فلسطين ليستعمره! بل لقد ندم مبكراً..
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر