المعالجون (ثيرابيوتاي)
«المعالجون» ترجمة لكلمة «ثيرابيوتاي» المأخوذة من الكلمة اليونانية «ثيرابي» أي «العلاج», وتعني «المعالجون». والمعالجون (ثيرابيوتاي) فرقة من الزهاد اليهود تشبه الأسينيين استقرت على شواطئ بحيرة مريوط قرب الإسكندرية في القرن الأول الميلادي, ويشبه أسلوب حياتهم أسلوب الأسينيين وإن كانوا أكثر تشددا منهم. وقد كانت فرقة المعالجين تضم أشخاصا من الجنسين, وأورد فيلون في كتابه كل ما يعرفه عنهم, فيذكر إفراطهم في الزهد وفي التأمل وبحثهم الدائب عن المعنى الباطني للنصوص اليهودية المقدسة. كما يذكر فيلون أنهم كانوا يهتمون بدارسة الأرقام ومضمونها الرمزي والروحي, كما كانوا يقضون يومهم كله في العبادة والدراسة والتدريب على الشعائر.أما الوفاء بحاجة الجسد, فلم يكن يتم إلا في الظلام (وهو ماقد يوحي بأصول غنوصية).
الأغيار (غوييم)
<<الأغيار>> هي المقابل العربي للكلمة العبرية <<غوييم>>, وهذه هي صيغة الجمع للكلمة العبرية <<جوي>> التي تعني <<شعب>> أو <<قوم>> (وقد انتقلت إلى العربية بمعنى <<غوغاء>> و<<دهماء>>). وقد كانت الكلمة تنطبق في بادئ الأمر على اليهود وغير اليهود ولكنها بعد ذلك استخدمت للإشارة إلى الأمم غير اليهودية دون سواها, ومن هنا كان المصطلح العربي <<الأغيار>>. وقد اكتسبت الكلمة إيحاءات بالذم والقدح, وأصبح معناها << الغريب>> أو <<الآخر>>. و الأغيار درجات أدناها العكوم, أي عبدة الأوثان والأصنام (بالعبرية: عوبدي كوخافيم أو مزالوت أي <<عبدة الكواكب والأفلاك السائرة>>), وأعلاها أؤلئك الذين تركوا عبادة الأوثان, أي المسيحيون والمسلمون. وهناك أيضا مستوى وسيط من الأغيار <<غيريم>> أي المجاورين أو <<الساكنين في الجوار>> (مثل السامريين).
ولا يوجد موقف موحد من الأغيار في الشريعة اليهودية. فهي بوصفها تركيبا جيولوجيا تراكميا, تنطوي على نزعة توحيدية عالمية وأخرى حلولية قومية. وتنص الشريعة اليهودية على أن الأتقياء من كل الأمم سيكون لهم نصيب في العالم الآخر, كما أن هناك في الكتابات الدينية اليهودية إشارات عديدة إلى حقوق الأجنبي وضرورة إكرامه. وتشكل فكرة شريعة نوح إطارا أخلاقيا مشتركا لليهود وغير اليهود. ولكن, إلى جانب ذلك, هناك أيضا النزعة الحلولية المتطرفة, التي تتبدى في التمييز الحاد والقاطع بين اليهود كشعب مختار أو كشعب مقدس يحل فيه الإله من جهة والشعوب الأخرى التي تقع خارج دائرة القداسة من جهة أخرى. فقد جاء في سفر أشعياء (61/ 5ـ6): <<ويقف الأجانب ويرعون غنمكم ويكون بنو الغريب حراثيكم وكراميكم. أما أنتم فتدعون كهنة الرب تسمون خدام إلهنا. تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتأمرون>>.
كما جاء في سفر ميخا (4/12): <<قومي ودوسي يا بنت صهيون لأني أجعل قرنك حديد وأظلافك أجعلها نحاسا فتسحقين شعوبا كثيرين>>.
وقد ساهم حاخامات اليهود في تعميق هذا الاتجاه الانفصالي من خلال الشريعة الشفوية التي تعبر عن تزايد هيمنة الطبقة الحلولية داخل اليهود, فنجدهم قد أعادوا تفسير حظر الزواج من أبناء الأمم الكنعانية السبع الوثنية (تثنية 7/2ـ4), ووسعوا نطاقه بحيث أصبح ينطبق على جميع الأغيار دون تميز بين درجات عليا ودنيا.
وقد ظل الحظر يمتد ويتسع حتى أصبح يتضمن مجرد تناول الطعام (حتى ولو كان شرعيا) مع الأغيار, بل أصبح ينطبق أيضا على طعام قام جوي (غريب) بطهوه, حتى وإن طبق قوانين الطعام اليهودية.
كما أن الزواج المختلط, أي الزواج من الأغيار, غير معترف به في الشريعة اليهودية, وينظر إلى الأغيار على اعتبار أنهم كاذبون في بطبيعتهم, ولذا لا يؤخذ بشهاداتهم في المحاكم الشرعية اليهودية, ولا يصح الاحتفال معهم بأعيادهم إلا إذا أدى الامتناع عن ذلك إلى إلحاق الأذى باليهود. وقد تم تضييق النطاق الدلالي لبعض كلمات, مثل <<أخيك>> فإن معنى ذلك يكون في الواقع <<أخيك اليهودي>>.
وقد تحول هذا الرفض إلى عدوانية واضحة في التلمود الذي يدعو دعوة صريحة (في بعض أجزائه المتناقضة) إلى قتل الغريب, حتى ولو كان من أحسن الناس خلقا, وقد سببت هذه العدوانية اللا عقلية كثيرا من الحرج لليهود أنفسهم الأمر الذي دعاهم إلى إصدار طبعات من التلمود بعد إحلال كلمة <<مصري>> أو <<صدوقي>> أو <<سامري>> محل كلمة <<مسيحي>> أو <<غريب>>. وأصبح التمييز إذا طابع أنطولوجي في التراث القبالي, وخصوصا القبالاه اللوريانية بنزعتها الحلولية المتطرفة, حيث ينظر إلى اليهود باعتبار أن أرواحهم مستمدة من الكيان المقدس, في حين صدرت أرواح الأغيار من المحارات الشيطانية والجانب الآخر (الشرير) والخيرون من الأغيار هم أجساد أغيار لها أرواح يهودية ضلت سبيلها. وقد صاحب كل هذا تزايد مطرد في عدد الشعائر التي على اليهودي أن يقوم بها ليقوي صلابة دائرة الحلول والقداسة التي يعيش داخلها ويخلق هوة بينه وبين الآخرين الذين يعيشون خارجها.
والواقع أن هذا التقسيم الحلولي لليهود إلى يهود يقفون داخل دائرة القداسة, وأغيار يقفون خارجها, ينطوي على تبسيط شديد, فهو يضع اليهودي فوق التاريخ وخارج الزمان, وهذا ما يجعل من اليسير عليه أن يرى كل شيء على أنه مؤامرة موجهة ضده أو على أنه موظف لخدمته. كما أن يحول الأغيار إلى فكرة أكثر تجريدا من فكرة اليهودي في الأدبيات النازية أو فكرة الزنجي في الأدبيات العنصرية البيضاء. وهي أكثر تجريدا لأنها لا تضم أقلية واحدة أو عدة أقليات, أو حتى عنصرا بشريا بأكمله, وإنما تضم الآخرين في كل زمان ومكان. وبذا, يصبح كل البشر أشرارا مدنسين يستحيل الدخول معهم في علاقة, ويصبح من الضروري إقامة أسوار عالية تفصل بين من هم داخل دائرة القداسة ومن هم خارجها. وقد تعمقت هذه الرؤية نتيجة الوضع الاقتصادي الحضاري لليهود (في المجتمع الإقطاعي الأوروبي) كجماعة وظيفية تقف خارج المجتمع في عزلة وتقوم بالأعمال الوضيعة أو المشينة وتتحول إلى مجرد أداة في يد النخبة الحاكمة. ولتعويض النقص الذي تشعر به, فإنها تنظر نظرة استعلاء إلى مجتمع الأغلبية وتجعلهم مباحا, وتسبغ على نفسها القداسة (وهي قداسة تؤدي بطبيعة الحال إلى مزيد من العزلة اللازمة والضرورية لأداء وظيفتها).
وبظهور الرأسمالية القومية وتزايد معدلات العلمنة في المجتمعات الغربية, اهتزت هذه الانعزالية بعض الشيء, وظهرت حركة التنوير اليهودية واليهودية الإصلاحية اللتان كانتا تحاولان تشجيع اليهود على الاندماج مع الشعوب. لكن الرؤية الثنائية المستقطبة عاودت الظهور بكل قوتها مع ظهور الصهيونية بحلوليتها الدنيوية (حلولية بدون إله) التي ترى أن اليهود شعب مختلف عن بقية الشعوب لا يمكنه الاندماج فيها, كما شجعت الانفصالية باعتبارها وسيلة مشروعة تحافظ بها أقلية عرقية على نفسها وتقاليدها وتراثها. فتحاول الصهيونية أن تنشئ سياجا بين يهود الخارج وبين الآخرين (ومن هنا الاهتمام الشديد بتأكيد ظاهرة معاداة اليهود والإبادة النازية لليهود باعتبارها العلاقة النموذجية والحتمية بين اليهودي والأغيار). كما أن الصهاينة يشجعون اليهود على الاهتمام بهويتهم اليهودية وبإثنيتهم حتى لا يذربوا في الآخرين. ويشار في الولايات المتحدة إلى الذكر غير اليهودي على أنه <<شيكتس>>, وإلى الأنثى غير اليهودية على أنها <<الشيكسا>> (وهما كلمتان مضمونهما الدلالي يتضمن فكرة الدنس والنجاسة وعدم الطهارة). ويشار إلى <<الشيكسا>> على أنها حيوان مخيف يختطف الأولاد اليهود. ويشار إلى الزواج المختلط على أنه <<هولوكوست صامت>>, أي <<إبادة صامتة>>.
وفي الأدبيات الصهيونية العنصرية, فإن الصهاينة يعتبرون العربي على وجه العموم, والفلسطيني على وجه الخصوص, ضمن الأغيار حتى يصبح بلا ملامح و قسمات (ويشير وعد بلفور إلى سكان فلسطين العرب على أنهم <<الجماعات غير اليهودية>> أي <<الأغيار>>) وينطلق المشروع الاستيطاني الصهيوني من هذا التقسيم الحاد, فالصهيونية تهدف إلى إنشاء اقتصاد يهودي مغلق, وإلى دولة يهودية لا تضم أي أغيار. ومعظم المؤسسات الصهيونية (الهستدروت, والحركة التعاونية, والجامعات) تهدف إلى ترجمة هذا التقسيم الحاد إلى واقع فعلي, كما أن فكرة العمل العبري تنطلق من هذا التصور.
وبعد ظهور الدولة الصهيونية الوظيفية (أي التي يستند وجودها إلى وظيفة محددة تضطلع بها), انطلق هيكلها القانوني من هذا التقسيم. فقانون العودة هو قانون عودة لليهود و يستبعد الأغيار من الفلسطينيين. ودستور الصندوق القومي اليهودي يحرم تأجير الأرض اليهودية للأغيار. ويمتد الفصل ليشمل وزارات الصحة والإسكان والزراعة.
ومن أطرف تطبيقات هذا المفهوم في الوقت الحاضر, القرار الذي أصدره مؤتمر الدراسات التلمودية الثامن عشر الذي عقد في القدس عام 1974 وحضره رئيس الوزراء إسحق رابين, والذي جاء فيه ضرورة منع <<قيام الطبيب اليهودي بمساعدة المرأة غير اليهودية على الحمل>>. ومن المعروف أن الشرع اليهودي قد تناول بشيء من التفصيل قضية: هل يجوز للطبيب اليهودي أن يعالج غير اليهودي؟ وقد كان الرد هو النفي في جميع الأحوال, إلا إذا اضطر إلى ذلك. وينبغي أن تكون نية الطبيب دائما هي أن يحمي الشعب اليهودي نفسه, لا أن يشفي المريض. وقد أجاز بعض الفقهاء اليهود (مثل جوزيف كارو في كتابيه: بيت يوسف والشولحان عاروخ) أن يجرب الأطباء اليهود الدواء على مريض غير يهودي (و هي فتوى كررها موسى إيسيرليز في تعليقه على الشولحان عاروخ). وقد وردت كل الحقائق السابقة في مقال كتبه إسرائيل شاهاك, ولم ترد نقابة الأطباء الإسرائيلية على اتهاماته.
وقد أثبتت بعض استطلاعات الرأي في إسرائيل أن الخوف من الأغيار لا يزال واحدا من أهم الدوافع وراء سلوك الإسرائيليين.
وتحاول الدولة الإسرائيلية تغذية هذا الشعور بإحاطة المواطن الإسرائيلي بكم هائل من الرموز اليهودية, فشعار الدولة هو شمعدان المينوراه, وألوان المعلم مستمدة من شال الصلاة (طاليت), وحتى اسم الدولة ذاتها يضمر التضمينات نفسها. بل إن شعار العام الدولي للمرأة, الذي يتضمن العلامة (+) باعتبارها الرمز العالمي وللأنثى, تم تغييره في إسرائيل حتى يكتسب الرمز طابعا يهوديا وحتى لا يشبه الصليب. وقد جاء في التراث الديني التقليدي أنه لا يصح مدح الأغيار. ولذا فحينما تسلم عجنون جائزة نوبل للسلام, مدح الأكاديمية السويدية ولكنه في حواره مع التلفزيون الإسرائيلي, قال: <<أنا لم أنس أن مدح الأغيار محرم, ولكن يوجد سبب خاص لمديحي لهم>> فقد منحوه الجائزة.
«المعالجون» ترجمة لكلمة «ثيرابيوتاي» المأخوذة من الكلمة اليونانية «ثيرابي» أي «العلاج», وتعني «المعالجون». والمعالجون (ثيرابيوتاي) فرقة من الزهاد اليهود تشبه الأسينيين استقرت على شواطئ بحيرة مريوط قرب الإسكندرية في القرن الأول الميلادي, ويشبه أسلوب حياتهم أسلوب الأسينيين وإن كانوا أكثر تشددا منهم. وقد كانت فرقة المعالجين تضم أشخاصا من الجنسين, وأورد فيلون في كتابه كل ما يعرفه عنهم, فيذكر إفراطهم في الزهد وفي التأمل وبحثهم الدائب عن المعنى الباطني للنصوص اليهودية المقدسة. كما يذكر فيلون أنهم كانوا يهتمون بدارسة الأرقام ومضمونها الرمزي والروحي, كما كانوا يقضون يومهم كله في العبادة والدراسة والتدريب على الشعائر.أما الوفاء بحاجة الجسد, فلم يكن يتم إلا في الظلام (وهو ماقد يوحي بأصول غنوصية).
الأغيار (غوييم)
<<الأغيار>> هي المقابل العربي للكلمة العبرية <<غوييم>>, وهذه هي صيغة الجمع للكلمة العبرية <<جوي>> التي تعني <<شعب>> أو <<قوم>> (وقد انتقلت إلى العربية بمعنى <<غوغاء>> و<<دهماء>>). وقد كانت الكلمة تنطبق في بادئ الأمر على اليهود وغير اليهود ولكنها بعد ذلك استخدمت للإشارة إلى الأمم غير اليهودية دون سواها, ومن هنا كان المصطلح العربي <<الأغيار>>. وقد اكتسبت الكلمة إيحاءات بالذم والقدح, وأصبح معناها << الغريب>> أو <<الآخر>>. و الأغيار درجات أدناها العكوم, أي عبدة الأوثان والأصنام (بالعبرية: عوبدي كوخافيم أو مزالوت أي <<عبدة الكواكب والأفلاك السائرة>>), وأعلاها أؤلئك الذين تركوا عبادة الأوثان, أي المسيحيون والمسلمون. وهناك أيضا مستوى وسيط من الأغيار <<غيريم>> أي المجاورين أو <<الساكنين في الجوار>> (مثل السامريين).
ولا يوجد موقف موحد من الأغيار في الشريعة اليهودية. فهي بوصفها تركيبا جيولوجيا تراكميا, تنطوي على نزعة توحيدية عالمية وأخرى حلولية قومية. وتنص الشريعة اليهودية على أن الأتقياء من كل الأمم سيكون لهم نصيب في العالم الآخر, كما أن هناك في الكتابات الدينية اليهودية إشارات عديدة إلى حقوق الأجنبي وضرورة إكرامه. وتشكل فكرة شريعة نوح إطارا أخلاقيا مشتركا لليهود وغير اليهود. ولكن, إلى جانب ذلك, هناك أيضا النزعة الحلولية المتطرفة, التي تتبدى في التمييز الحاد والقاطع بين اليهود كشعب مختار أو كشعب مقدس يحل فيه الإله من جهة والشعوب الأخرى التي تقع خارج دائرة القداسة من جهة أخرى. فقد جاء في سفر أشعياء (61/ 5ـ6): <<ويقف الأجانب ويرعون غنمكم ويكون بنو الغريب حراثيكم وكراميكم. أما أنتم فتدعون كهنة الرب تسمون خدام إلهنا. تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتأمرون>>.
كما جاء في سفر ميخا (4/12): <<قومي ودوسي يا بنت صهيون لأني أجعل قرنك حديد وأظلافك أجعلها نحاسا فتسحقين شعوبا كثيرين>>.
وقد ساهم حاخامات اليهود في تعميق هذا الاتجاه الانفصالي من خلال الشريعة الشفوية التي تعبر عن تزايد هيمنة الطبقة الحلولية داخل اليهود, فنجدهم قد أعادوا تفسير حظر الزواج من أبناء الأمم الكنعانية السبع الوثنية (تثنية 7/2ـ4), ووسعوا نطاقه بحيث أصبح ينطبق على جميع الأغيار دون تميز بين درجات عليا ودنيا.
وقد ظل الحظر يمتد ويتسع حتى أصبح يتضمن مجرد تناول الطعام (حتى ولو كان شرعيا) مع الأغيار, بل أصبح ينطبق أيضا على طعام قام جوي (غريب) بطهوه, حتى وإن طبق قوانين الطعام اليهودية.
كما أن الزواج المختلط, أي الزواج من الأغيار, غير معترف به في الشريعة اليهودية, وينظر إلى الأغيار على اعتبار أنهم كاذبون في بطبيعتهم, ولذا لا يؤخذ بشهاداتهم في المحاكم الشرعية اليهودية, ولا يصح الاحتفال معهم بأعيادهم إلا إذا أدى الامتناع عن ذلك إلى إلحاق الأذى باليهود. وقد تم تضييق النطاق الدلالي لبعض كلمات, مثل <<أخيك>> فإن معنى ذلك يكون في الواقع <<أخيك اليهودي>>.
وقد تحول هذا الرفض إلى عدوانية واضحة في التلمود الذي يدعو دعوة صريحة (في بعض أجزائه المتناقضة) إلى قتل الغريب, حتى ولو كان من أحسن الناس خلقا, وقد سببت هذه العدوانية اللا عقلية كثيرا من الحرج لليهود أنفسهم الأمر الذي دعاهم إلى إصدار طبعات من التلمود بعد إحلال كلمة <<مصري>> أو <<صدوقي>> أو <<سامري>> محل كلمة <<مسيحي>> أو <<غريب>>. وأصبح التمييز إذا طابع أنطولوجي في التراث القبالي, وخصوصا القبالاه اللوريانية بنزعتها الحلولية المتطرفة, حيث ينظر إلى اليهود باعتبار أن أرواحهم مستمدة من الكيان المقدس, في حين صدرت أرواح الأغيار من المحارات الشيطانية والجانب الآخر (الشرير) والخيرون من الأغيار هم أجساد أغيار لها أرواح يهودية ضلت سبيلها. وقد صاحب كل هذا تزايد مطرد في عدد الشعائر التي على اليهودي أن يقوم بها ليقوي صلابة دائرة الحلول والقداسة التي يعيش داخلها ويخلق هوة بينه وبين الآخرين الذين يعيشون خارجها.
والواقع أن هذا التقسيم الحلولي لليهود إلى يهود يقفون داخل دائرة القداسة, وأغيار يقفون خارجها, ينطوي على تبسيط شديد, فهو يضع اليهودي فوق التاريخ وخارج الزمان, وهذا ما يجعل من اليسير عليه أن يرى كل شيء على أنه مؤامرة موجهة ضده أو على أنه موظف لخدمته. كما أن يحول الأغيار إلى فكرة أكثر تجريدا من فكرة اليهودي في الأدبيات النازية أو فكرة الزنجي في الأدبيات العنصرية البيضاء. وهي أكثر تجريدا لأنها لا تضم أقلية واحدة أو عدة أقليات, أو حتى عنصرا بشريا بأكمله, وإنما تضم الآخرين في كل زمان ومكان. وبذا, يصبح كل البشر أشرارا مدنسين يستحيل الدخول معهم في علاقة, ويصبح من الضروري إقامة أسوار عالية تفصل بين من هم داخل دائرة القداسة ومن هم خارجها. وقد تعمقت هذه الرؤية نتيجة الوضع الاقتصادي الحضاري لليهود (في المجتمع الإقطاعي الأوروبي) كجماعة وظيفية تقف خارج المجتمع في عزلة وتقوم بالأعمال الوضيعة أو المشينة وتتحول إلى مجرد أداة في يد النخبة الحاكمة. ولتعويض النقص الذي تشعر به, فإنها تنظر نظرة استعلاء إلى مجتمع الأغلبية وتجعلهم مباحا, وتسبغ على نفسها القداسة (وهي قداسة تؤدي بطبيعة الحال إلى مزيد من العزلة اللازمة والضرورية لأداء وظيفتها).
وبظهور الرأسمالية القومية وتزايد معدلات العلمنة في المجتمعات الغربية, اهتزت هذه الانعزالية بعض الشيء, وظهرت حركة التنوير اليهودية واليهودية الإصلاحية اللتان كانتا تحاولان تشجيع اليهود على الاندماج مع الشعوب. لكن الرؤية الثنائية المستقطبة عاودت الظهور بكل قوتها مع ظهور الصهيونية بحلوليتها الدنيوية (حلولية بدون إله) التي ترى أن اليهود شعب مختلف عن بقية الشعوب لا يمكنه الاندماج فيها, كما شجعت الانفصالية باعتبارها وسيلة مشروعة تحافظ بها أقلية عرقية على نفسها وتقاليدها وتراثها. فتحاول الصهيونية أن تنشئ سياجا بين يهود الخارج وبين الآخرين (ومن هنا الاهتمام الشديد بتأكيد ظاهرة معاداة اليهود والإبادة النازية لليهود باعتبارها العلاقة النموذجية والحتمية بين اليهودي والأغيار). كما أن الصهاينة يشجعون اليهود على الاهتمام بهويتهم اليهودية وبإثنيتهم حتى لا يذربوا في الآخرين. ويشار في الولايات المتحدة إلى الذكر غير اليهودي على أنه <<شيكتس>>, وإلى الأنثى غير اليهودية على أنها <<الشيكسا>> (وهما كلمتان مضمونهما الدلالي يتضمن فكرة الدنس والنجاسة وعدم الطهارة). ويشار إلى <<الشيكسا>> على أنها حيوان مخيف يختطف الأولاد اليهود. ويشار إلى الزواج المختلط على أنه <<هولوكوست صامت>>, أي <<إبادة صامتة>>.
وفي الأدبيات الصهيونية العنصرية, فإن الصهاينة يعتبرون العربي على وجه العموم, والفلسطيني على وجه الخصوص, ضمن الأغيار حتى يصبح بلا ملامح و قسمات (ويشير وعد بلفور إلى سكان فلسطين العرب على أنهم <<الجماعات غير اليهودية>> أي <<الأغيار>>) وينطلق المشروع الاستيطاني الصهيوني من هذا التقسيم الحاد, فالصهيونية تهدف إلى إنشاء اقتصاد يهودي مغلق, وإلى دولة يهودية لا تضم أي أغيار. ومعظم المؤسسات الصهيونية (الهستدروت, والحركة التعاونية, والجامعات) تهدف إلى ترجمة هذا التقسيم الحاد إلى واقع فعلي, كما أن فكرة العمل العبري تنطلق من هذا التصور.
وبعد ظهور الدولة الصهيونية الوظيفية (أي التي يستند وجودها إلى وظيفة محددة تضطلع بها), انطلق هيكلها القانوني من هذا التقسيم. فقانون العودة هو قانون عودة لليهود و يستبعد الأغيار من الفلسطينيين. ودستور الصندوق القومي اليهودي يحرم تأجير الأرض اليهودية للأغيار. ويمتد الفصل ليشمل وزارات الصحة والإسكان والزراعة.
ومن أطرف تطبيقات هذا المفهوم في الوقت الحاضر, القرار الذي أصدره مؤتمر الدراسات التلمودية الثامن عشر الذي عقد في القدس عام 1974 وحضره رئيس الوزراء إسحق رابين, والذي جاء فيه ضرورة منع <<قيام الطبيب اليهودي بمساعدة المرأة غير اليهودية على الحمل>>. ومن المعروف أن الشرع اليهودي قد تناول بشيء من التفصيل قضية: هل يجوز للطبيب اليهودي أن يعالج غير اليهودي؟ وقد كان الرد هو النفي في جميع الأحوال, إلا إذا اضطر إلى ذلك. وينبغي أن تكون نية الطبيب دائما هي أن يحمي الشعب اليهودي نفسه, لا أن يشفي المريض. وقد أجاز بعض الفقهاء اليهود (مثل جوزيف كارو في كتابيه: بيت يوسف والشولحان عاروخ) أن يجرب الأطباء اليهود الدواء على مريض غير يهودي (و هي فتوى كررها موسى إيسيرليز في تعليقه على الشولحان عاروخ). وقد وردت كل الحقائق السابقة في مقال كتبه إسرائيل شاهاك, ولم ترد نقابة الأطباء الإسرائيلية على اتهاماته.
وقد أثبتت بعض استطلاعات الرأي في إسرائيل أن الخوف من الأغيار لا يزال واحدا من أهم الدوافع وراء سلوك الإسرائيليين.
وتحاول الدولة الإسرائيلية تغذية هذا الشعور بإحاطة المواطن الإسرائيلي بكم هائل من الرموز اليهودية, فشعار الدولة هو شمعدان المينوراه, وألوان المعلم مستمدة من شال الصلاة (طاليت), وحتى اسم الدولة ذاتها يضمر التضمينات نفسها. بل إن شعار العام الدولي للمرأة, الذي يتضمن العلامة (+) باعتبارها الرمز العالمي وللأنثى, تم تغييره في إسرائيل حتى يكتسب الرمز طابعا يهوديا وحتى لا يشبه الصليب. وقد جاء في التراث الديني التقليدي أنه لا يصح مدح الأغيار. ولذا فحينما تسلم عجنون جائزة نوبل للسلام, مدح الأكاديمية السويدية ولكنه في حواره مع التلفزيون الإسرائيلي, قال: <<أنا لم أنس أن مدح الأغيار محرم, ولكن يوجد سبب خاص لمديحي لهم>> فقد منحوه الجائزة.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر