تأتي تجربة الفنان التشكيلي الفلسطيني سليمان منصور الجديدة، التي تناول فيها (الجدار العازل)، استمراراً لمسيرته الفنية التي بدأت منذ بداية سبعينات القرن الماضي، لتشكل المعالم الكبرى لأدائه التشكيلي المرتكز على الموهبة والمرجعية الأكاديمية والخبرات التقنية والمهارات الأدائية، حيث استطاع، خلال هذه المسيرة التي توجت بتنظيم العديد من المعارض الفردية والجماعية داخل فلسطين وخارجها، إثبات ذاته على الساحة التشكيلية الفلسطينية، والعربية والدولية.
وهو، باعتقادي، في هذا التوجه عبّر عن مدى إصراره على مواصلة دربه في صناعة اللوحة ذات الدلالة الثقافية والنضالية والاجتماعية، فضلاً عن قيمتها الفنية والجمالية المرتكزة على أسس راسخة من القيم والمبادئ الأكاديمية سواء في معالجاته اللونية أو تكوينات العمل الفني الرصينة والمحبوكة.
لذلك اشتهر الفنان سليمان منصور بأسلوبه الفني الخاص، ويستطيع المتلقي أن يدرك شخصيته الفنية من النظرة الأولى.
وعملية الإبداع عند الفنان منصور لا تقتصر فحسب في تلك الدلالات الثقافية، بل تذهب إلى أبعد من ذلك: إلى التنبه لأهمية الفن التشكيلي سلاحاً ثقافياً مهماً في مواجهة الاحتلال، لأن الفن عنده تمثل لتحقيق الوجود والحرية.
أما على مستوى الموضوع فيكتشف أي مراقب للوحات الفنان سليمان منصور الجديدة المدلولات الكبيرة التي رغب في التعبير عنها وتقديمها بما يمتلك من أدوات فنية ومواقف مناهضة لسياسة الاضطهاد التي يتعرض لها الإنسان الفلسطيني من قبل الاحتلال الصهيوني بشكل يومي أمام الحواجز الإسمنتية، حيث صور منصور على مسطحات لوحاته حكايات الحواجز بالخط واللون، وقدم مشاهد يومية من الألم والعذاب الممزوجين بالتحدي وروح المقاومة، والإرادة والعزة والصبر أيضاً، لدى كل فلسطيني يمر بتلك الحواجز أو يقف أمامها.
وقد جاء اختيار منصور تلك الحواجز باعتبارها رمزاً مثقلاً بالمعاني، فهو يحرم الفلسطيني من حرية التنقل والحركة من ناحية، وكل من يريد عبور هذه الحواجز ربما مقتول أو مقبول أو مرفوض أو هو رهن الاعتقال من ناحية أخرى. لذلك كانت لوحاته تعبر عن رؤيته الخاصة تجاه هذا الواقع، لكن بنظرة جمالية تتحدى الاحتلال.
وبهذا الخصوص قدم منصور مشروعه الفني موزعاً بحنكة في فضاء اللوحة التي كان قوامها هيئات الإنسان الفلسطيني وعدد من الحواجز الإسمنتية متساوية الأحجام، حيث عمل على تحويل تلك الحواجز إلى لوحات فنية، وأصبح كل حاجز عبارة عن شاهد وذكرى تحمل صورة شخص وقف أو مر من أمامه. وهنا اهتم منصور بالمكان وبتفاصيل حدث المكان والزمان. وبما أنه لا يعيش في كوكب آخر، فقد أراد أن يوثق ويؤرخ هذه اللحظات المؤلمة على سطوح الحواجز الإسمنتية، فبدت أجساد مشخصياته (سواء أكانت استرخاءً أم توتراً) أكثر وضوحاً ودلالة لهيمنة حركتها ضمن المساحة المحددة لها. وهذه اللوحات اكتست أبعاداً أكثر تعبيرية وواقعية، ربما تحت تأثير الواقع المؤلم الذي يعيشه الإنسان الفلسطيني.
من ناحية أخرى، لم يفت الفنان منصور أن يعبر عن جدار الفصل العنصري الذي يفصل بين الناس وأراضيهم التي يلفها ويلتهمها كإخطبوط وبين العائلات وأحلامها، والعمال وآمالهم ورغباتهم. هذا الجدار الذي يقف سداً في طريق الحلم والحياة يعتبر الأكثر ألماً كونه أداة للقتل والعنصرية والسجن.
في هذه الأعمال فجر الفنان منصور القدرة الواقعية للحدث بما يعادلها من مفردات وتفاصيل، وأخرجها بمهارة تقنية لا تنفصل عن عمق وجداني وحس محيطي، عندما فعّل الحدث اليومي أمام الحاجز الذي زاوج الفنان ما بينه وبين حال العمال والطلاب والموظفين والمرضى والنساء، حيث أظهر من خلال وجوههم وحركاتهم طغيان حالة التعب من الانتظار، وجعل من عنصر الحاجز شاهداً على عنصرية وبشاعة الاحتلال.
وتمتاز بعض أعمال هذه التجربة بميزة خاصة: فهي تمكّن المتلقي من معرفة لغتها وخطابها وخصوصيتها من خلال خطوطها ومساحاتها وموضوعاتها التي استلهمها من الرموز والدلالات التراثية والفلكلورية، ذلك من أجل خلق تصورات متعددة لقراءة خطابه البصري الذي يعلن عن صلابة التجذُّر في أرض لا يمكن محو تاريخها وخرائطها وملامحها.
كما تناول الفنان على مسطحات لوحاته الطبيعة الفلسطينية وبيوت القرية ومعالم الحياة فيها من من دون أن ينسى أكتاف الجبال التي تغمرها أشجار الزيتون وكذلك المرأة الفلسطينية العاملة والمناضلة بلباسها المعروف إلى جانب العمال والفلاحين شرائح المجتمع الفلسطيني كافة. وهو بذلك يقدم من خلال أعماله عرضاً درامياً قائماً على عدد كبير من الشخوص، كما استطاع من خلال اللون الذي يجيد توزيعه بشكل متناسق أن يربطه بالمساحة، والفضاء، والخطوط، من أجل الوصول إلى عمق الفكرة التي يرغب في التعبير عنها.
أخيراً استطاع الفنان التشكيلي سليمان منصور، المؤمن بقدرة الفن على إنضاج الحياة، إلى جانب وعيه أهمية دوره فناناً فلسطينياً منتمياً إلى أرضه وناسه، أن يصل بفنه إلى مستوى من العمق والرصانة، واستطاع من خلال رؤيته الخاصة أن يحقق بلمساته الرقيقة تدفقاً للمشاعر الإنسانية وبصفة خاصة في أعماله التي تتضمن صوراً للحاجز والجدار وشجر الزيتون والعمل.
الفنان سليمان منصور من مواليد بيرزيت عام 1947، أقام أكثر من ستة معارض شخصية في فلسطين وأمريكا والإمارات العربية والسويد ومصر وسورية، وحاز على العديد من الجوائز الفنية.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر