«ماشيح» كلمة عبرية تعني «المسيح المخلص», ومنها «مشيحيوت» أي «المشيحانية» وهي الاعتقاد بمجيء الماشيح, والكلمة مشتقة من الكلمة العربية «مشح» أي «مسح» بالزيت المقدس. وكان اليهود, على عادة الشعوب القديمة, يمسحون رأس الملك والكاهن بالزيت قبل تنصيبهما, علامة على المكانة الخاصة الجديدة وعلامة على أن الروح الإلهية أصبحت تحل وتسري فيهما. وكما يحدث دائما مع الدول في الإطار اليهودي الحلولي, نجد أن المجال الدلالي لكلمة «ماشيح» يتسع تدريجيا إلى أن يضم عددا كبيرا من المدلولات تتعايش كلها جنبا إلى جنب داخل التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي. فكلمة «الماشيح» تشير إلى كل ملوك اليهود وأنبيائهم, بل كانت تشير أيضا إلى قورش ملك الفرس, أو إلى أي فرد يقوم بتنفيذ مهمة خاصة يوكلها الإله إليه. كما أن هناك في المزامير إشارات متعددة إلى الشعب اليهودي على أنه شعب من المشحاء.
وهناك أيضا المعنى المحدد الذي اكتسبته الكلمة في نهاية الأمر إذ أصبحت تشير إلى شخص مرسل من الإله يتمتع بقداسة خاصة, إنسان سماوي وكائن معجز خلقه الإله قبل الدهور يبقى في السماء حتى تحين ساعة إرساله. وهو يسمى «ابن الإنسان» لأنه سيظهر في صورة الإنسان وإن كانت طبيعته تجمع بين الإله والإنسان, فهو تجسد الإله في التاريخ, وهو نقطة الحلول الإلهي المكثف الكامل في إنسان فرد. وهو ملك من نسل داود, سيأتي بعد ظهور النبي إليا ليعدل مسار التاريخ اليهودي, بل البشري, فينهي عذاب اليهود ويأتيهم بالخلاص ويجمع شتات المنفيين ويعود بهم إلى صهيون ويحطم أعداء جماعة يسرائيل, ويتخذ أورشليم (القدس) عاصمة له, ويعيد بناء الهيكل, ويحكم بالشريعتين المكتوبة والشفوي ويعيد كل مؤسسات اليهود القديمة مثل السنهدرين, ثم يبدأ الفردوس الأرضي الذي سيدوم ألف عام, ومن هنا كانت تسمية «الأحلام الألفية» و«العقيدة الاسترجاعية».
ولأن إله اليهود لا يحل في التاريخ فحسب, وإنما يحل في الطبيعة أيضا, فإننا نجد أن العصر الذهبي (أو العصر المشيحاني) يشمل التاريخ والطبيعة معا. فعلى مستوى التاريخ, نجد أن السلام حسب إحدى الروايات ـ سيعمم العالم, وأن الفقر سيزول, وستحول الشعوب أدوات خرابها إلى أدوات بناء, ويصبح الناس كلهم أحباء متمسكين بالفضيلة, ولكن صهيون ستكون بطبيعة الحال مركز هذه العدالة الشاملة, كما ستقوم كل الأمم على خدمة الماشيح. وفي رواية أخرى, ستسود صهيون الجميع وستحطم أعداءها. أما على مستوى الطبيعة, فإننا نجد أن الأرض ستخصب وتطرح فطيرا, وملابس من الصوف, وقمحا حجم الحبة منه كحجم الثور الكبير, ويصير الخمر موفورا.
والفكر المشيحاني فكر حلولي متطرف يعبر عن فشل الإنسان في تقبل الحدود,وعن ضيقه بالفكر التوحيدي الخاص بفكرة الإله المتجاوز للطبيعة والمادة والتاريخ, وعن ضيقه بفكرة حدود الإرادة الإنسانية والعقل البشري, وبالتاريخ باعتباره المجال الذي تركه الإله للإنسان ليمارس حريته (فكأنه ضيق طفولي بالوضع الإنساني).
يضيق الإنسان بكل هذا ويتخيل تمحترم الحدود ليحل الإله في التاريخ والطبيعة والإنسان وينهي كل المشاكل دفعة واحدة إما بتدخله الفجائي والمباشر في التاريخ أو بإرساله المخلص (كريستوس) في المنظومة الغنوصية لينجز المهمة (وتظهر هذه الفجائية في أسفار الرؤى على عكس كتب الأنبياء الذين يرون التاريخ مجالا للفعل الإنساني الحر والرقي التدريجي).
وقد أضعفت عقيدة الماشيح انتماء أعضاء الجماعات (وخصوصا في الغرب) لمجتمعاتهم, وزادت انفصالهم عن الأغيار, ذلك أن انتظار الماشيح يلغي الإحساس بالانتماء الاجتماعي والتاريخي, ويلغي فكرة السعادة الفردية. أما الرغبة في العودة, فتلغي إحساس اليهودي بالمكان وبالإنتماء الجغرافي.
ويبدو أن اضطلاع أعضاء الجماعات اليهودية بدور الجماعة الوظيفية واشتغالهم بالتجارة الدولية في الغرب, كعنصر تجاري غريب لا ينتمي إلى المجتمع, هو الذي عمق أحاسيسهم المشيحانية, فالتاجر لا وطن له, ولا تحد وجدانه أو تصوراته أية قيود أو حدود, على عكس الفلاح الذي لا يجيد التعامل إلا مع قطعة معينة من الأرض. ومما له دلالته أن الحركات المشيحانية ارتبطت دائما بالتصوف الحلولي وتراث القبالاه الذي ينطلق من رؤية كونية تلغي الفوارق والحدود التاريخية بين الأشياء.
وأصل عقيدة الماشيح المخلص فارس بابلية, فالديانة الفارسية ديانة حلولية ثنوية تدور حول صراع الخير والشر (إله النور وإله الظلام) صراعا طويلا ينتهي بانتصار الخير والنور. وقد بدأت هذه العقيدة تظهر أثناء التهجير البابلي, ولكنها تدعمت حينما رفض الفرس إعادة الأسرة الحاكمة اليهودية إلى يهودا. وقد ضربت هذه العقيدة جذورا راسخة في الوجدان اليهودي, حتى أنه حينما اعتلى الحشمونيون العرش, كان ذلك مشروطا بتعهدهم بالتنازل عنه فور وصول الماشيح.
وقد أخذت عقيدة الماشيح في البداية صورة دنيوية تعبر عن درجة خافتة للغاية من الحلول الإلهي ولكنها أصبحت بعد ذلك تعبيرا عن حلول إلهي كامل في المادة والتاريخ. وحسب هذه الصورة, فإن الماشيح محارب عظيم ( أو هو الرجل الممتطي صهوة جواده) الذي سيعيد ملك اليهود ويهزم أعداءهم (أشعياء 9/9 ـ 7). وتزايدت درجة الحلول, ومن ثم ازدادت القداسة, فيظهر الماشيح بن داود على أنه ابن الإنسان أو ابن الإله (دانيال 7/13). ولما لم تتحقق الآمال المشيحانية, ظهرت صورة أخرى مكملة للأولى, وهي صورة الماشيح ابن يوسف الذي سيعاني كثيرا, وسيخر صريعا في المعركة, وستحل الظلمة والعذاب في الأرض (وهذه هي الفكرة التي أثرت في فكرة المسيح عند المسيحيين).
ولكن, سيصل بعد ذلك الماشيح العجائبي الخارق من نسل داود, والذي سيأتي بالخلاص. ويفسر الحاخامات تأخر وصول الماشيح بأنه ناتج عن الذنوب التي يرتكبها الشعب اليهودي, ولذا فإن عودته مرهونة بتوبتهم.
وصورة المسيح في الفكر الديني المسيحي متأثرة بكل هذه التراكمات, فهو أيضا مرسل من الإله, وهو ابن الإنسان وابن الإله, وهو يتعذب كثيرا بل يصلب ثم يقوم وسيحرز أتباعه النصر. ولعل الفارق الأساسي بين الرؤية المشيحانية في اليهودية والرؤية المشيحانية في المسيحية هو أن المسيحية جعلت الحلول الإلهي في شخص بعينه (عيسى ابن مريم) وهو حلول مؤقت ونهائي وغير قابل للتكرار, على عكس الفكرة المشيحانية في اليهودية, كما أن الخلاص في الفكر المسيحي غير مرتبط بمصير أمة بعيها وإنما هو ذو أبعاد عالمية, فباب الهداية مفتوح للجميع.
والنزعة المشيحانية يمكن أن تأخذ أشكالا مختلفة, فهي باعتبارها تعبير عن الحلولية اليهودية (أي حلول الإله في مخلوقاته وتوحده معهم) تكتسب بعدا ماديا قوميا شوفينيا متطرفا (إذ كانت حلولية ثنائية صلبة), حيث إن وصول الماشيح يعني عودة الشعب المختار إلى صهيون, أو وصوله إلى أورشليم التي سيحكم منها الماشيح, قائد الشعب اليهودي, بل قائد شعوب الأرض قاطبة, فهنا هو خلاص اليهود من أعدائهم شر انتقام, ويشغلون مكانتهم التي يستحقونها كشعب مقدس. ولكن ثمة صورة أخرى عالمية وغير قومية للعصر المشيحاني (تعبير عن الحلولية الكونية الشاملة السائلة), فهو حسب هذه الرؤية عصر يسود فيه السلام والوئام بين الأمم. وإذا كان الشعب اليهودي ذا مكانة خاصة, فإن هذا لا يستبعد الشعوب الأخرى من عملية الخلاص. وإذا كانت الرؤية الأولى تؤكد الفوارق الصلبة الصارمة بين اليهود والأغيار, فالرؤية الثانية تلغي الفوراق تماما بحيث تنتج عن ذلك حالة سيولة كونية محيطية (تشبه حالة الطفل في الرحم قبل الولادة), ينتج عنها إسقاط الحدود تماما وذوبان اليهود في بقية الشعوب.
ويمكن أن تأخذ المشيحانية طابعا ترخيصيا مارانيا (نسبة إلى يهود المارانو المتخفين) كما هي الحال مع الشبتانية (نسبة إلى شبتاي تسفي), وكذلك الدونمه والفرانكيه, فالماشيح وأتباعه كانوا يخرقون الشريعة ويسقطونها ويتمتعون بالحرية الناجمة عن ذلك ويمارسون الإحساس بما تبقى من هوية يهودية في الخفاء, ومن خلال أشكال أبعد ما تكون عن اليهودية. ولعل هذا يعود إلى أن اللحظة المشيحانية هي لحظة حلول الإله تماما في الإنسان (الماشيح), فهي لحظة وحدة وجود ومن ثم لحظة شحوب كامل أو حتى موت للإله إذ يتحول إلى مادة بشرية. وإذا حدث ذلك, فإن شرائعه التي أرسل بها باعتباره الإله تموت وتسقط. وقد ارتبط المشيحانية بالتعبير الفجائي وبمظاهر العنف الذي قد يأخذ شكل البعث العسكري أحيانا, كما هو الحال مع كل من أبي عيسى الأصفهاني, وداود الرائي, وديفيد رؤوبيني, ويعقوب فرانك (والصهيونية في نهاية الأمر).
وثمة محاولة داخل اليهود الحاخامية لتهدئة التطلعات المشيحانية المتفجرة, فركزت على الجانب الإلهي لعودة الماشيح, وعلى الماشيح من حيث هو أداة الإله في الخلاص. وبناء على ذلك, أصبح من الواجب على اليهود انتظار عودة الماشيح في صبر وأناة. ويصبح من الكفر أن يحاول فرد أو جماعة التعجيل بالنهاية (دحكيات هاكتس). وقد نجحت المؤسسة الحاخامية في ذلك إلى حد كبير, إلى أن انتشر يهود المارانو في أوربا, وبعض أجزاء الدولة
العثمانية (وخصوصا البلقان). وقد كانت النزعة المشيحانية بينهم عميقة متجذرة, وانتشرت القبالاه اللوريانية بين أعضاء الجماعات بما تتضمنه من رؤى مشيحانية, وأصبح اليهودي مركز الكون. وأصبحت صلاته, وقيامه بأداء الأوامر والنواهي (متسفوت) بمنزلة مساهمة نشيطة فعالة من جانبه للتعجيل بمجيء الماشيح. وقد خلق هذا تربة خصبة لشبتاي تسفي والشتبانية. ومن المعروف أن المؤسسة الحاخامية بذلت قصارى جهدها عبر تاريخها للوقوف ضد كل هذه النزعات, ولكن أزمة اليهود واليهودية كانت قد وصلت إلى منتهاها.
وقد ظهر بين أعضاء الجماعة اليهودية عدد من المشحاء الدجالين, نذكر من بينهم كلا من: بركوخبا, وأبى عيسى الأصفهاني, وبودغان, وداود الرائي. أما في العصر الحديث في الغرب, فيمكن أن نذكر منهم: ديفيد رؤوبيني وشبتاي تسفي وجوزيف فرانك.
ويلاحظ أن النزعة المشيحانية في العصر الحديث, رغم جذورها السفاردية, قد انتشرت في شرق أوربا وفي الأجزاء الأوروبية من الدول العثمانية. وبعد البدايات السفاردية, أصبحت المشيحانية مقصورة على الأقليات الإشكنازية. فالفرانكية, والحسيدية, وأخيرا الصهيونية, هي حركات إشكنازية بالدرجة الأولى. ولعل هذا يعود إلى وجود الإشكناز في تربة مسيحية, فالمسيحية تركز الحلول الإلهي في شخص واحد هو المسيح عيسى بن مريم, وهو ما تقوم به أيضا الحركات المشيحانية إذ أنها تنقل الحلول الإلهي من الشعب اليهودي إلى شخص الماشيح الذي سيأتي بالخلاص.
وهناك أيضا المعنى المحدد الذي اكتسبته الكلمة في نهاية الأمر إذ أصبحت تشير إلى شخص مرسل من الإله يتمتع بقداسة خاصة, إنسان سماوي وكائن معجز خلقه الإله قبل الدهور يبقى في السماء حتى تحين ساعة إرساله. وهو يسمى «ابن الإنسان» لأنه سيظهر في صورة الإنسان وإن كانت طبيعته تجمع بين الإله والإنسان, فهو تجسد الإله في التاريخ, وهو نقطة الحلول الإلهي المكثف الكامل في إنسان فرد. وهو ملك من نسل داود, سيأتي بعد ظهور النبي إليا ليعدل مسار التاريخ اليهودي, بل البشري, فينهي عذاب اليهود ويأتيهم بالخلاص ويجمع شتات المنفيين ويعود بهم إلى صهيون ويحطم أعداء جماعة يسرائيل, ويتخذ أورشليم (القدس) عاصمة له, ويعيد بناء الهيكل, ويحكم بالشريعتين المكتوبة والشفوي ويعيد كل مؤسسات اليهود القديمة مثل السنهدرين, ثم يبدأ الفردوس الأرضي الذي سيدوم ألف عام, ومن هنا كانت تسمية «الأحلام الألفية» و«العقيدة الاسترجاعية».
ولأن إله اليهود لا يحل في التاريخ فحسب, وإنما يحل في الطبيعة أيضا, فإننا نجد أن العصر الذهبي (أو العصر المشيحاني) يشمل التاريخ والطبيعة معا. فعلى مستوى التاريخ, نجد أن السلام حسب إحدى الروايات ـ سيعمم العالم, وأن الفقر سيزول, وستحول الشعوب أدوات خرابها إلى أدوات بناء, ويصبح الناس كلهم أحباء متمسكين بالفضيلة, ولكن صهيون ستكون بطبيعة الحال مركز هذه العدالة الشاملة, كما ستقوم كل الأمم على خدمة الماشيح. وفي رواية أخرى, ستسود صهيون الجميع وستحطم أعداءها. أما على مستوى الطبيعة, فإننا نجد أن الأرض ستخصب وتطرح فطيرا, وملابس من الصوف, وقمحا حجم الحبة منه كحجم الثور الكبير, ويصير الخمر موفورا.
والفكر المشيحاني فكر حلولي متطرف يعبر عن فشل الإنسان في تقبل الحدود,وعن ضيقه بالفكر التوحيدي الخاص بفكرة الإله المتجاوز للطبيعة والمادة والتاريخ, وعن ضيقه بفكرة حدود الإرادة الإنسانية والعقل البشري, وبالتاريخ باعتباره المجال الذي تركه الإله للإنسان ليمارس حريته (فكأنه ضيق طفولي بالوضع الإنساني).
يضيق الإنسان بكل هذا ويتخيل تمحترم الحدود ليحل الإله في التاريخ والطبيعة والإنسان وينهي كل المشاكل دفعة واحدة إما بتدخله الفجائي والمباشر في التاريخ أو بإرساله المخلص (كريستوس) في المنظومة الغنوصية لينجز المهمة (وتظهر هذه الفجائية في أسفار الرؤى على عكس كتب الأنبياء الذين يرون التاريخ مجالا للفعل الإنساني الحر والرقي التدريجي).
وقد أضعفت عقيدة الماشيح انتماء أعضاء الجماعات (وخصوصا في الغرب) لمجتمعاتهم, وزادت انفصالهم عن الأغيار, ذلك أن انتظار الماشيح يلغي الإحساس بالانتماء الاجتماعي والتاريخي, ويلغي فكرة السعادة الفردية. أما الرغبة في العودة, فتلغي إحساس اليهودي بالمكان وبالإنتماء الجغرافي.
ويبدو أن اضطلاع أعضاء الجماعات اليهودية بدور الجماعة الوظيفية واشتغالهم بالتجارة الدولية في الغرب, كعنصر تجاري غريب لا ينتمي إلى المجتمع, هو الذي عمق أحاسيسهم المشيحانية, فالتاجر لا وطن له, ولا تحد وجدانه أو تصوراته أية قيود أو حدود, على عكس الفلاح الذي لا يجيد التعامل إلا مع قطعة معينة من الأرض. ومما له دلالته أن الحركات المشيحانية ارتبطت دائما بالتصوف الحلولي وتراث القبالاه الذي ينطلق من رؤية كونية تلغي الفوارق والحدود التاريخية بين الأشياء.
وأصل عقيدة الماشيح المخلص فارس بابلية, فالديانة الفارسية ديانة حلولية ثنوية تدور حول صراع الخير والشر (إله النور وإله الظلام) صراعا طويلا ينتهي بانتصار الخير والنور. وقد بدأت هذه العقيدة تظهر أثناء التهجير البابلي, ولكنها تدعمت حينما رفض الفرس إعادة الأسرة الحاكمة اليهودية إلى يهودا. وقد ضربت هذه العقيدة جذورا راسخة في الوجدان اليهودي, حتى أنه حينما اعتلى الحشمونيون العرش, كان ذلك مشروطا بتعهدهم بالتنازل عنه فور وصول الماشيح.
وقد أخذت عقيدة الماشيح في البداية صورة دنيوية تعبر عن درجة خافتة للغاية من الحلول الإلهي ولكنها أصبحت بعد ذلك تعبيرا عن حلول إلهي كامل في المادة والتاريخ. وحسب هذه الصورة, فإن الماشيح محارب عظيم ( أو هو الرجل الممتطي صهوة جواده) الذي سيعيد ملك اليهود ويهزم أعداءهم (أشعياء 9/9 ـ 7). وتزايدت درجة الحلول, ومن ثم ازدادت القداسة, فيظهر الماشيح بن داود على أنه ابن الإنسان أو ابن الإله (دانيال 7/13). ولما لم تتحقق الآمال المشيحانية, ظهرت صورة أخرى مكملة للأولى, وهي صورة الماشيح ابن يوسف الذي سيعاني كثيرا, وسيخر صريعا في المعركة, وستحل الظلمة والعذاب في الأرض (وهذه هي الفكرة التي أثرت في فكرة المسيح عند المسيحيين).
ولكن, سيصل بعد ذلك الماشيح العجائبي الخارق من نسل داود, والذي سيأتي بالخلاص. ويفسر الحاخامات تأخر وصول الماشيح بأنه ناتج عن الذنوب التي يرتكبها الشعب اليهودي, ولذا فإن عودته مرهونة بتوبتهم.
وصورة المسيح في الفكر الديني المسيحي متأثرة بكل هذه التراكمات, فهو أيضا مرسل من الإله, وهو ابن الإنسان وابن الإله, وهو يتعذب كثيرا بل يصلب ثم يقوم وسيحرز أتباعه النصر. ولعل الفارق الأساسي بين الرؤية المشيحانية في اليهودية والرؤية المشيحانية في المسيحية هو أن المسيحية جعلت الحلول الإلهي في شخص بعينه (عيسى ابن مريم) وهو حلول مؤقت ونهائي وغير قابل للتكرار, على عكس الفكرة المشيحانية في اليهودية, كما أن الخلاص في الفكر المسيحي غير مرتبط بمصير أمة بعيها وإنما هو ذو أبعاد عالمية, فباب الهداية مفتوح للجميع.
والنزعة المشيحانية يمكن أن تأخذ أشكالا مختلفة, فهي باعتبارها تعبير عن الحلولية اليهودية (أي حلول الإله في مخلوقاته وتوحده معهم) تكتسب بعدا ماديا قوميا شوفينيا متطرفا (إذ كانت حلولية ثنائية صلبة), حيث إن وصول الماشيح يعني عودة الشعب المختار إلى صهيون, أو وصوله إلى أورشليم التي سيحكم منها الماشيح, قائد الشعب اليهودي, بل قائد شعوب الأرض قاطبة, فهنا هو خلاص اليهود من أعدائهم شر انتقام, ويشغلون مكانتهم التي يستحقونها كشعب مقدس. ولكن ثمة صورة أخرى عالمية وغير قومية للعصر المشيحاني (تعبير عن الحلولية الكونية الشاملة السائلة), فهو حسب هذه الرؤية عصر يسود فيه السلام والوئام بين الأمم. وإذا كان الشعب اليهودي ذا مكانة خاصة, فإن هذا لا يستبعد الشعوب الأخرى من عملية الخلاص. وإذا كانت الرؤية الأولى تؤكد الفوارق الصلبة الصارمة بين اليهود والأغيار, فالرؤية الثانية تلغي الفوراق تماما بحيث تنتج عن ذلك حالة سيولة كونية محيطية (تشبه حالة الطفل في الرحم قبل الولادة), ينتج عنها إسقاط الحدود تماما وذوبان اليهود في بقية الشعوب.
ويمكن أن تأخذ المشيحانية طابعا ترخيصيا مارانيا (نسبة إلى يهود المارانو المتخفين) كما هي الحال مع الشبتانية (نسبة إلى شبتاي تسفي), وكذلك الدونمه والفرانكيه, فالماشيح وأتباعه كانوا يخرقون الشريعة ويسقطونها ويتمتعون بالحرية الناجمة عن ذلك ويمارسون الإحساس بما تبقى من هوية يهودية في الخفاء, ومن خلال أشكال أبعد ما تكون عن اليهودية. ولعل هذا يعود إلى أن اللحظة المشيحانية هي لحظة حلول الإله تماما في الإنسان (الماشيح), فهي لحظة وحدة وجود ومن ثم لحظة شحوب كامل أو حتى موت للإله إذ يتحول إلى مادة بشرية. وإذا حدث ذلك, فإن شرائعه التي أرسل بها باعتباره الإله تموت وتسقط. وقد ارتبط المشيحانية بالتعبير الفجائي وبمظاهر العنف الذي قد يأخذ شكل البعث العسكري أحيانا, كما هو الحال مع كل من أبي عيسى الأصفهاني, وداود الرائي, وديفيد رؤوبيني, ويعقوب فرانك (والصهيونية في نهاية الأمر).
وثمة محاولة داخل اليهود الحاخامية لتهدئة التطلعات المشيحانية المتفجرة, فركزت على الجانب الإلهي لعودة الماشيح, وعلى الماشيح من حيث هو أداة الإله في الخلاص. وبناء على ذلك, أصبح من الواجب على اليهود انتظار عودة الماشيح في صبر وأناة. ويصبح من الكفر أن يحاول فرد أو جماعة التعجيل بالنهاية (دحكيات هاكتس). وقد نجحت المؤسسة الحاخامية في ذلك إلى حد كبير, إلى أن انتشر يهود المارانو في أوربا, وبعض أجزاء الدولة
العثمانية (وخصوصا البلقان). وقد كانت النزعة المشيحانية بينهم عميقة متجذرة, وانتشرت القبالاه اللوريانية بين أعضاء الجماعات بما تتضمنه من رؤى مشيحانية, وأصبح اليهودي مركز الكون. وأصبحت صلاته, وقيامه بأداء الأوامر والنواهي (متسفوت) بمنزلة مساهمة نشيطة فعالة من جانبه للتعجيل بمجيء الماشيح. وقد خلق هذا تربة خصبة لشبتاي تسفي والشتبانية. ومن المعروف أن المؤسسة الحاخامية بذلت قصارى جهدها عبر تاريخها للوقوف ضد كل هذه النزعات, ولكن أزمة اليهود واليهودية كانت قد وصلت إلى منتهاها.
وقد ظهر بين أعضاء الجماعة اليهودية عدد من المشحاء الدجالين, نذكر من بينهم كلا من: بركوخبا, وأبى عيسى الأصفهاني, وبودغان, وداود الرائي. أما في العصر الحديث في الغرب, فيمكن أن نذكر منهم: ديفيد رؤوبيني وشبتاي تسفي وجوزيف فرانك.
ويلاحظ أن النزعة المشيحانية في العصر الحديث, رغم جذورها السفاردية, قد انتشرت في شرق أوربا وفي الأجزاء الأوروبية من الدول العثمانية. وبعد البدايات السفاردية, أصبحت المشيحانية مقصورة على الأقليات الإشكنازية. فالفرانكية, والحسيدية, وأخيرا الصهيونية, هي حركات إشكنازية بالدرجة الأولى. ولعل هذا يعود إلى وجود الإشكناز في تربة مسيحية, فالمسيحية تركز الحلول الإلهي في شخص واحد هو المسيح عيسى بن مريم, وهو ما تقوم به أيضا الحركات المشيحانية إذ أنها تنقل الحلول الإلهي من الشعب اليهودي إلى شخص الماشيح الذي سيأتي بالخلاص.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر