لا شك ان هذه الوكالة هي الجهاز التنفيذي للحركة الصهيونية العالمية، وكانت بنايتها أشبه بقلعة مغلقة تضم أقبيتها وثائق نصف قرن من النشاط الصهيوني، وقد أحيطت هذه الوكالة بسور فولاذي ارتفاعه ثلاثة أمتار ويتولى حراسته عدد من جنود الهاغناه، كما زرعت الشوارع المؤدية إليه بقضبان حديدية وبراميل مملوءة بالمتفجرات، لتحول دون وصول أية سيارة، إلا ضمن حدود ضيقة، وكان على الداخل إليها أن يحمل تصريحا خاصا وهويته الشخصية.
وكان بطل نسف هذا الوكر هو المجاهد البطل (أنطون جميل داود) واليك وصفا لعملية النسف حسب ما جاء في مخطوط الدكتور قاسم الريماوي على لسان المجاهد البطل.
ولد المجاهد أنطون داود في مدينة بوغوتا عاصمة كولومبيا في أمريكا اللاتينية، عام 1909 م، وأتم دراسته الثانوية في مدرسة باغوتا، والتحق بكلية (سانت جونز) في القسم التجاري وتخرج منها عام 1930 م، ثم التحق بجيش أمريكا الوسطى حيث حصل على رتبة ملازم أول، واشترك في القتال ضد الجيش الأمريكي في المكسيك، وحصل على رتبة كابتن بفضل شجاعته في معركة جبال لاسيجوفيا، حيث كان يقود فرق الرشاشات، وبعد انتهاء المعركة عاد إلى بيته في هاندوراس عام 1932 م حيث أسّس شركة طيران مدنية سميت (تاكا) بالتعاون مع الدكتور باونز الأمريكي وجيمس ويلزبات والطيار الاسترالي بركس.
ولما سمع بنشوب حرب بين كولومبيا (مسقط رأسه) وبيرو، اتجه إلى كولومبيا للاشتراك في الحرب، وما أن وصل حتى وضعت الحرب أوزارها سنة 1933، ثم اتجه إلى فرنسا عن طريق البحر، وبقي في باريس عند أقاربه آل جاسر سنة كاملة، ومن هنا عاد إلى بيت لحم في فلسطين (مسقط رأس آبائه وأجداده) مارّا بمرسيليا، وهناك تعرف على عدد من اليهود، واستطاع الوصول إلى فلسطين بدون جواز سفر على اعتبار أنه يهودي مهاجر.
ولما حضر الموظف البريطاني المسؤول عن التحقيق في جوازات السفر في ميناء حيفا، وطلب منه جواز السفر، أبلغه أنه يهودي فقال له الموظف: هيا أسرع مع جماعتك فورا. ولم يحاول إعاقته وسهّل نزوله إلى البرّ.
استضافه مرافقوه اليهود إلى تل أبيب حيث حلّ في بيت يقع في (75 شارع اللنبي) في تل أبيب حيث تعرف عليها، ثم طلب من مضيفيه الذهاب لزيارة القدس وبيت لحم والناصرة فقالوا له: إن هؤلاء (أهلها عرب وقطّاع طرق). لكنه ذهب إلى يافا، ومن هناك اتجه إلى القدس فبيت لحم سنة 1935، ولما نشبت ثورة 1936 خشي من الالتحاق بها، مع تشوقه وحبه لإنقاذ بلاد أجداده وحبه للحرب بسبب عدم إتقانه للّغة العربية، لهذا آثر ان يخدم بلاده عن طريق التحاقه بقوة البوليس الفلسطيني، فالتحق به عام 1936، ونقل إلى مركز زخارين وهناك أخذ يعمل لصالح بلاده مستغلا مركزه الرسمي.
وفي أحد الأيام أطلق أحد المجاهدين النار على يهودي فقتله بالقرب من زخارين، وأراد اليهود الانتقام من القرية العربية المجاورة واسمها (مراديس)، فطوقوا العمال بالليل وألقوا القبض على رئيس العمال، وهو من المجاهدين ويدعو (مصطفى) وقد وضع اليهود مسدسا في جيبه وسلموه لمركز البوليس في زخرون، ولما علم أنطون بذلك، ذهب إلى مكتب الأحوال وتمكن من الحصول على المسدس، فأتلفه من الداخل ووضع علامات على جميع قطعه الداخلية بمبرد رفيع، وأعاد المسدس إلى الخزانة وسجل رقمه على علبة سجاير، وأبلغ المتهم بضرورة إنكار المسدس، واتصل بأهله ليطلبوه للشهادة، ولما قدم مصطفى المذكور للمحكمة العسكرية وشهد ضده ضابط المركز اليهودي، تقدم انطون فشهد بأن الضابط اليهودي قد أعطاه المسدس المذكور قبل ثلاثة ايام من تاريخ القبض على مصطفى، وطلب إليه إصلاحه بصفته خبيرا في الأسلحة، ولما تأكد من عدم صلاحيته أعدته إليه وقال: ان المتهم مسلم وأنا مسيحي من كولومبيا ولا تربطني به أية علاقة أو معرفة...
وهكذا كتبت النجاة للمتهم الذي كان سيشنق حتما، على يد هذا الرجل الشهم، وحدث ان ذهبت قوة من البوليس لتفتيش بيت أحد المجاهدين في القطمون ومعهم أنطون، ولما ذهب الضابط لإحضار المختار، انسلّ انطون إلى صاحب البيت بسرعة خاطفة وأعلمه الخبر، وأخذ بندقية الرجل ودفنها بعيدا... ولما حضر الضابط، وأمر بتفتيش البيت لم يعثر على شيء، وهكذا كتبت النجاة لعائلة كبيرة بفضل جهوده... ولما شكّت السلطات في أمره، أوقفته عن العمل، لكنه اتصل بواسطة جماعة من جمعية الشّبان المسيحية بالقنصلية الأمريكية، حيث اشتغل فيها عام 1947 م، في قسم التأشيرات، وهناك استطاع أن يتعرف على أسرار القنصلية الأمريكية، من خلال البرقيات والمكالمات التليفونية، كما تعرف على فتاتين إحداهما من الأرغون والثانية من أفراد الهاغناه، وتعملان في القنصلية، ومن خلال ذلك عرف ان جميع قوى اليهود السياسية والعسكرية، تحت إمرة الوكالة اليهودية ولا صحة لما يقال عن اختلاف مع بعض المنظمات.
كان الميجر (انجرونوفيتش) ملحقا عسكريا في القنصلية (وقد علمت أنه على اتصال دائم بالوكالة اليهودية هو وزوجته، وهما يسكنان في حيّ القطمون العربي، وأذكر أنه في إحدى الليالي، أقام الميجر حفلة ساهرة في بيته، ضمت عددا من الشخصيّات المهّمة، فتسللت حتى وصلت خلف صخور تطل على الدار، وفي هذه الأثناء حضرت سيارة صغيرة تقل شخصين من رجال الوكالة اليهودية، الذين يترددون على القنصلية. فنزل أحدهما وأطلق صفيرا، فخرج على الأثر الميجر المذكور، وقابلهما وسلم كل منهما الآخر شيئا لم أتبين حقيقته، وبعد نصف ساعة انفجر لغم كبير في القدس، وفي هذه اللحظة صممت على نسف الوكالة اليهودية لأنها مصدر الجرائم الرئيسية، ولا فائدة بدون تدميرها ودكها من أساسها، ومن هنا قررت العزم على تنفيذ هذا الأمر ولو كلفني أعز ما أملك من حياة أو مال....)
عرفت بفضل وجودي في القنصلية، وبطريقة سرّية أن ضابطين من أعظم الشخصيات البارزة في الوكالة اليهودية، سوف يحضران إلى القنصلية الأمريكية صباح يوم السبت في تمام الساعة العاشرة، فذهبت إلى عاملة التليفون اليهودية واسمها (فكتوريا) وقلت لها:
(ان غدا السبت وأنت امرأة ولك أولاد. وأنا أريد أن أعمل مكانك لتقضي عيد السبت مع أهلك وأبنائك، فسرت سرورا عظيما وقالت: لا مانع عندي إذا وافق القنصل...)
وكلمت القنصل قائلا: إن هذه السيدة خجلانة منك بسبب غيابها يومين في الأسبوع الماضي وابنها مريض وأنا مستعد أن اشتغل مكانها غدا، فوافق القنصل وقدّر شعوري نحوها، وبإنسانيتي رفقة بها وبابنها المريض، ومن شدة سروره وتقديره وعد بإعطائي إجازة يومين، مقابل ذلك الشعور فقال: كيف أستطيع مكافأتك يا أنطون.. فقلت لها: يكفي أن تعرفي أن العرب عندهم شهامة، ولا تمنعهم أعمالكم معهم عن بذل المعونة لكم.
وبقيت تلك الليلة في القنصلية، ولما سألني القنصل عن سبب تأخري حتى ساعة متأخرة من الليل أجبته: إنني لا أتمكن من الذهاب إلى بيت لحم لبعدها، ولأنني لا أستطيع أن أترك التليفون...
وفي تلك الليلة رسمت خطة كانت كالتالي:-
صعدت إلى غرفة القنصل التي كانت خالية في الساعة الثامنة من صباح يوم السبت، ورفعت سمّاعة التليفون، ووضعت (شيئا ما) بين السماعة ونقطة ارتكازها على جسم التلفون ووضعت بينهما عود كبريت لتفصل بين السماعة والجسم، وبفضل ذلك بقي التليفون مفتوحا، بالرغم من أنه مقفل، وبفضل هذه العملية، أصبح في إمكاني أن أستمع من مكتب التوزيع الهاتفي إلى جميع الأحاديث التي ستدور بينهم وبين القنصل في غرفة مكتبه، ومنها استطعت معرفة؛ (إن من بين الحاضرين ضابطين من كبار ضباط الجيش الأمريكي، وهما ينويان على تأليف قوى الميليشيا اليهودية، وأنهم سيعقدون يوم الخميس الموافق 11/ 3/ 1947 م اجتماعا في تمام الساعة العاشرة في دار الوكالة اليهودية، وكان هؤلاء يقطنون في فندق (عدن) بالقدس، وقد عرفت بعد ذلك أن الميجر المذكور يتردد كثيرا على هذا الفندق...)
وفي الحال اتصلت بالقائد عبد القادر الحسيني، وأعلمته بالموضوع وبالخطة لتجهيز الألغام...
وفي صباح يوم الخميس 11/ 3/ 1947 ودّعت زوجتي وأولادي الوداع الذي كنت اعتقد أنه الأخير، وذهبت إلى مكان عملي في القنصلية كالمعتاد، فغافلت موظفي القنصلية، وأخذت السيارة في تمام الساعة 8:45 وذهبت إلى المدينة القديمة، حيث وضعت اللغم فيها، وفي تمام التاسعة وخمس دقائق توجهت إلى هدفي المنشود، حسب الخطة المرسومة التالية:-
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر