تشبه خربة السويدة المطلة على نهر الأردن نفسها قبل سنوات قليلة مضت. فلا قطعان جرارة من الأغنام تتزاحم عند بطون الجبال المنحدرة بشدة نحو الشرق، ولا رعاة يتجللون بكوفياتهم درءا لمخاطر الطقس يتحضّرون للخروج إلى المراعي في الصباح، ولا نساؤهم يجبن الأودية القريبة يجمعن حطام شجيرات الرتم العطرية لاستخدامها في المواقد.
إنه نمط من حياة تلاشت مع مر السنين.
الرعاة يتجمعون غالبا هنا في مناطق قريبة من مصادر المياه، لكنهم كانوا في هذه المنطقة بعيدين عن اقرب مصدر طبيعي للمياه، وقبل العام 67 كانوا ينزلون المنحدرات إلى نهر الأردن، وهناك ترتوي المواشي وتأكل نبات الحلفا.
للفلسطينيين حصة في هذا النهر لكنهم غائبون عن ضفافه منذ الأيام الأولى للنكسة، وهم غائبون عن خربة السويدة ومثلها من المضارب منذ سنوات.
لقد هجر جميع سكان الخربة مواقعهم بصمت في إطار سياسية إسرائيلية غير معلنة على الملأ، وجدت طريقها إلى التنفيذ بسهولة في غمرة التعقيدات الكثيرة التي شهدها الأرض الفلسطينية على مدار السنوات العشر الماضية.
إنها الآن خربة خالية الوصول إليها قد يكلف المرء روحه.
بالنسبة للرعاة فان مجرد التفكير للوصول إلى تلك المناطق أمر غير وارد في الحسبان غالبا.وبالنسبة للحكومة الفلسطينية التي فتحت جبهة جديدة للتنمية في الأغوار، فان كل الأرض الفلسطينية هدف للتنمية.
هكذا قال رئيسها سلام فياض وكرر أكثر من مرة، في كل موقع يزوره تقريبا. فهو نفسه في أخر زيارة قام بها إلى المنطقة ذهب إلى ابعد ما ذهب إليه مسؤول فلسطيني، عندما وضع نواة لمدرسة في مضرب رعوي صغير لا يبعد كثيرا عن خربة السويدة.
كانت السويدة مثلها مثل أي مضرب مؤلفة من بعض بيوت الشعر والخيش.يقول الرعاة إنهم عاشوا حياة هانئة فيها.
فالخربة التي تتوسط مجموعة من الجبال والهضاب التي تشكل فاصل طبيعي بين الضفتين الشرقية والغربية كانت تعني الكثير بالنسبة لرعاة الماشية في الغور الشمالي، لكنها الآن لم تعد تحمل أكثر من اسمها بعدما سكتت أصوات أجراس 'المراييع' -ذكور ضأن تقود قطعان الماشية- التي تصدح ويسمع صوتها يتردد مصدرا نغمات يطرب بها قائد القطيع بقية الماشية.
في الطريق إلى السويدة التي غير المعروف من أين جاء اسمها ليس هناك اثر للحياة.من على بعد يمكن مشاهدة زوال لبعض قطعان الماشية المتناثرة في السفوح.
قال رعاة على بعد عدة كيلومترات من تلك السفوح إنه من الصعوبة بمكان الوصول إلى تلك الشعاب والأودية حيث توجد المراعي الخصبة.
كانت السويدة التي تغطي جبالها وهضابها الصخور الصلدم وتنبت فيها شجيرات الرتم العطرية ذات يوم تضج بحركة سكان المضارب الرعوية الذين سكنوها منذ عشرات السنين وتعاقب عليها أكثر من جيل.
كانت هيعات الرعاة وصياحهم علامة من علامات الحياة هنا.
لكن سنة بعد سنة أخذت هذه العائلات التي تنحدر في أصولها من مناطق الشفا ( طوباس وطمون وبعض القادمين من جنوب الخليل) وتمتهن رعي المواشي تغادر المنطقة الواقعة فوق سلسلة السفوح الشرقية تحت وطأة الخوف من التهديدات الإسرائيلية المتمثلة في تسمية المنطقة منطقة محرمة.
قال الرعاة وهم يسخرون 'لا يسكن هناك إلا الشياطين. هناك تزعق الغربان فوق الخراب'.
على الأرض تظهر كثيرا من المواقع، شكلت على مدار السنوات الماضية مناطق سكن لرعاة المنطقة،وقد اختفت تماما عن خارطة المنطقة.
تظهر بقايا حجار كانت ذات توضع حول بيوت الخيش التي سكنها الرعاة.وتظهر قطع حديدية تشي بتلك الحياة. كان الرعاة يضعون فيها ماء ترد إليها المواشي من المراعي البعيدة.
والسكان الذين رحلوا عن مناطق سكنهم في هذه الخرب رحلوا إلى مناطق زراعية تتوفر فيها حياة بخوف اقل.بيد أن بعضهم رفض أن يبرح مكان سكنة مثلما حصل في خربتي حمصة والحديدية اللتان هدمهما الجيش الإسرائيلي هذا العام مرتين متتاليتين.
وجبال محرمة تفصل بين الخربتين وخربة السويدة.
وعلى سفوحها تظهر بعض قطعان الماشية ورعاة يقودونها بعيدا عن معسرات الجيش التي تنتشر في المنقطة.
قال راعي يدعى حمد انه لا يستطيع قطع ذلك الجبل التي تبدو في أعلاه شبكات رادارات ومراقبة يستخدمها الجيش الإسرائيلي للسيطرة على المنطقة.
قبل أسابيع عندما حاول احد الرعاة يقود قطيعه هناك، قطع الطريق القريبة من تلك الشبكات اعتقله الجنود وأخذوه إلى مركز للجيش ولم يفرج عنه إلا بعد دفع غرامة.
الرعاة هنا يرفضون التصريح بأسمائهم.
إنهم يخافون من عاقبة ذلك.
منذ أن اجتاحت القوات الإسرائيلية أراضي الضفة الغربية العام 1967، أعلن عن غالبية أراضي الغور على أنها أراض تابعة للدولة، وجرى ضمها إلى مناطق النفوذ التابعة للمجالس الإقليمية الاستيطانية 'عرفات هيردين' و'مجيلوت' التي حولت المنطقة إلى كتلة زراعية واحدة تدعم ما يطلق عليه سياسية الاستيطان الزراعي الذي ازدادت وتيرة تعزيزه خلال السنوات الماضية بصورة ملحوظة.
وعلى الجانب الآخر استغلت السلطات الإسرائيلية أنظمة حماية الطبيعة لتحول المناطق الجبلية إلى مناطق فارغة من سكانها الفلسطينيين بدعوى حماية التنوع الحيوي مثلما هو الحال في خربة السويدة والمناطق المحيطة بها.
وأقامت إسرائيل في منطقة الغور قرابة الثلاثين مستوطنة يسكنها زهاء 45 ألف مستوطن، ربما أكثر من ذلك، فيما تراجع عدد السكان الفلسطينيين تحت ضغوط شظف الحياة بكل ما فيها من قسوة.
في المقابل أخليت كل المناطق التي تحاذي ضفاف نهر الأردن من سكانها الفلسطينيين على رؤوس الأشهاد منذ الأيام الأولى لاحتلال الضفة الغربية. لكن سكان خربة السويدة وغيرها هجروا مناطق سكناهم بلا جلبة أو ضجيج.
عدد عارف دراغمة، وهو مسؤول محلي في المنطقة أسماء كثير من الخرب هجرها سكانها منذ العام 1967.
من على بعد تبدو المنطقة التي تتخللها معسكرات الجيش الاسرائيلي خالية من جنس البشر مثلما لا يسمع في الخربة إلا نعيق الغربان التي تزيد وحشة الخلاء هنا.
على أول طريق صخري صاعد بين شقوق صخرية في منطقة أبو الفيران يؤدي إلى الخربة التي تشي حجارتها الضخمة ببقايا حضارة دفنت منذ آلاف السنين وضعت سلطة الطبيعية الإسرائيلية لافتة خضراء تحدد فيها حدود أحدى اكبر المحميات الطبيعية الواسعة يحظر بموجبها على السكان الفلسطينيين التواجد تحت طائلة المسؤولية.
لكن ليس هذا السبب الوحيد الذي دفع عائلة رافع دراغمة إلى الهجرة من المنطقة.
'لا يمكن أن تسكن وحدك في منطقة مقفرة لا يسمع فيها صوت بشر' قال الرجل الذي كانت عائلته ذات يوم تملك قطيع من الأبقار تخلصت منه شيئا فشيئا حتى وجدت نفسها في نهاية المطاف تعمل في مهنة جديدة في قطاع الزراعة المروية.
وخربة السويدة في الأساس عدت منطقة سكنية ضمن حضارة غابرة يعتقد أنها تعود للعصر الروماني.
والبعض يقول إنها قد تعود للعهد الكنعاني. لقد تعرضت أثار الخربة للسطو والسرقة على مدار السنوات.لقد نبش سارقو الآثار قبورا تعود لآلاف السنين.
مثل عائلة رافع الرعوية التي ذهب أبناؤها للعمل في مهن شتى يتحدث سكان المضارب الذين انتقلوا إلى مناطق أخرى للسكان عن أن هناك العديد من العائلات التي عزفت عن مهنة الرعي، أو انتقلت بمواشيها إلى مناطق ثانية أكثر أمنا.
ومنذ العام 1967 أغلقت الكثير من مناطق الغور أمام السكان الفلسطينيين لكنها فتحت على عرضها للمستوطنين الذين ربطوا المنطقة على طولها بشبكة من المستوطنات الزراعية.
تكفي اللافتات الخضراء لأن تكون إشارة تحذيرية تحرم دخول المنطقة على الفلسطينيين، لكنها في الوقت ذاتها علامة واضحة لليهود الباحثين عن قضاء يوم طويل في تأمل المناظر الطبيعية التي تخلب الألباب في فصل الربيع الذي لم يدم طويلا هذا العام بسبب هجوم الصيف المبكر.
'مجرد الدخول إلى المنطقة ستدفع ثمنا باهظا'، قال رافع الذي سرد ذكريات عائلته الممتدة، وعاشت في المنطقة بهدوء قرابة نصف قرن ترعى المواشي وتستفيد من حليبها.
يردد الأمر ذاته معظم الرعاة الذين يحلمون بمراع خصبة.
عمل رافع وإخوته وأبناء عمومته بالرعي. وقضوا أكثر من نصف عمرهم يجوبون الجبال وراء قطعان المواشي.لقد عبدوا مهنتهم عبادة.
وتختفي ابتسامة الرجل عندما يتحدث عن السنوات الماضية، حيث كان الجميع يعيش في هدأة بال.
'مصلحتهم أن يطردوا كل سكان الغور' قال الرجل الذي يسكن الآن على بعد أكثر من عشرين كيلو مترا في قرية عين البيضا ممعنا في الأفق من ناحية الشرق حيث تقع الأغوار الأردنية العامرة بقراها.
وإسرائيل التي تسيطر على مساحات واسعة من منطقة السفوح الشرقية للضفة الغربية تحت مسمى 'محميات طبيعية' ومناطق 'عسكرية مغلقة' تنتهك بشكل يومي الأنظمة التي تتعلق بهذين المسميين كما تقول منظمات تراقب ما يجري هناك.
من ناحية عملية ما ترمي إليه السلطات الإسرائيلية ابعد من ذلك كما يقول سكان المنطقة. يؤكد الأمر سياسيون فلسطينيون.
ودائما علق مسؤولون فلسطينيون أن الحكومات الإسرائيلية سعت على مدار سنين الاحتلال لتفريغ المنطقة من سكانها.ولم تخف قيادات إسرائيلية في الصفوف السياسية الأولى نوايا الدولة العبرية في الاحتفاظ بكتلة غور الأردن ضمن أي حل مستقبلي مع الفلسطينيين.
ويرفض الفلسطينيون ذلك ويقولون لا دولة بدون الغور، ولا حدود شرقية للدولة إلا مع الأردن.
بيد أن السلطات الإسرائيلية سعت منذ الأيام الأولى لاحتلال الضفة الغربية إلى تدمير عدد من القرى الصغيرة المحاذية لنهر الأردن توطئة للسيطرة عليها.فيما عمدت خلال السنوات الثماني الأخيرة إلى تفريغ منطقة السفوح دون الحاجة إلى بلدوزراتها لتلك الغاية مكتفية بانتهاج سياسية العزل والإغلاق والتخويف.
وأخيرا 'لعبة الحفاظ على الطبيعة'.
فهي تدمر المحميات الطبيعية من خلال مناوراتها المتسمرة على مدار السنة في المنطقة من جهة، وتهيئ أجواء مريحة للمستوطنين لمواصلة البناء في المستوطنات الواقعة ضمن المناطق المغلقة مثلما هو الحال في مستوطنة مسكيوت التي يستمر البناء فيها على قدم وساق.
من على بعد تبدو المناطق المحيطة بالسويدة فارغة هادئة لا يقطع هدوءها سوى أصوات قذائف تطلقها مدعيات ثقيلة في مناطق مجاورة.
وعلى مقربة من الخربة احتشد مجموعة من الجنود الإسرائيليين على قمة صخرية مرتفعة تحيط بالمنطقة التي بنيت على أعلى قمم جبالها أحدى أهم نقاط مراقبة الحدود الأردنية الفلسطينية.
من على قمة تلة قريبة، يظهر كم هو خطر جدا الدخول إلى المنطقة التي أصبحت كلها في مرمى نيران المدفعية الإسرائيلية التي تدك يوميا هذه المحميات الطبيعية.
وهذه الحدود معروفة بالمحميات الطبيعية المحددة بلافتات تحيط بآلاف الدونمات التي تتخللها جبال وأودية وهضاب منظرها يخلب الألباب.
والمستوطنات الإسرائيلية لم تعد تسيطر فقط على المساحات المقام عليها الأبنية فهي عمليا توسعت حتى طالت آلاف الدونمات في البرية.
على ارض الواقع هناك عدد من المستوطنات ومعسكرات الجيش التي أقيمت في مناطق السفوح الشرقية تسيطر فعليا على أضعاف المساحات المقامة عليها أبنيتها.
وتدعم سلطة الطبيعية الإسرائيلية التوسع الاستيطاني الاسرائيلي بشكل غير مباشر ,عبر ما يسمى بالمحميات الطبيعية أو بشكل مباشر عبر الغرامات التي تفرضها على سكان هذه المناطق ما دفعهم للنزوح عنها.
وتاريخيا أول خطوة قامت بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي عبر سلطة المحميات الطبيعة بإعلان معظم مناطق فلسطين بأنها محميات طبيعية رسميا.
ومن ثم تم وضع اليد على هذه الأرض رويدا رويدا وبدأ ببناء بعض المواقع على أنها مناطق تدريب عسكرية ومن ثم تم تحويلها إلى مستعمرات بشرية كما تشير الوقائع على الأرض..
فقبل نحو شهرين شيد المستوطنون مبان جديدة في مستوطنات الأغوار كما يقول السكان.
وهذه أعمال لا تنتمي لمفاهيم حماية الطبيعة.
وقال رعاة كانوا يرعون مواشيهم على بعد عدة كيلومترات من هذه مسكيوت أن مجرد الاقتراب من حدود تلك المنطقة يعني الاقتراب من' حافة الموت'.
أشار الرعاة أن هذه المستوطنة أقيمت في الماضي على أنقاض احد أهم المضارب الرعوية في المنطقة هجرها ساكنوها إلى مناطق أخرى بسبب درويات 'الجيش والطبيعة.'
ويمكن ملاحظة الدوريات الخضراء التي تتحرك في مناطق السفوح لمطاردة السكان الفلسطينيين.
لكن لم يذكر في تاريخ الاحتلال مرة أن قامت هذه الدوريات بوقف إطلاق القذائف نحو هذه المناطق.
إنها سياسية خضراء، سوداء، لخدمة الجيش المحتل.
ذات يوم قبل، أسبوعين، قرر احد رعاة المنطقة ويدعى ذياب عبد العوض، أن يتجه بقطيع من الماشية يبلغ عدده 450 رأس من الضأن إلى تخوم منطقة السويدة. حمل الرجل أفكار الرعاة الجميلة:أن المرعى هناك خصب، لكنه تعرض لما لم يكن يفكر به.
لقد قبض عليه 'حماة الطبيعة'.
اخذ الرجل إلى معسكر قريب، ودفع غرامة مقدارها 1700 شيكل إسرائيلي، وفوق ذلك كله هو بانتظار محكمة عسكرية قريبا. قال الرجل' لقد أشهروا السلاح صوبي. يريدون منعنا من دخول المنطقة'.
يسكن الرجل في خربة سمرة المجاورة. من هناك يشاهد الرعاة والمارة والزوار كيف تطلق المدفعيات الإسرائيلية القذائف صوب المراعي.
في الصيف تحرق النيران التي تشتعل بفعل القذائف الأخضر واليابس وتأتي على مساحات واسعة ما يضع الرعاة أمام مأزق البحث عن مراع طبيعية أخذت مساحتها تتقلص بشكل كبير خلال السنوات الماضية.
'في السنوات الأخيرة قبل أن نترك المنطقة نهائيا كانوا الخوف من هذه القذائف يقتلنا'قال حمدان مشيرا إلى منطقة تقع بين قرية عين البيضا ونهر الأردن هدم فيها الجيش الإسرائيلي عشية حرب عام67 خرب كانت قائمة وسط أراض زراعية وهجر أهلها.
كان هذا الرجل خسر نجله الأكبر عندما انفجر لغم تحت قدميه في أواسط التسعينات من القرن الماضي، بينما كان يرعى قطيع صغير من المواشي في جبال منطقة وادي المالح.
إنه نمط من حياة تلاشت مع مر السنين.
الرعاة يتجمعون غالبا هنا في مناطق قريبة من مصادر المياه، لكنهم كانوا في هذه المنطقة بعيدين عن اقرب مصدر طبيعي للمياه، وقبل العام 67 كانوا ينزلون المنحدرات إلى نهر الأردن، وهناك ترتوي المواشي وتأكل نبات الحلفا.
للفلسطينيين حصة في هذا النهر لكنهم غائبون عن ضفافه منذ الأيام الأولى للنكسة، وهم غائبون عن خربة السويدة ومثلها من المضارب منذ سنوات.
لقد هجر جميع سكان الخربة مواقعهم بصمت في إطار سياسية إسرائيلية غير معلنة على الملأ، وجدت طريقها إلى التنفيذ بسهولة في غمرة التعقيدات الكثيرة التي شهدها الأرض الفلسطينية على مدار السنوات العشر الماضية.
إنها الآن خربة خالية الوصول إليها قد يكلف المرء روحه.
بالنسبة للرعاة فان مجرد التفكير للوصول إلى تلك المناطق أمر غير وارد في الحسبان غالبا.وبالنسبة للحكومة الفلسطينية التي فتحت جبهة جديدة للتنمية في الأغوار، فان كل الأرض الفلسطينية هدف للتنمية.
هكذا قال رئيسها سلام فياض وكرر أكثر من مرة، في كل موقع يزوره تقريبا. فهو نفسه في أخر زيارة قام بها إلى المنطقة ذهب إلى ابعد ما ذهب إليه مسؤول فلسطيني، عندما وضع نواة لمدرسة في مضرب رعوي صغير لا يبعد كثيرا عن خربة السويدة.
كانت السويدة مثلها مثل أي مضرب مؤلفة من بعض بيوت الشعر والخيش.يقول الرعاة إنهم عاشوا حياة هانئة فيها.
فالخربة التي تتوسط مجموعة من الجبال والهضاب التي تشكل فاصل طبيعي بين الضفتين الشرقية والغربية كانت تعني الكثير بالنسبة لرعاة الماشية في الغور الشمالي، لكنها الآن لم تعد تحمل أكثر من اسمها بعدما سكتت أصوات أجراس 'المراييع' -ذكور ضأن تقود قطعان الماشية- التي تصدح ويسمع صوتها يتردد مصدرا نغمات يطرب بها قائد القطيع بقية الماشية.
في الطريق إلى السويدة التي غير المعروف من أين جاء اسمها ليس هناك اثر للحياة.من على بعد يمكن مشاهدة زوال لبعض قطعان الماشية المتناثرة في السفوح.
قال رعاة على بعد عدة كيلومترات من تلك السفوح إنه من الصعوبة بمكان الوصول إلى تلك الشعاب والأودية حيث توجد المراعي الخصبة.
كانت السويدة التي تغطي جبالها وهضابها الصخور الصلدم وتنبت فيها شجيرات الرتم العطرية ذات يوم تضج بحركة سكان المضارب الرعوية الذين سكنوها منذ عشرات السنين وتعاقب عليها أكثر من جيل.
كانت هيعات الرعاة وصياحهم علامة من علامات الحياة هنا.
لكن سنة بعد سنة أخذت هذه العائلات التي تنحدر في أصولها من مناطق الشفا ( طوباس وطمون وبعض القادمين من جنوب الخليل) وتمتهن رعي المواشي تغادر المنطقة الواقعة فوق سلسلة السفوح الشرقية تحت وطأة الخوف من التهديدات الإسرائيلية المتمثلة في تسمية المنطقة منطقة محرمة.
قال الرعاة وهم يسخرون 'لا يسكن هناك إلا الشياطين. هناك تزعق الغربان فوق الخراب'.
على الأرض تظهر كثيرا من المواقع، شكلت على مدار السنوات الماضية مناطق سكن لرعاة المنطقة،وقد اختفت تماما عن خارطة المنطقة.
تظهر بقايا حجار كانت ذات توضع حول بيوت الخيش التي سكنها الرعاة.وتظهر قطع حديدية تشي بتلك الحياة. كان الرعاة يضعون فيها ماء ترد إليها المواشي من المراعي البعيدة.
والسكان الذين رحلوا عن مناطق سكنهم في هذه الخرب رحلوا إلى مناطق زراعية تتوفر فيها حياة بخوف اقل.بيد أن بعضهم رفض أن يبرح مكان سكنة مثلما حصل في خربتي حمصة والحديدية اللتان هدمهما الجيش الإسرائيلي هذا العام مرتين متتاليتين.
وجبال محرمة تفصل بين الخربتين وخربة السويدة.
وعلى سفوحها تظهر بعض قطعان الماشية ورعاة يقودونها بعيدا عن معسرات الجيش التي تنتشر في المنقطة.
قال راعي يدعى حمد انه لا يستطيع قطع ذلك الجبل التي تبدو في أعلاه شبكات رادارات ومراقبة يستخدمها الجيش الإسرائيلي للسيطرة على المنطقة.
قبل أسابيع عندما حاول احد الرعاة يقود قطيعه هناك، قطع الطريق القريبة من تلك الشبكات اعتقله الجنود وأخذوه إلى مركز للجيش ولم يفرج عنه إلا بعد دفع غرامة.
الرعاة هنا يرفضون التصريح بأسمائهم.
إنهم يخافون من عاقبة ذلك.
منذ أن اجتاحت القوات الإسرائيلية أراضي الضفة الغربية العام 1967، أعلن عن غالبية أراضي الغور على أنها أراض تابعة للدولة، وجرى ضمها إلى مناطق النفوذ التابعة للمجالس الإقليمية الاستيطانية 'عرفات هيردين' و'مجيلوت' التي حولت المنطقة إلى كتلة زراعية واحدة تدعم ما يطلق عليه سياسية الاستيطان الزراعي الذي ازدادت وتيرة تعزيزه خلال السنوات الماضية بصورة ملحوظة.
وعلى الجانب الآخر استغلت السلطات الإسرائيلية أنظمة حماية الطبيعة لتحول المناطق الجبلية إلى مناطق فارغة من سكانها الفلسطينيين بدعوى حماية التنوع الحيوي مثلما هو الحال في خربة السويدة والمناطق المحيطة بها.
وأقامت إسرائيل في منطقة الغور قرابة الثلاثين مستوطنة يسكنها زهاء 45 ألف مستوطن، ربما أكثر من ذلك، فيما تراجع عدد السكان الفلسطينيين تحت ضغوط شظف الحياة بكل ما فيها من قسوة.
في المقابل أخليت كل المناطق التي تحاذي ضفاف نهر الأردن من سكانها الفلسطينيين على رؤوس الأشهاد منذ الأيام الأولى لاحتلال الضفة الغربية. لكن سكان خربة السويدة وغيرها هجروا مناطق سكناهم بلا جلبة أو ضجيج.
عدد عارف دراغمة، وهو مسؤول محلي في المنطقة أسماء كثير من الخرب هجرها سكانها منذ العام 1967.
من على بعد تبدو المنطقة التي تتخللها معسكرات الجيش الاسرائيلي خالية من جنس البشر مثلما لا يسمع في الخربة إلا نعيق الغربان التي تزيد وحشة الخلاء هنا.
على أول طريق صخري صاعد بين شقوق صخرية في منطقة أبو الفيران يؤدي إلى الخربة التي تشي حجارتها الضخمة ببقايا حضارة دفنت منذ آلاف السنين وضعت سلطة الطبيعية الإسرائيلية لافتة خضراء تحدد فيها حدود أحدى اكبر المحميات الطبيعية الواسعة يحظر بموجبها على السكان الفلسطينيين التواجد تحت طائلة المسؤولية.
لكن ليس هذا السبب الوحيد الذي دفع عائلة رافع دراغمة إلى الهجرة من المنطقة.
'لا يمكن أن تسكن وحدك في منطقة مقفرة لا يسمع فيها صوت بشر' قال الرجل الذي كانت عائلته ذات يوم تملك قطيع من الأبقار تخلصت منه شيئا فشيئا حتى وجدت نفسها في نهاية المطاف تعمل في مهنة جديدة في قطاع الزراعة المروية.
وخربة السويدة في الأساس عدت منطقة سكنية ضمن حضارة غابرة يعتقد أنها تعود للعصر الروماني.
والبعض يقول إنها قد تعود للعهد الكنعاني. لقد تعرضت أثار الخربة للسطو والسرقة على مدار السنوات.لقد نبش سارقو الآثار قبورا تعود لآلاف السنين.
مثل عائلة رافع الرعوية التي ذهب أبناؤها للعمل في مهن شتى يتحدث سكان المضارب الذين انتقلوا إلى مناطق أخرى للسكان عن أن هناك العديد من العائلات التي عزفت عن مهنة الرعي، أو انتقلت بمواشيها إلى مناطق ثانية أكثر أمنا.
ومنذ العام 1967 أغلقت الكثير من مناطق الغور أمام السكان الفلسطينيين لكنها فتحت على عرضها للمستوطنين الذين ربطوا المنطقة على طولها بشبكة من المستوطنات الزراعية.
تكفي اللافتات الخضراء لأن تكون إشارة تحذيرية تحرم دخول المنطقة على الفلسطينيين، لكنها في الوقت ذاتها علامة واضحة لليهود الباحثين عن قضاء يوم طويل في تأمل المناظر الطبيعية التي تخلب الألباب في فصل الربيع الذي لم يدم طويلا هذا العام بسبب هجوم الصيف المبكر.
'مجرد الدخول إلى المنطقة ستدفع ثمنا باهظا'، قال رافع الذي سرد ذكريات عائلته الممتدة، وعاشت في المنطقة بهدوء قرابة نصف قرن ترعى المواشي وتستفيد من حليبها.
يردد الأمر ذاته معظم الرعاة الذين يحلمون بمراع خصبة.
عمل رافع وإخوته وأبناء عمومته بالرعي. وقضوا أكثر من نصف عمرهم يجوبون الجبال وراء قطعان المواشي.لقد عبدوا مهنتهم عبادة.
وتختفي ابتسامة الرجل عندما يتحدث عن السنوات الماضية، حيث كان الجميع يعيش في هدأة بال.
'مصلحتهم أن يطردوا كل سكان الغور' قال الرجل الذي يسكن الآن على بعد أكثر من عشرين كيلو مترا في قرية عين البيضا ممعنا في الأفق من ناحية الشرق حيث تقع الأغوار الأردنية العامرة بقراها.
وإسرائيل التي تسيطر على مساحات واسعة من منطقة السفوح الشرقية للضفة الغربية تحت مسمى 'محميات طبيعية' ومناطق 'عسكرية مغلقة' تنتهك بشكل يومي الأنظمة التي تتعلق بهذين المسميين كما تقول منظمات تراقب ما يجري هناك.
من ناحية عملية ما ترمي إليه السلطات الإسرائيلية ابعد من ذلك كما يقول سكان المنطقة. يؤكد الأمر سياسيون فلسطينيون.
ودائما علق مسؤولون فلسطينيون أن الحكومات الإسرائيلية سعت على مدار سنين الاحتلال لتفريغ المنطقة من سكانها.ولم تخف قيادات إسرائيلية في الصفوف السياسية الأولى نوايا الدولة العبرية في الاحتفاظ بكتلة غور الأردن ضمن أي حل مستقبلي مع الفلسطينيين.
ويرفض الفلسطينيون ذلك ويقولون لا دولة بدون الغور، ولا حدود شرقية للدولة إلا مع الأردن.
بيد أن السلطات الإسرائيلية سعت منذ الأيام الأولى لاحتلال الضفة الغربية إلى تدمير عدد من القرى الصغيرة المحاذية لنهر الأردن توطئة للسيطرة عليها.فيما عمدت خلال السنوات الثماني الأخيرة إلى تفريغ منطقة السفوح دون الحاجة إلى بلدوزراتها لتلك الغاية مكتفية بانتهاج سياسية العزل والإغلاق والتخويف.
وأخيرا 'لعبة الحفاظ على الطبيعة'.
فهي تدمر المحميات الطبيعية من خلال مناوراتها المتسمرة على مدار السنة في المنطقة من جهة، وتهيئ أجواء مريحة للمستوطنين لمواصلة البناء في المستوطنات الواقعة ضمن المناطق المغلقة مثلما هو الحال في مستوطنة مسكيوت التي يستمر البناء فيها على قدم وساق.
من على بعد تبدو المناطق المحيطة بالسويدة فارغة هادئة لا يقطع هدوءها سوى أصوات قذائف تطلقها مدعيات ثقيلة في مناطق مجاورة.
وعلى مقربة من الخربة احتشد مجموعة من الجنود الإسرائيليين على قمة صخرية مرتفعة تحيط بالمنطقة التي بنيت على أعلى قمم جبالها أحدى أهم نقاط مراقبة الحدود الأردنية الفلسطينية.
من على قمة تلة قريبة، يظهر كم هو خطر جدا الدخول إلى المنطقة التي أصبحت كلها في مرمى نيران المدفعية الإسرائيلية التي تدك يوميا هذه المحميات الطبيعية.
وهذه الحدود معروفة بالمحميات الطبيعية المحددة بلافتات تحيط بآلاف الدونمات التي تتخللها جبال وأودية وهضاب منظرها يخلب الألباب.
والمستوطنات الإسرائيلية لم تعد تسيطر فقط على المساحات المقام عليها الأبنية فهي عمليا توسعت حتى طالت آلاف الدونمات في البرية.
على ارض الواقع هناك عدد من المستوطنات ومعسكرات الجيش التي أقيمت في مناطق السفوح الشرقية تسيطر فعليا على أضعاف المساحات المقامة عليها أبنيتها.
وتدعم سلطة الطبيعية الإسرائيلية التوسع الاستيطاني الاسرائيلي بشكل غير مباشر ,عبر ما يسمى بالمحميات الطبيعية أو بشكل مباشر عبر الغرامات التي تفرضها على سكان هذه المناطق ما دفعهم للنزوح عنها.
وتاريخيا أول خطوة قامت بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي عبر سلطة المحميات الطبيعة بإعلان معظم مناطق فلسطين بأنها محميات طبيعية رسميا.
ومن ثم تم وضع اليد على هذه الأرض رويدا رويدا وبدأ ببناء بعض المواقع على أنها مناطق تدريب عسكرية ومن ثم تم تحويلها إلى مستعمرات بشرية كما تشير الوقائع على الأرض..
فقبل نحو شهرين شيد المستوطنون مبان جديدة في مستوطنات الأغوار كما يقول السكان.
وهذه أعمال لا تنتمي لمفاهيم حماية الطبيعة.
وقال رعاة كانوا يرعون مواشيهم على بعد عدة كيلومترات من هذه مسكيوت أن مجرد الاقتراب من حدود تلك المنطقة يعني الاقتراب من' حافة الموت'.
أشار الرعاة أن هذه المستوطنة أقيمت في الماضي على أنقاض احد أهم المضارب الرعوية في المنطقة هجرها ساكنوها إلى مناطق أخرى بسبب درويات 'الجيش والطبيعة.'
ويمكن ملاحظة الدوريات الخضراء التي تتحرك في مناطق السفوح لمطاردة السكان الفلسطينيين.
لكن لم يذكر في تاريخ الاحتلال مرة أن قامت هذه الدوريات بوقف إطلاق القذائف نحو هذه المناطق.
إنها سياسية خضراء، سوداء، لخدمة الجيش المحتل.
ذات يوم قبل، أسبوعين، قرر احد رعاة المنطقة ويدعى ذياب عبد العوض، أن يتجه بقطيع من الماشية يبلغ عدده 450 رأس من الضأن إلى تخوم منطقة السويدة. حمل الرجل أفكار الرعاة الجميلة:أن المرعى هناك خصب، لكنه تعرض لما لم يكن يفكر به.
لقد قبض عليه 'حماة الطبيعة'.
اخذ الرجل إلى معسكر قريب، ودفع غرامة مقدارها 1700 شيكل إسرائيلي، وفوق ذلك كله هو بانتظار محكمة عسكرية قريبا. قال الرجل' لقد أشهروا السلاح صوبي. يريدون منعنا من دخول المنطقة'.
يسكن الرجل في خربة سمرة المجاورة. من هناك يشاهد الرعاة والمارة والزوار كيف تطلق المدفعيات الإسرائيلية القذائف صوب المراعي.
في الصيف تحرق النيران التي تشتعل بفعل القذائف الأخضر واليابس وتأتي على مساحات واسعة ما يضع الرعاة أمام مأزق البحث عن مراع طبيعية أخذت مساحتها تتقلص بشكل كبير خلال السنوات الماضية.
'في السنوات الأخيرة قبل أن نترك المنطقة نهائيا كانوا الخوف من هذه القذائف يقتلنا'قال حمدان مشيرا إلى منطقة تقع بين قرية عين البيضا ونهر الأردن هدم فيها الجيش الإسرائيلي عشية حرب عام67 خرب كانت قائمة وسط أراض زراعية وهجر أهلها.
كان هذا الرجل خسر نجله الأكبر عندما انفجر لغم تحت قدميه في أواسط التسعينات من القرن الماضي، بينما كان يرعى قطيع صغير من المواشي في جبال منطقة وادي المالح.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر