كان لابدّ أن تضغط "سهام ذهني " بأناملها الطويلة على جبينها الوضّاء، فربّما بحركتها تلك تخفّف من حدّة نقرات مخيفة يكاد ينفجر لها دماغها ، و يتحوّل إلى كسارات صغيرة .
هل هي نقرات صداع ، أم دوار ، أم دهشة ، أم تعجّب ، أم انفعال ، أم حسرة ، أم ماذا ؟
هذا مالا تريد أن تبحث فيه اللّحظة. المطلوب الآن التغلّب على هذه النقرات المزعجة في سبيل الإلمام بتفاصيل المشهد الذي تأمل أن يضع القارئ العربيّ في الصّورة.
و فعلا عضّت على شفتيها عازمة على عدم التّفريط في أبسط الجزئيّات .
"خذ لهذا الشّارع العجيب صورة يا حسام ذياب".
قالت ذلك للمصوّر المرافق لها و هي تفرك يديها من فرط زخم المشاعر التي تتلقّف كيانها.
إنّها تثق ثقة عمياء بعدسته .
ستكون الصّورة معبّرة ، و لكي تنطق و تملأ الأسماع احتجاجا ستكتب تحتها معلّقة عندما تعود إلى البيت :
"أعجوبة يجب أن تنضاف إلى الأعاجيب السّبعة... إنّه كما ترون شارع لا كالشّوارع... شارع جزء منه في مصر و جزء تحت الاحتلال الإسرائيلي ! "
بل ستعلق قائلة :
"...أعجب ما في العالم من شوارع، شارع يقسّم مدينة لتصبح مدينتين لهما نفس الاسم ! "
لماذا اللّغة تخونها هذه السّاعة ؟ من الأفضل أن تعلّق على النّحو التّالي:
"... لمن لا يسمع بمدينتي رفح ، له صورة الشّارع الذي جزء منه في رفح سيناء التي تمثّل نهاية الحدود المصريّة ، و جزء في رفح فلسطين الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي " .
تبّا للّجاجة ! ليس في هذه التعاليق ما يرضي قلمها .
- التقط صورة لهذا السلك الشائك اللعين ..
بورك فيه"حسام"، يبدو اليوم مطيعا أكثر من اللاّزم، على عكس الكلمات التي ترفض الانقياد والانصياع !
تنتظر منه أن يقف، بعد التّصوير، متأمّلا الأسلاك الشّائكة الممتدّة على طول الحدود.
سيتخيّل كيف يلتقي أفراد الأسر الفلسطينية الممزّقة بين الجانبين على هذا السّلك ، و ماذا يمكن أن يدور بينهم من كلام و هم يتبادلون النّظرات الحزينة عبر فلول الأسلاك الدّامية .
- التقط أيضا صورة للعلمين.. ضروريّ أن يظهر السّلك يفصل بينهما.
- و لكن يا سهام .. إن أحدهما علم العدوّ الإسرائيلي !
- أعرف أنّ نجمة داود تنغرس الآن برؤوسها الستّة في قلبك بنفس القسوة التي تنغرس بها في قلبي . و لكن ماأعرفه أكثر أنّ الحقيقة المرّة كلّما برعنا في إظهارها، ازددنا حرصا على صنع أسباب الخلاص.
قالت ذلك و هي تضغط ثانية على جبينها.
سوف لن تمنعها النّقرات من أن تلقي بنظرة أخيرة على المشهد قبل الانصراف إلى المخيّم للتّحقيق مع أمّهات شهداء "ديمونة" ، فلقد خّيل إليها فجأة أنّ علم العدوّ الإسرائيلي يستفزّ العلم العربي ، و يستعرض أمامه قوّة عضلاته ، و شدّته في الرّفرفة .
و إن صدّقت سمعها، فإنّ مشادّة كلاميّة ما تدور بينهما الآن فوق السّلك:
- أنا المنتصر .. أنا القويّ .. أنا الموجود .
- الحرب لم تحسم بعد .. إن كنّا - نحن العرب- خسرنا معركة فهذا لا يعني أنّنا خسرنا الحرب.
- المّهم، إلى حد الآن، أنّ الإسرائيلي هو القاتل، و الرّابح، و أنّ العربي هو المقتول و الخاسر. صحيح أنّ العالم يشفق على الذين يقتلون، و لكنّه، في النّهاية، لا يحترم إلاّ الذين يقاتلون.
- نحن العرب أيضا نقاتل .
- و من يا ترى تقاتلون ؟
- بعضنا البعض .
* * *
- هذا هو "معسكر كندا ". بقي يحمل اسم فرقة حفظ السّلام الكنديّة التي كانت تقيم فيه. نحن هنا منذ أن احتل الإسرائيليون هذه المدينة المصرية. لقد رحّلونا إليه بعد أن هدّموا بيوتنا في قطاع غزة.
هذا ما قاله شيخ من الفلسطيّنيين لم تشأ "سهام" أن تقطع عليه حديثه رغم أنّها كانت ملمّة بما سرده عليها من معلومات .
و فيما كان يرشدها إلى بيت أحد أمّهات شهداء "ديمونة " ، كانت عينها على أعلام بيضاء مرفرفة فوق عدّة منازل ، إنّها أعلام رفعت فوق البيوت كرمز للمسالمة أيّام الاحتلال الإسرائيلي لرفح المصريّة .
لا تدري ما سرّ بقاء بعضها إلى الآن رغم أنّ الاحتلال قد انتهى منذ أعوام كثيرة ؟
لا تدري ما سرّ بقاء بعضها إلى الآن رغم أنّ الاحتلال قد انتهى منذ أعوام كثيرة ؟
توقّف الشّيخ لاهثا أمام باب من الصّفيح، و بعد أن حكّ ذقنه النّابت شيبا كثيفا، طرق الباب عاليا
بحماس فيّاض :
بحماس فيّاض :
- الصّحافة.. افتحي يا أمّ محمد الزلف .
انفتح الباب فسمع له عواء موحش و حزين، خرجت على إثره امرأة هيفاء ترتدي السّواد ومن عينيها الذّابلتين، ينبعث عويل خافت لا يمكن أن ينتهي. و بلا مقدّمات ، احتضنت المصوّر و مرافقته كما ستحتضن ابنها "محمد الزلف" الشهيد لو رجع إليها حيّا ، ثم دلفت بهما إلى فناء البيت الذي كانت طيور حزن بارد ترفرف في سمائه ببطء مميت ، لتفرش لهما الأرض بساطا و زربيّة ، و تحضر و سائد وثيرة يستندان إليها .
دسّت "سهام" يدها في يد الأمّ و جذبتها برفق لتجلس بجانبها .
لن تغفر لنفسها لو طرحت عليها أيّ سؤال.
لقد تراجعت عن كّل الأسئلة التي أعدّتها مسبقا.
يكفي المرأة ما تكتوي به من نيران الفراق الأبديّ الصّعب، يكفيها الجمر الذي ينغلق عليه قلبها، يكفيها السّكين الذي يبضّع كبدها، و الدّمع الذي مكر بها، فحرمها من نعمة البكاء.
لكنّ المرأة أغمضت عينيها و راحت تحدّثهما عن ليلة السبت 5 مارس 1988 ليلة اختفاء "محمد الزلف" و شابين آخرين :
".. خرج من البيت مساء السّبت .. طلع النّهار، قلت : ( ها الحين بييجي ) .. و لكنّه لم يأت . سألنا عنه النّاس ، فقال بعض الشّبان إنّهم رأوه يقترب من السّلك ، و قال آخرون إنّه قد تسلّل عبر السلك ، فأغمي عليّ لأنّي أدرك ما معنى أن يتسلّل أحد إلى الأرض المحتلّة . لو عصفور طار إلى اليهود، لن يعود" !
" لكنّ شباب المعسكر لا ينثنون . إذا سمعوا عبر السّلك اليهود يطلقون النّيران على المتظاهرين الفلسطينيين في الأرض المحتلّة، تقوم القيامة هنا، و يكثر المتسلّلون عبر السّلك ".
"أهاليهم هناك .. "
"أنا مثلا بناتي متزوّجات في فلسطين ، أمّي العجوز ، أخواتي ، إخوتي كلّهم هناك . يا لهفي ! لم أرهم منذ سبع سنوات. رائحتهم تزكم أنفي ."
و بعد صمت ووجوم عميقين ، تستأنف الحديث بصوت جنائزي :
"محمد ،روحي ، عشرون عاما ، متحصّل ، منذ عامين ،على الثّانوية العامّة .. طلع نهار الأحد، قلت : ( ها الحين بييجي ) .. إلى أن جاء ظهر الاثنين بخبر ثلاثة شبّان فلسطينيين قد استشهدوا في "بئر سبع" بعد أن قاموا باحتجاز أوتوبيس المفاعل النّووي الإسرائيلي في "ديمونة" و قتلوا خمسة عشر خبيرا ، وأصابوا خمسة عشر آخرين".
صمتت أمّ الشّهيد لصوت خطى تقترب من الفناء. التفتت "سهام" لتقع عيناها على رجل يرتدي الهموم و يتنفّس الآلام. قدّرت أنه والد الشّهيد ، و قرأت الرّفض في عينيه . فأوقفت آلة التّسجيل، ووضع المصوّر آلته على كتفه، ثمّ و دّعا والدي الشّهيد بحرارة، واتّجها رأسا إلى ناصية شارع مطلّ على السّلك، حيث دكّان خردة، تديره أمّ الشّهيد الثّاني "عبد الله كلاّب".
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر