اشتعلت السيارة، تقافز الجنود مذعورين، كان ثوب أحدهم ينفث ناراً، بينما يملأ صراخه المكان، راح أحدهم يطلق النار بصورة جنونية، وكان آخر يجري اتصالاً لاسلكياً.
لم يتابع المشهد، اندفع كالصاروخ عائداً من حيث أتى، لم يستغرق الحدث أكثر من بضع ثوان، شاهد أحد الملثمين يختبئ وراء جدار منزل، وفي يده الزجاجة الحارقة، وصوت السيارات العسكرية يقترب، وقف لأول وهلة وحوله تلاميذه الصغار، ثم سرعان ما انتبه إلى خطورة الموقف، فأمرهم بالاختفاء سريعاً، ودخل في منزل قريب.
كان يحمل بين يديه دفتر التحضير، قال في نفسه: "لا بد أنهم سيغادرون المكان بعد قليل"، وراح يتخيل حال أمه في هذا الوقت، تظل على قلق هذه الأيام حتى يصل إلى البيت، تغلق الباب عندما يدخل، وتبدأ في تكرار نصائحها المعتادة: "أنت الوحيد لنا يا ولدي، أخواتك الصغيرات بحاجة إليك، لا تقلقني عليك؛ فلا تتأخر؛ وإياك إياك أن تسير في الشوارع المشتعلة"، فيهز رأسه مبتسماً، يحاول أن يخفف من حدة قلقها: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، يبتعد عن الصداقات التي قد تجر إلى مساءلاتها اليومية، ينطوي على نفسه، برنامجه اليومي لا يكاد يبتعد عن الشارع الذي يصل بين المدرسة التي يعمل بها والبيت.
وينتبه على أصوات الجنود الغاضبين، يجرون في الشوارع بعنف، صوت سياراتهم يزأر بجنون، لم يكن يعلم أنهم يحاصرون البيت، آه لو كان يعلم ذلك، آه لو كان يعلم وقتها أنه سيرى كل هذه الأهوال التي مر بها منذ ذلك اليوم المشئوم إلى الآن، ترى هل كان سيفر من المكان؟ وهل كان سينجح في ذلك؟... تقتحم ذاكرته صورة ذلك الولد المشاكس، الذي اندفع من باب بيتهم في أحد أيام المواجهات، أراد أن يختبئ حتى يغادر الجيش المكان، لكنه عندما شعر أنهم يقتربون، وعندما سمع دقاتهم المجنونة على باب الدار؛ تسلق طاولة المطبخ وبيد من حديد حطم السقف المصنوع من القرميد، وقفز من الثغرة التي فتحها وتاه في سراديب الحارة وشوارعها الضيقة، ولم يمسكوا به، وعاد بعد ساعة مستغرقاً في الضحك، كيف استطاع أن يفعل ذلك؟! من أين جاءته الفكرة؟ وكيف امتلك الشجاعة لينفذها؟... حقا إنهم أولادٌ شياطين!!
***
ولكن كيف كان يمكن أن يعرف أنهم لن يحترموا كبر سنه قليلاً، كان يظن أنهم يتعاملون بالمنطق؛ فتح لهم باب الدار، فاندفع الجندي الذي احترقت ملابسه بجنون، وهو يسب ويلعن، لم يعرف الأستاذ ما حدث، لكنه شعر أن الجدران قد اصطدمت بوجهه؛ سال دمه بغزارة من رأسه وأنفه، تكالب الجنود عليه، ضربوه بضراوة، حطموا أضلاعه، وكسروا ساقه اليمنى، لم يفهم كيف تم هذا كله؟ ولماذا؟
لكن الصدمة كانت في المحكمة، هل كان القاضي مجنونا؟ أم لعل ضابط التحقيق كان سكران؟! هل يعقل أن شخصا مثله يضرب زجاجة حارقة؟ ألا يعرفون نصائح أمه؟ ألا يدركون خصوصية حالته؟ هو لا يعرف أحداً، عالمه كله هو أولئك الصغار في المدرسة، وغرفته في البيت، لا يعرف شيئاً، كل ما يعرفه هو أنه رأى ملثماً يقذف الزجاجة الحارقة، ولقد فر هو من المكان، لأنه يدرك أن الجنود لا يفرّقون بين مذنب وبريء، وأن رصاصهم لا يرحم أحداً، ستة أعوام؟ لماذا؟ هو حتى في تلك اللحظة السوداء يوم المحكمة المشئوم؛ عندما سمع هذا الحكم الفظيع لم يفكر حتى في أن يقذف حجرا... فلماذا هذا الظلم؟ لا شك أن هناك خطأ ما! إنهم يحاكمون شخصاً غيره! هل هو كابوس؟ يا ليته كان كابوساً!
***
أربع سنوات ونصف مضت، اليوم الذي يأتي يتمسمر كأنه لا يرغب في الذهاب؛ حرمان؛ جوع؛ إهانات؛ عذاب؛ واقع مرير لم يكن يتصوره حتى في الكوابيس، هو الآن شخص آخر، أدرك أنه لا أحد ينجو من سيف الظلم المسلط، هذا السيف الأعمى لا يميز بين الناس.
قبل شهرين جاءه أحد الشباب، أطلعه على نص الوثيقة التي ينبغي عليه أن يوقعها من أجل الخروج من السجن، الجميع وقعوا، هكذا حدثته نفسه، لكنه يرفض أن يوقع، لم يتخذ قبل اعتقاله قراراً مثل هذا القرار العنيف، إنه يرفض هذا الحل، يود الآن لو يحاكم كل جنود الاحتلال، إنه لن يوقع على وثيقة لا تحترم إنسانيته؛ كيف ينسى؟! كيف يهضم كل هذا العذاب؟ كيف يتخلى عن هذه المبادئ التي لم يدركها إلا من وقت قليل؟ لكن هذه الوثيقة مجرد ورقة لا تسمن ولا تغني من جوع، لم لا يوقع عليها ويكتم ما في قلبه إلى حين؟ هل يعقل أن يلتئم الجرح على السكين المغروس في القلب؟ هل يمكن أن ينسى هذه النار التي ما زالت تكويه؟ لكن فرصة الانتهاء من هذا الكابوس متاحة الآن؛ وليبق ما في القلب في القلب، أمه المريضة تنتظر، وأخواته الصغيرات؛ بل قد أصبحن الآن فتيات يافعات، البيت بحاجة إلى رجل، لم لا ينسى؟ هل هو يختلف عن الذين وقعوا إمضاءاتهم، ما أبشع قطرات الحبر هذه! بل ما أروعها إذ تفتح أبواب الزنزانة، ما أبشعها... ما أروعها!!
وضع رأسه بين كفيه، ها هو الصداع يعود إليه من جديد: لا طب، لا أدوية، لا حب لا طعام... إلى متى يكابر؟ ارتعشت جفونه، كان هناك سائل حار ينبثق من عينيه، لأول مرة يبكي منذ ما يزيد على ثلاث سنوات، العام الأول قد جفف منابع الدمع، شربتها الوسائد والبطاطين، وبخرتها المفاهيم الجديدة والقناعات التي راحت تتشكل بقوة الصخر والحديد... هل يضعف الآن؟ امتدت يده بصعوبة، ارتعش القلم بين أصابعه، كان يتداعى والسائل الملوث يسجل اعترافه بالهزيمة، عندما عاد إلى الخيمة شعر أنه قد مزق قلبه بيديه، وأنه الآن يسير دون قلب، وراح يكفكف بيديه شلال الدموع!!
***
احتضنته أمه بلهفة، كانت تود أن يبقى في حضنها إلى الأبد، أسبلت جفونها وراحت في غيبوبة الموت، بكى بشدة، خرج من البيت، لم يلاحظ أن الأمور قد تغيرت، ما زال كثير من إخوته خلف الأسلاك الشائكة، امتلأ البيت بالناس، لكنه كان يشعر بالوحدة، جاءه بعض رفاق السجن، انفرد بأحدهم، كان أخاً حقيقياً له، وضع رأسه على صدره وراح يبكي بمرارة، كان الندم يفترس قلبه، ليته ما وقع على تلك الوثيقة السوداء، واساه صديقه، حاول أن يقنعه أن الحكمة هي في الاستفادة من الواقع والخروج من المعتقل، لم يقتنع بحرف واحد، كان قد اتخذ قراراً لا رجعة فيه، إنه لا ينسى؛ وكيف له أن ينسى!!
***
في فجر اليوم التالي كان يجتاز الحاجز العسكري حاملاً في يده حقيبة منتفخة، كان يريد أن يصل إلى أبعد مكان في الداخل، هناك حيث نسى الناس كل ما يمت إلى الموت بِصِلة!!
بقلم: د. كمال أحمد غنيم
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر