ومازلت أعتقد حتى اليوم انه ينبغي أن تظل ثورة 23 يوليو محتفظة بقدرتها على الحركة السريعة و المبادأة ، لكي تستطيع أن تحقق معجزة السير في ثورتين في وقت واحد ، و مهما يبدو في بعض الأحيان من التناقض في تصرفاتنا
وحين جاءني واحد من أصدقائي يقول لي
( أنت تطالب بالاتحاد لمواجهة الإنجليز . وأنت في نفس الوقت تسمح لمحاكم الغدر أن تستمر في عملها.)) استمعت إليه ، وكانت في خيالي أزمتنا الكبيرة ، أزمة شقي الرحى :أزمة تقتضينا أن نتحد صفاً واحداً وننسى الماضي
وثورة تفرض علينا أن نعيد الهيبة الضائعة لقيم الأخلاق ولا ننسى الماضي !.ولم أقل لهذا الصديق : إن منفذا الوحيد إلى النجاة ، أن نحتفظ – كما قلت – بسرعة الحركة و المبادأة ، وبالقدر على أن نسير في طريقين في وقت واحد .ولم أشأ أنا ذلك ، ولا شاءه كل الذين شاركوا في 23 يوليو .ولكن القدر شاء ، وتاريخ شعبنا ، والمرحلة التي يمر بها اليوم .
الجزء الثاني
ولكن ما الذي نريد أن نصنعه ؟ وما الطريق إليه ؟ الحق أني في معظم الأحيان كنت اعرف الإجابة عن السؤال الأول . وأخال أني لم اكن وحدي المنفرد بهذه المعرفة ، وإنما كانت تلك المعرفة أملاً أنعقد عليه إجماع جيلنا كله . أما الإجابة عن السؤال الثاني (( وما طريقنا إلى هذا الذي نريد ؟ )) فأنا أعترف إنها تغيرت في خيالي كما لم يتغير شئ أخر ، وأكاد أعتقد أنها موضوع الخلاف الأكبر في هذا الجيل
ومما من شك في أننا نحلم بمصر المتحررة القوية .. ذلك أمر ليس فيه خلاف بين مصري و مصري .أما الطريق إلى التحرر و القوة .. فتلك عقدة العقد في حياتنا ولقد واجهت تلك العقدة قبل 23 يوليو سنة 1952 ، وظللت أواجهها بعد ذلك كثيراً حتى اتضحت لي زوايا كثيرة كانت في الظلال تسقط عليها فتخفيها ، وبدت أما بصيرتي أفاق كان الظلام الذي ساد وطننا قروناً طويلة يلفها فلا أراها
***
ولقد أحسست منذ انبثق الوعي في وجداني ، إن العمل الإيجابي و جب أن يكون طريقنا ولكن أي عمل !.ولقد تبدو كلمة (( العمل الإيجابي )) على الورق كافية لتحل المشكلة . ولكنها في الحياة وفي الظروف العسيرة التي عاشها جيلنا وفي المحن التي كانت تنشب أظفارها في مقدرات وطننا ، لم تكن كافية
وفي فترة من حياتي كانت الحماسة هي العمل الإيجابي في تقديري . ثم تغير مثلي الأعلى في العمل الإيجابي و أصبحت أرى أنه لا يكفي أن تضج أعصابي وحدي بالحماسة ، وإنما على أن أنقل حاستي كي تضج بها أعصاب الآخرين..وفي تلك الأيام قدت مظاهرات في مدرسة النهضة ، وصرخت من أعماقي بطلب الاستقلال التام ، وصرخ ورائي كثيرون .. ولكن صرخنا ضاع هباءً بددته الرياح أصداء واهنةً لا تحرك الجبال و لا تحطم الصخور .ثم أصبح العمل الإيجابي في رأي أن يجتمع كل زعماء مصر ليتحدوا على كلمة واحدة ، وطافت جموعنا الهاتفة الثائرة ببيوتهم واحداً واحداً تطلب إليهم باسم شباب مصر أن يجتمعوا على كلمة واحدة .. ولكن اتحادهم على كلمة واحدة كان فجيعة لإيماني . فإن الكلمة الواحدة التي اجتمعوا عليها كانت معاهدة سنة1936 . وجاءت الحرب العالمية الثانية و ما سبقها بقليل على شبابنا فألهبته و أشاعت النار في خلجاتهم فبدأ اتجاهنا ، اتجاه جيل بأكمله يسير إلى العنف.وأعترف – ولعل النائب العام لا يؤخذني بهذا الاعتراف- إن الاغتيالات السياسية توهجت في خيالي المشتعل في تلك الفترة على أنها العمل الإيجابي الذي لا مفر من الإقدام عليه إذ كان يجب أن ننقذ مستقبل وطننا
وفكرت في اغتيال كثيرين وجدت أنهم العقبات التي تقف بين وطننا وبين مستقبله , ورحت أفند جرائمهم , وأضع نفسي موضع الحكم على أعمالهم , وعلى الأضرار التي ألحقها بهذا الوطن ، ثم أشفع ذلك كله بالحكم الذي يجب أن يصدر عليهم .وفكرت في اغتيال الملك السابق وبعض رجاله الذين كانوا يعبثون بمقدساتنا . ولم أكن وحدي في هذا التفكير .ولما جلست مع غيري انتقل بنا التفكير إلى التدبير .وما أكثر الخطط التي رسمتها في تلك الأيام ، وما أكثر الليالي التي سهرتها ، أعد العدة للأعمال الإيجابية المنتظرة
كانت حياتنا في تلك الفترة كأنها قصة بوليسية مثيرة .كانت لنا أسرار هائلة ، وكانت لنا رموز ، وكنا نتستر بالظلام ، وكنا نرص المسدسات بجوار القنابل ، وكانت طلقات الرصاص هي الأمل الذي نحلم به !.وقمنا بمحاولات كثيرة على هذا الاتجاه ، ومازالت أذكر حتى اليوم انفعالاتنا ومشاعرنا ونحن نندفع في الطريق إلى نهايته
والحق أنني لم أكن في أعماقي مستريحاً إلى تصور العنف على أنه العمل الإيجابي الذي يتعين علينا أن ننقذ به مستقبل وطننا.كانت في نفسي حيرة , تمتزج فيها عوامل متشابكة ، عوامل من الوطنية ومن الدين ، ومن الرحمة ومن القسوة ، ومن الإيمان ولم ومن الشك ، ومن العلم ومن الجهل ..ورويداً رويداً وجدت فكرت الاغتيالات السياسية التي توهجت في خيالي ، تخبو جذوتها وتفقد قيمتها في قلبي كتحقيق للعمل الإيجابي المنتظر ..وأذكر ليلة حاسمة في مجرى أفكاري وأحلامي في هذا الاتجاه , كنا قد أعددنا العدة للعمل و اخترنا واحداً قلنا أنه يجب أن يزول من الطريق .ودرسنا ظروف حياة هذا الواحد ووضعنا الخطة بالتفاصيل .وكانت الخطة أن نطلق الرصاص عليه وهو عائد إلى بيته في الليل .
ورتبنا فرقة الهجوم التي تتولى إطلاق النار , ورتبنا فرقة الحراسة التي تحمي فرقة الهجوم , ورتبنا فرقة تنظيم الإفلات إلى النجاة بعد تنفيذ العملية بنجاح .وجاءت الليلة الموعودة
وخرجت بنفسي مع جماعة التنفيذ وسار كل شئ طبقاَ كما تصورناه..كان المسرح خالياً كما توقعنا ، وكمنت الفرق في أماكنها التي حددت لها ، اقبل الواحد الذي كان يجب أن يزول ، وانطلق نحوه الرصاص ..وانسحبت فرقة التنفيذ ، وغطت انسحابها فرقة الحراسة ، وبدأت عملية الإفلات إلى النجاة ، وأدرت محرك سيارتي و انطلقت أغادر المسرح الذي شهد عملنا الإيجابي الذي رتبناه .وفجأة دوت في سمعي أصوات صريخ و عويل ، ولوعة امرأة ورعب طفل ، ثم استغاثة متصلة محمومة
وكنت غارقاً في مجموعة من الانفعالات الثائرة ، والسيارة تندفع بي مسرعة .ثم أدركت شيئاً عجيباً.كانت الأصوات مازالت تمزق سمعي .الصراخ و العويل والولولة والاستغاثة المحمومة
لقد كنت بعدت عن المسرح بأكثر مما يمكن أن يسري الصوت ، ومع ذلك بدأ ذلك كله يلاحقني و يطاردني .ووصلت إلى بيتي ، واستلقيت على فراشي ، وفي عقلي حمى وفي قلبي ضميري غليان متصل . وكانت أصوات الصريخ و العويل و الولولة والاستغاثة مازالت تطرق سمعي .
ولم انم طوال الليل …بقيت مستلقياً على فراشي في الظلام ، أشعل سيجارة وراء سيجارة ، وأسرح مع الخواطر الثائرة ، ثم تتبدد كل خواطري على الأصوات التي تلاحقني .
*أكنت على حق ؟ . وأقول لنفسي في يقين :- دوافعي كانت من أجل وطني
*أكانت تلك وسيلة لا مفر منها ؟.وأقول لنفسي في شك :- ماذا كان في استطاعتنا أن نفعل
*أيمكن حقاً أن يتغير مستقبل بلدنا إذا خلصناه من هذا الواحد أو من غيره ، أم المسألة أعمق من هذا
وأقول لنفسي في حيرة :- أكاد أحس أن المسألة أعمق
*إننا نحلم بمجد أمة ، فما هو الأهم : أيمضي من يجب أن يمضي , أم يجئ من يجب أن يجئ ؟وأقول لنفسي وإشعاعات من النور تتسرب بين الخواطر المزدحمة . بل المهم أن يجئ من يجب أن يجئ …إننا نحلم بمجد أمة … ويجب أن يبنى هذا المجد
وأقول لنفسي ومازلت أتقلب في فراشي في الغرفة التي ملأها الدخان و تكاثفت فيها الانفعالات :- وإذن ؟- أسمع. هاتفاً يرد علي :- وإذن ماذا ؟- وأقول لنفسي في يقين هذه المرة :- إذن يجب أن يتغير طريقنا.... ليس ذلك هو العمل الإيجابي الذي يجب أن نتجه إليه.. المسألة أعمق جذوراً وأكثر خطورة وأبعد أغوارا
وأحس براحة نفسية صافية ، ولكن الصفاء ما يلبث أن تمزقه هو الآخر أصوات الصراخ والعويل والولولة و الاستغاثة ، تلك التي مازالت أصدائها ترن في أعماقي ؟.ووجدت نفسي أقول فجأة :- ليته لا يموت !.وكان غريباً أن يطلع علي الفجر وأنا أتمنى الحياة للواحد الذي تمنيت له الموت في المساء !.وهرعت في لهفة إلى إحدى صحف الصباح …و أسعدني أن الرجل الذي دبرت اغتياله …قد كتبت له النجاة.ولكن تلك لم تكن المشكلة الأساسية .وإنما المشكل الأساسية….. هي العثور عن العمل الإيجابي
ومنذ ذلك الوقت بدأ تفكيرنا الحقيقي في شئ أعمق جذوراً وأكثر خطورة وأبعد أغواراً .وبدأنا نرسم الخطوة الأولى في الصورة التي تحققت مساء 23 يوليو ، ثورة منبعثة من قلب الشعب , حاملة لأمانيه , مكملة لنفس الخطوات التي خطاها من قبل على طريق مستقبله .ولقد بدأت هذا الحديث بسؤالين :أولهما : ما الذي نريد أن نصنعه !؟.و الثاني : وما طريقنا إليه ؟.وقلت أن الإجابة عن السؤال الأول أمل أنعقد عليه الاجتماع .أما السؤال الثاني : ما طريقنا إلى الذي نريد أن نصنعه ؟ فهو الذي أطلت فيه الكلام حتى وصلت إلى 23 يوليو
ولكن أكان الذي حدث بوم 23 يوليو هو كل ما نريد أن نصنعه ؟. والمؤكد أن الجواب بالنفي ، فإن تلك لم تكن إلا الخطوة الأولى على الطريق . والحق إن فرحة النجاح يوم 23 يوليو لم تخدعني ، ولم تصور لي أن الآمال قد تحققت ، وأن الربيع قد جاء …بل لعل العكس هو الصحيح …لقد كانت كل دقيقة تحمل إلي انتصار جديداً للثورة .تحمل إلي في نفس الوقت عبئاً ضخماً ثقيلاً تلقيه بلا مبالاة فوق كتفي .ولقد قلت في الجزء الأول من هذا الحديث : (( إني كنت أتصور فبل 23 يوليو أن الأمة كلها متحفزة متأهبة ، وأنها لا تنتظر إلا الطليعة تقتحم أمامها السور فتدفع الأمة ورائها صفوف متراصة منتظمة زاحفة )) . وقلت : أنني تصورت أن دورنا دور الطليعة ، وكنت أتصور أنه لن يستغرق أكثر من بضع دقائق يلحق بنا بعدها زحف الصفوف المنتظمة . ورسمت أيضاً في ذلك الجزء صورة للخلاف والفوضى والأحقاد و الشهوات التي انطلقت من عقالها في تلك اللحظات ، كل منها يحاول بأنانيته أن يستغل الثورة لتحقيق أهداف بعينها
ولقد قلت وسأظل أقول أن تلك كانت أقسى مفاجأة في حياتي .ولكن أشهد أنه كان يجب
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر