قد يتبادر لذهن القارئ أنني أحد أولئك الذين يجندون الحق في خدمة الباطل، أو الذين يسهمون في هدم صرح العربية، بمعاول الدراسات المغرضة، التي تقوم على المفارقات بين الفصحى من ناحية، واللهجات الدارجة هنا وهناك من ناحية أخرى ....، فينتهون من ذلك إلى أن العرب لا يمكن أن تفهم بعضها، وأن الفصحى أصبحت جديرة بأن تدخل المتاحف الأثرية لأنها لأنها إرث قديم، ولم تعد تُفهم إلا قليلا!
وأود في البداية أن أشير إلى أن الفصحى ليست، بالضرورة، لغة امرئ القيس، أو لغة القرآن الكريم، فنقطع بذلك بعض السبل على أولئك النفر، بل إن لغة الأدب الجاهلي، والقرآن الكريم، تُفهمان إلى حد كبير من قبل معظم العرب. كما أود أن أشير، ثانيا، إلى أن الدعوى القائلة إن العرب لا يفهم بعضها بعضا، لما بين لهجاتهم من اختلاف، دعوى باطلة؛ ذلك بما هي قائمة على جهل القائلين بها من ناحية، ولأنها إن صدقت، فليس إلا في أحوال نادرة من حيث المكان، وقصيرة من حيث الزمان. وأذكر أنني قبل الشروع في الدراسات العليا، كنت جئت مصر لأول مرة بعد تسعة أعوام في الجزيرة العربية، ولاسيما الربع الخالي ـ سمعت برنامجا في إحدى الإذاعات يقدم تسجيلا (لفرح)، فحسبت أن الإذاعة هي الرياض، وأن الفرح واحد من تلك الأفراح التي كنا نحضرها في أكناف الربع الخالي ونجد ... وكم كانت دهشتي عندما انتهى البرنامج حين ذكرت المذيعة أن الإذاعة هي (الشرق الأوسط)، وقد كانت الدهشة أعظم عندما قالت عقب ذلك: نقلنا لكم صورة حية (لفرح) من منطقة السلوم. إن في هذا لما يكشف عن حقيقة جليلة، هي أن العرب يفهم بعضهم بعضا، وتتجانس أمزجتهم وعاداتهم في مشرق الوطن ومغربه.
وقل مثل ذلك في أمر سمعته على ألسنة القوم في خيبر الجنوب (شرقي عسير بين اليمن والحجاز) موقع قبيلة شهران، حيث يقولون: (معرفة الديار أمارة، ومعرفة الرجال تجارة، ومعرفة النساء خسارة). حيث اجتمعت مرة مع احد عرب تيوات جنوب الجزائر، في بيت صديقي السنوسي العربي الأنصاري، وكنا نتجاذب أطراف الحديث عن العروبة والإسلام وأهلها وتقاليدها، فذكرت المثل السابق، فإذا به يستغرب الأمر، وكان شيخا ولكنه في حماس الشباب، فاستفسرت ما السرّ؟، فقال عندنا مثل يناظره، قلت: ما هو؟ قال: نقول: ( العرف بالبلاد فوز، وعرف الرجال كنوز، وعرف النسا خنوز) . لقد سرني الأمر، بغض النظر عما ينطوي عليه من مجانبة للصواب؛ لا سيما في شقه المتعلق بالنساء، لكنه لم يدهشني لعلمي أن العرب امة واحدة، وإذا انتفى التجانس بين لهجات سكان مدنها وبين طباعهم، فذلك لما اعتور المدنية العربية من فساد في العصر الحديث، تمثل في إفراغها من مقومات الأصالة بفعل الاستعمار والأقليات الدخيلة والذين لا همَّ لهم غير القرش وما قرب منه، وغير الكرش وزاد في تخمته وانتفاخه. وإن التجانس ما يزال قائما بين البادين العرب من نواق الشط (نواكشوط) إلى الشحر ومن بحر العرب إلى الإسكندرية. أقول ذلك استنادا إلى ما تعلمته أثناء تجوالي ما بين خافقي الوطن خلال ستة عشر عاما ونيّف.
وجدير بالذكر أن الاختلاف اللهجي في مجال الأصوات، ليس من الكبر بحيث يشكل حاجزا يعوق التفاهم العربي، ذلك أن كثيرا من وجوهه مألوفة في الفصحى نفسها، إلى جانب أن في إمكان كل امرئ أن يدرك المقصود بالصوت المختلف، كأن يكون همزة أو كافا أو كافا والمقصود قاف.
أما الاختلاف في المفردات لمعانيها، أو لمعان مختلفة، فمرده إلى جملة من العلل أجرّد منها ما يلي:
أ. كثرة المشترك ـ اللفظي والمعنوي ـ في العربية:
فقوم قد يستخدمون كلمة (فرعة) لمعنى الشعبة من الجبل، أو الجبل نفسه، كما هي الحال في جنوب الحجاز، وقد يستخدمها قوم آخرون لمعنى آخر، كما هي الحال في الجماهيرية، حيث تعني السروال القصير. وقد يستخدم قوم كلمة (بصير) بمعنى الواسع الدراية أو الخبير، على الأصل، وقد يستخدمها غيرهم ـ العرب الليبيون مثلا ـ لمعنى الكفيف؛ على التفاؤل من موجهات الأضداد. والكلمة لهذه الدلالة دخيلة في لغة الهوسا من اللهجة الليبية.
وقد يستخدم قوم كلمة (سمسم) للمحصول المعروف، وعلى ذلك معظم العرب، بينما يستخدم غيرهم كلمة (جلجلان) مكانها، ومن ذلك عرب اليمن وتهامة والجماهيرية. ومن ذلك كلمة (تين) للثمرة المعروفة، حيث هي المستخدمة في معظم اللهجات العربية، غير أننا نجد قبيلة خثعم شمال تبالة من بلاد عسير، تستخدم كلمة (بلسن) مكانها. ومن ذلك في ديارهم (جبل البلس) وهو جبل عالٍ تكثر فيه أشجار التين. وقد وردت الكلمة لدلالتها في شعر أبي العلاء المعري، حيث قوله:
يقنعني بَلْسَن يمارس لي فإن أتتني حلاوة فبلس (1)
والبلسن هو العدس في لهجة اليمن المعاصرة.
وتستخدم قبيلتا زهران وغامد ـ من قبائل الحجاز ـ كلمة قهدة بمعنى التين، كما تستخدم (حماط) في معظم أنحاء الحجاز جنوب مكة، وعسير إلى نجران. والحماط لغة التين الجبلي، ويضرب المثل في الخبث بتين الحماط ، والكلمة قديمة لدلالتها في أشعار الهذليين. ويستخدم عرب ليبيا وغرب مصر، وبعض بلدان المغرب كلمة (كرموس) بمعنى التين، وكرموز، بقلب السين زايا لمخالفة الميم في الهمس، كأحد أحياء الإسكندرية إلى الغرب منها، وجدير بالذكر أن المنطقة الممتدة غرب الإسكندرية مشهورة بكثرة ما فيها من شجر التين. وأعتقد أنها سميت به، وأن اصل الكلمة (كرم) والواو والسين زائدتان كما هي الحال في (قدموس) بمعنى قديم، او الصخرة القديمة، قال عبيد بن الأبرص:
ولنا دار ورثنا غيرها م الأقدم القدموس عن عم وخال (2)
يقصد في رأس جبل كثير الصخور.
والواو والسين هاهنا كالواو والتاء في عنكبوت وتربوت، بل إن السين والتاء قد تبدل إحداهما من الأخرى كما هي الحال في مت ومس بمعنى مي ومط، ولا عجب فهما متقاربان في المخرج متحدان في صفة الهمس. وقد يكون المقطع (وس) ناجما عن تأثر باللاتينية، حيث يضاف علامة للرفع. والكرم هو البستان فيه عنب وتين وعلى هذا لهجة الشوام بعامة.
ومن قبيل ذلك أن التهاميين وعرب جنوب الحجاز يسمون الزيتون عتما، وهو لغة الزيتون الجبلي، والكلمة لدلالتها في أشعار هذيل، بينما يطلق أهل عدن كلمة زيتون على الفاكهة المعروفة باسم (الجوافة) من فواكه الصيف.
ب. جهل العرب بالفصحى
العرب، حتى المثقفين منهم ليس فيهم من يحيط باللغة العربية، ليس لأن اللغات ليس مما يحاط به وحسب، بل لأن معظمهم من التقصير بحيث يزداد عجزهم أفرادا وجماعات عن الإلمام بما يتضمن ويمثل أبعاد المفارقات بين بعض اللهجات. فالكلمتان (فهر وفلو) من الكلام الفصيح، وهما لدلالة واحدة، غير انهما قليلا ما تجتمعان في لهجة واحدة. إلا ان إتقان الناس للفصحى، ومعرفتهم بألفاظها ومشتركها، تمكنهم من فهم بعضهم بعضا في حال توفرهما. وقد تكشف عكس ذلك، عندما ذكرت شيئا من هذا الأمر لطلابي في إحدى المحاضرات. حيث وجدت بعضهم يستخدمون كلمة (مهر) وبعضهم يستخدمون كلمة (فلو) ... وكم كان أسفي عندما وجدت بينهم من يستخدم عبارة (حصان صغير) ... عبارة صحيحة إلى حد ما، ولكنها ليست من الفصحى قلامة أظفور.
ويتبين أثر إتقان الفصحى في التقريب بين اللهجات العربية وتوحيدها في ما تقدمه المدرسة العربية الحديثة في هذا المجال، بالرغم من سوء حالها إذا ما قورنت بالمدرسة القرآنية.
ج. عدم الاتصال:
ويتضح أثر الاتصال في توحيد اللهجات العربية، في رصد اللهجات المستخدمة في الأقاليم المتجاورة من أرجاء الوطن الكبير، حيث نجد المتحدثين بها يتفاهمون بسهولة مطلقة، بل الغالب أن تكون اللهجة واحدة في تلكم البيئات، ويتجلى ذلك في البادية العربية في جانبي الوطن الكبير، حيث يشكل التنقل عامل اتصال مستمر، ولم يحدثنا أي مؤرخ أن العرب وجدت صعوبة في التفاهم بعضها مع بعض بعد الإسلام، أو قبله، اللهم إلا ما يروى عن أبي عمرو بن العلاء من قوله: (ما لسان حمير بلساننا، وما لغتهم بلغتنا.)، ويسهل تعليل هذه العبارة إذا أخذنا في الاعتبار البعد، واختلاف البيئتين العربية الشمالية والعربية الجنوبية.
ولعل المستعمرين أدركوا ما لعدم الاتصال من أثر في تكريس التفرقة والانفصال، فأقام الكيان الصهيوني فاصلا بين شقي الوطن: البر الشرقي والبر الغربي. فانقطع الاتصال المباشر ... وها هم يتمادون، وها نحن لا نحرك ساكنا، إزاء مد الفاصل شمالا إلى جنوب لبنان، وجنوبا إلى مصر بل إلى السودان . ليصبح الخرق أكبر من جهد الراقع.
د. الآثار الدخيلة والحضارة المادية:
أكثر ما يتجلى ؟أثرهما في لهجات المدن العربية؛ حيث تتغير اللهجات فيها بسرعة، وحيث تخضع المدن لنظم وأساليب تفسح المجال واسعا أمام الدخلاء وتبعاتهم. فلهجاتهم، والحال هذه، تفقد ألفاظا لم تعد تعنيهم، لتستوعب ألفاظا تعرف لمسميات ومدلولات مستحدثة. ولا يقف الحد عند الألفاظ والمعاني، بل يتعداها إلى الأصوات ومخارج الحروف وغير ذلك. حيث يميل سكان المدينة إلى اللين والأخذ به في كل شيء. على العكس من ذلك الفلاحون ... وأشد ما تكون المخالفة عند البدو. وهذا يفسر اختلاف لهجة سكان دمشق عن لهجة حوران من سورية. واتفاق لهجتي نابلس والقدس في معظم جوانبهما. واختلافهما عن لهجة سكان الجبال غرب نابلس رغم القرب المكاني بينهما. ورغم البعد بين نابلس والقدس.
كما يفسر ذلك اتفاق لهجات البدو حيثما وجدوا، رغم المسافات الشاسعة التي تفصل بينهم، والحدود الآثمة التي تحول بينهم ... وقد تبين لي بالممارسة والدراسة الميدانية أن لهجات الجزيرة العربية بعامة ، والبدو من سكانها بخاصة، ولهجات البوادي في الشق الغربي من الوطن، وغرب تشاد والنيجر، وبوادي الشام والعراق وفلسطين وسيناء وغرب مصر والسودان ـ أنها تكاد تكون واحدة في معظم ألفاظها ومعانيها ومخارج الحروف فيها.
وقد تبين لي أن طلاب المدرسة الابتدائية في (غات) كانوا يفهمون لهجتي (وهي خليط من لهجات شتى، ولكنها بدوية إلى حد كبير) كما كنت أتفاهم مع المرحوم ( علي باعلاق عمر) من عرب تشاد، أكثر من تفاهمي مع غيره من العرب الذين ينتمون إلى بيئات حضرية مختلفة. لقد كنت أسمع في كلامه صوت (بداح القرقاح القحطاني) من عرب نجد،في ألفاظه ومعانيه.
وقد يخطر ببال أني إلى المبالغة ... غير أني أملك الدليل التجريبي لإثبات كل ما تقدم، وأكثر منه، وقد حدا بي ما نحن بصدده إلى البدء بدراسة تقابلية حول لهجتي البادية في كل من ليبيا ونجد، وبخاصة في مجال الشعر الشعبي. وإنك ليهزك ما بين اللهجتين من تقارب يمكنك أن تقف على أبعاده بالاستماع إلى الشاعر الشعبي الرقيعي، أو نور الدين العزومي، من عرب ليبيا، وإلى شعر (ابن سبيل) من عرب نجد.
هـ . نقص المعجم العربي:
فكم من كلمة عربية أصيلة مستخدمة في اللهجات المختلفة ـ لا نجدها في المعجم إما لدلالتها أو لدلالة أخرى قريبة أو بعيدة، ويسهل التحقق من ذلك بدراسة بعض اللهجات العربية المنعزلة، وبمقابلة بعض مفرداتها بالفصيح اتكاء على تقارب الألفاظ وعلى قواعد التناظر بين اللغات السامية.
ومما يقطع بذلك، ما تجده في مجاميع الشعر من ألفاظ ليست في المعاجم، ويمكنك التثبت من ذلك بالاطلاع على فهارس بعض الكتب التي حققها الأستاذ عبد السلام هارون، حيث ضمنها قوائم بالمفردات التي وردت في تلك الكتب مما لم يرد في المعاجم.
ومرجع ذلك إلى أن الذين دونوا العربية إنما اعتمدوا المشافهة والرواية عن اعراب شبه الجزيرة بالتنقل بين أصقاعها ... الأمر الذي لايمكن ان يتم لأي امرئ أو جماعة على نحو كامل. ولذلك جاءت المعاجم ناقصة. وإن عدم ورود كلمة فيها لا يعني أن تلك الكلمة ليست من العربي الفصيح.
إن الذين يحجمون عن دراسة اللهجات العربية مدعين أنها عامل تفريق مخطئون، ويجهلون أن الأشياء غنما تتميز بأضدادها، وأن هدم النقيض ساعد في البناء، وأن الدواء لا يحدد إلا بعد معرفة الداء. إن هؤلاء القوم يقصون للبحث فيها بنوايا سيئة في الغالب، أو لا يرون من الأمور إلا جوانبها التي قد تستغل للهدم ... إن الأمور في حد ذاتها لا يمكن أن توصف بالخيرية أو بالشرية، فالقتل شر أحيانا، وخير أحيانا أخرى، وإنما الذي يمكن أن يوصف بتينك الصفتين هو التوجيه البشري للأمور، والحافز المؤدي إلى إحداثها.
كأني بهؤلاء القوم لا يدرون من أين تؤكل الكتف في هذا المجال، أفيجب علينا أن نتقفى سنن المستشرقين ومطاياهم من العرب في دراسة لهجاتنا؟ أليس ممكنا أن نقف على أوجه التشابه والاتفاق بين لهجاتنا فنبرزها ونتخذ منها موطئ قدم صلبة للعمل على التقريب بين ما اختلفت فيه، فتكون بذلك عامل توحيد؟! إن كان المر عسيرا، فأعتقد انك توافقني عزيزي القارئ، في أن المصاعب لا تحول بين الرجال وآمالهم ... أليس كذلك. وهذا لا يعني أن نبدأ بدراسة لهجاتنا أولا، بل عن علينا أن نبدأ بدراسة أنفسنا، ونقوض ما خلفته الأسباب التي سبق ذكرها من آثار على أمتنا، ثم نمضي لغير ذلك من الأمور، ومن ضمنها دراسة لهجاتنا على نحو ما أسلفت ـ بنية حسنة ـ وأورد فيما يأتي بعض كلمات ما زالت حية لدلالاتها القديمة في اللهجة العربية الليبية، وهذه المفردات هي:
سمحاق، شؤبوب، وقلت، وماجل، وجلجلان، وديموم.
وهذا لا يعني أن هذه المفردات هي كل ما في اللهجة الليبية من هذا القبيل ... وإنما خصصتها لأني لم أسمعها لدلالاتها القديمة إلا في اللهجة الليبية باستثناء بعضها، حيث يستخدم للدلالة نفسها في بعض البلدان، كالماجل في بعض أنحاء المغرب، والجلجلان في تهامة واليمن، كما خصصتها بذلك لأنها مما لم يعد يستخدم في الفصحى اليوم، لدلالته الأصلية أو لدلالة أخرى. اللهم إلا كلمة (شآبيب) جمع كلمة شؤبوب، في مثل قولك في الداعاء: ( اللهم أمطر علينا شأبيب رحمتك) وهذه العبارة، بكاملها، من القديم. ومرد ذلك إلى التغير الذي طرأ على البيئة العربية بوجه عام، الأمر الذي يؤكد الطابع الاجتماعي للغة في معظم مراحل نموها.
· سمحاق:
كانت دهشتي عظيمة عندما كنت أشرح لطلابي قصيدة (مقتل السلطان تاج الدين) لمحمد الفيتوري، حيث جاء في أولها:
خلف الأفق العربي سحاب أحمر لم يمطر (4)
وحيث كان بعض الطلبة من قسم الجغرافية، فأحببت أن أرشدهم إلى المصطلح ـ أو قل ـ الكلمة التي تطلق على (سحاب احمر لم يمطر)، فقلت: يمكننا الاستغناء عن هذه العبارة بكلمة واحدة هي (سماحيق)، ولم أكمل حتى قاطعني احد الطلبة (من غريان) بقوله: (سمحاق)، وأكد أن الكلمة مستخدمة في لهجتهم لدلالتها، وقد استغربت أن تكون مجهولة لتلكم الدلالة في لهجة النواحي الشرقية من ليبيا.
وقد وردت هذه الكلمة في الشعر الذي يحتج به مرة واحدة في شعر طرفة بن العبد البكري الشاعر الجاهلي، حيث قوله:
إذا ما الدجن أمسى في السماء كأنه سماحيق غيم وهي حمراء حرجف (5)
وقد استشهد ابن قتيبة في كتابه (الأنواء في مواسم العرب) (6) بهذا البيت، وقال: السماحيق سحب رقاق حمر تظهر في سني الجدب. قلت: ولذلك، فللكلمة دلالة على الغيم والحمرة وعدم الإمطار، أي على الذات ولونها وصفتها. وقد نقبت في الكتب بحثا عن شاهد آخر، فلم تسعفني به.
· الجلجلان:
وهو السمسم، والكلمة حية لدلالتها في لهجتي اليمن (وتهامة) و (ليبيا) .
· المأجل:
أو الماجل بتسهيل الهمزة، أو الماجن بتسهيلها وقلب اللام نونا. والأخيرتان من كلام أهل (ليبيا) والمغرب. والكلمة من بقايا العربية الجنوبية، من فرعها السبئي، وقد وردت في نقوش سبئية. وقد جاء في المعجم الكبير أن أصلها (م أق ل) بالقاف، وليس صحيحا، وإنما الصحيح في نظري أن تكون الجيم، لأن قلب الجيم كافا فارسية لهجة يمنية قديمة حديثة، فهي إذا من المادة (أجل) مفعل منها كمسجد، اسم مكان، لأن الماء يؤجل في موضعه مما تدل عليه، ذلك أن المأجل حوض كبير ينتهي إليه ماء عين دامعة، أو وشل، لا يكفي لري أو استقاء. فيحتال على شحه بجمعه في الحوض إلى أجل، أي إلى أن يكثر بحيث يصبح كافيا.
فبذلك تكون المادة ( أ ج ل) قد اشتق منها عرب اليمن قديما (المأجل) واشتق منها عرب الشمال (الأجل) وغيره، وبذا، فالأصل واحد ودلالته واحدة، وإنما اختلفت المشتقات في وجهاتها.
وطريف أن الكلمة لا تستخدم في المشرق العربي إلا في اليمن، وقد يقال: كيف توجه انتشارها في المغرب وليبيا؟ فأقول: إن عرب هذه البلاد يمنيون أصلا، وليسوا حجازيين، وتلك قصة تطول غير أني أورد بعض الأدلة منها:
أ. انتشار كلمة يمنية أخرى في المنطقة، كالجلجلان ونحوها.
ب. قلب السين صادا، والجيم كافا فارسية في كثير من أنحاء المغرب الأقصى، وهذه لهجة يمنية.
ج.شيوع المزمار اليمني في ليبيا وكثير من أنحاء المغرب.
د. شهادة التاريخ تشير إلى أن عرب اليمن كانوا أنشط للفتح من الحجازيين، وان اليمن كان مصدر هجرات كثيرة.
هـ . لم أقف على الكلمة في أثر جاهلي، الأمر الذي يشير إلى أنها انتشرت بعد الفتح الإسلامي ... ذلك أن الزعم أن لغة اليمن لم يرو بها شعر ـ زعم قوي. ولعل أول أثر وردت فيه هذه الكلمة هو قول الطرماح بن حكيم الطائي:
مثل ما دب إلى ماجل مترص الرصف عيون الكظام (7)
دب: سال بطيئا. مترص الرصيف: محكم الرصف بالحجارة، وهذا دليل على أن الماجل من المصانع. والكظام والكظائم، جمع كظامة وكظيمة بمعنى المكظومة، وهما العين الدامعة، سميت بذلك لأن الماء يكظم فيها، أي يحبس، ومن ذلك قوله تعالى: (والكاظمين الغيظ) ( أي الذين يحبسون غضبهم.
وقال رؤبة بن العجاج التميمية في مطر نزل:
وخالف الوقطان والمآجلا (9)
خالف المطر المكان وأخلفه، إذا لم يصبه. الوقطان: جمع وقط، وهو النقرة في الصخر تمسك الماء، أصغر من القلت.
قد وردت الكلمة في بلدان اليعقوبي، احمد بن واضح حيث قوله: ( ... إذا كانت الشتاء وقعت المطار والسيول، ودخل ماء المطر من الودية إلى برك عظام يقال لها المواجل) (10).
وفي هذا النص إشارات إلى أن المأجل من صنع الإنسان، وإلى انه يعد لحفظ الماء فيه، لتأجيله، والمواجل: والمواجل جمع ماجل، بتسهيل الهمزة. كما وردت الكلمة في كتاب صفة جزيرة العرب للهمداني، حيث قوله: (ومنهلها الذي يشرب منه أهل القلعة غيل بمآجل ... ووادي ضهر، وهو كثير الغيول والمآجل والمسايل) (11) والغيل هو الجدول يجري بين الأشجار والحجارة.
· شؤبوب:
والشؤبوب هو الدفعة الشديدة من المطر، التي غالبا ما تكون قليلة الانتشار، فتذهب طولا، والكلمة باقية لدلالتها في لهجة عرب ليبيا، يقولون شبوب، بتسهيل الهمزة ثم بحذفها. وقد وردت الكلمة لدلالتها في عدد كبير من الشواهد منها قول امرئ القيس في حصانه:
وولى كشأبوب العشى بوابل ويخرجن من جعد ثراه منصب (12)
أي قوياسريعا. وقال ثعلبة العبدى في درعه أنها:
بيضاء مثل النهى ريح ومده شآبيب غيث يحفش الأكمم صائف (13)
يقول: إن درعه بيضاء كالغدير إذا هبته الريح، ونزل عليه مطر غزير. وقال زهير بن أبي سلمى المزني:
فتبع آثار الشياه وليدنا كشؤبوب غيث يحفش الأكم وابله (14)
تبع: تتبع. الشياه: إناث الوعول، جمع شاه. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاجا:
كريق الشؤبوب في خمائلا (15)
الريق: الماء المنصب، فعيل من راق يريق بمعنى انصب ينصب. والخمائل جمع خميلة، وهي الروضة الناعمة.
وتلاحظ أن شاعرين أضافا الشؤبوب للعشي، وهذه عبارة كثر ورودها في أدب الاحتجاج. وفي هذا إشارات مهمة منها:
أن الكلمة يمانية أصلا، ذلك أن أمطار اليمن ـ ما يلي مكة جنوبا ـ صيفية، وأكثر ما تنزل بعد الظهر إلى العشاء، أي (عشيا)، وقد لاحظت ذلك أثناء إقامتي نحوا من ثمانية أعوام في تلك المنطقة، كما ذكر مثل ذلك عرام بن الأصبع السلمي في كتابه (أسماء جبال تهامة ...) والهمداني في (صفة جزيرة العرب).
ومما يؤكد أن الغالب في مطر الشق الجنوبي من بلاد العرب أن يكون العشي، استخدام كثير من شعراء الجاهلية كلمة (رائح) بمعنى المطر ينزل في العشي، والكلمة (فاعل) من راح يروح بمعنى عاد، والعودة غالبا ما تكون في العشية، أما تراهم سموا مأوى الماشية (مراحا) .... ذلك لأنها تروح إليه، أي تعود من مراعيها، عشيا.
وقد تهطل الشآبيب في غير تلك البلاد، وفي غير ذلك الوقت، ولم أهدف من وراء ما أسلفت إلى تقرير ما ينفي ذلك. وتلاحظ أن شاعرين نعتا الشؤبوب بعبارة (يحفش الأكم) أي يجرف حصى الآكام وطينها، وهذا النعت شائع في أدب الجاهلية.
· القلت:
وهو الحفرة الطبيعية في الصخر، أو التي يحدثها الماء فيه، في جبل كانت ام في واد. والكلمة باقية لدلالتها في لهجات ليبيا واليمن وموريتانيا. ولها في الفصحى دلالة أخرى تنصرف للنقرة في الصخر يحدثها ماء واشل يقطر من سقف كهف أو نحوه، فيوقب، أي يحدث تجويفا، على العكس مما يعرف بالصواعد والنوازل.
وجمع القلت أقلات وقلتة وقلتان وقلات. وقد زعم أبو زيد الأنصاري أن الكلمة مؤنث وحسب، محتجا بقول أبي النجم العجلي:
فسحرت خضراء في تسحيرها قلتا سقتها العين من غزيرها (16)
العين: مطر يأتي بلاد العرب من قبل البحر الأحمر، أنت ترى أن الراجز أنث الضمير العائد للقلت فقال (سقتها).
غير أن القلت قد ورد مذكرا في شواهد أولى بالأخذ من الشاهد السابق، لتقدمها عليه، ومنها قول مالك بن حريم الهذلي:
وقلتا مرت فيه السحابة ماءها بأنيابها والفارسي المشعشعا (17)
حيث ذكر الضمير العائد إليه في (فيه). وقال الكميت بن زيد:
قلات بالخطيطة جاوزتها فنض سمالها العين الدرور (18)
الخطيطة: الأرض لم تمطر بين أرضين ممطورتين. نضّ: عرى. سمالها: أثوابها الخلقة. يريد أن المطر كان غزيرا فغسلها. الدرور: فعول من در بمعنى الغزير المتحلب.
· الديموم:
ويؤنث، وتعني الصحراء المترامية التي قلما ينجو عابرها، وقد تطلق على البحر وعلى الظلام الدامس. والكلمة باقية لدلالتها في اللهجة الليبية. ومن شواهدها قديما، قول العشى:
فوق ديمومة تخيل للسفر قفارا إلا من الآجال (19)
أي في صحراء تبدو للمسافرين موحشة ليس فيها إلا بقر الوحش. وقال النامحترم الشيباني:
(بسيط)
ومهمه قفرة أجن مناهلها ديمومة ما بها جن ولا إنس (20)
حيث استخدم الكلمة نعتا للقفرة، وهي الأرض ليس بها إنس ولا حيوان. والجمع دياميم، قال الكميت:
تعرض قف بعد قف يقودها إلى سبسب منها دياميم سبسب (21)
أي يقودها إلى صحراء مترامية مستوية صحارى متناصية متصلة. والسبسب الصحراء المديدة المستوبة. والديمومة، فيعولة من دم بمعنى سوى. سميت به لاستوائها في اتصال.
نخلص مما سلف، إلى بيان جملة من الحقائق هي:
ـ أن دراسة اللهجات العربية تقرب بين العرب إذا قامت على حسن النية.
ـ أن اللهجات البدوية واحدة أو تكاد.
ـ الحدود تجسد الاختلاف بين اللهجات وتمد في عمره.
ـ أن ما تتفق فيه اللهجات اكبر مما تختلف فيه.
ـ أن معظم ألفاظ اللهجات العربية فصيحة لدلالتها وإن اختلفت الألفاظ والدلالات، ومرد ذلك إلى الاشتراك اللفظي والمعنوي.
ـتعقب الألفاظ في مواطنها يسهل تتبع هجرة القبائل العربية من المشرق إلى المغرب، أو غيره، كما تبين في تحليل كلمتي شؤبوب وماجل.
ـ هناك ألفاظ يظن أنها ليست من العربية، لأنها لم تعد تستخدم في الفصحى، وهي في الحقيقة من الفصيح العريق. وهذا يكشف عن الجهل بالعربية، وعن ضرورة العناية بها وبدراستها.
ـ ليس كل ما في المعاجم فصيحا، وليس فيها كل الفصيح، وليس كل ما ليس فيها عاميا.
ـ العربية بحاجة إلى أن تدون من جديد.
ـ للحضارة المادية، وللأجنبي، اثر كبير في تمزيق المجتمع العربي وسلك لهجاته في مجارٍ متباينة. وهنا، أذكّر بلهجة مالطة، والمدنية العربية بوجه عام ... ولست أرمي بذلك إلى التقليل من شان الحضارة المادية وجدواها، بل أريد أن أقول: حبذا لو رشدت أو كانت ذاتية إلى حد معقول.
وأود في البداية أن أشير إلى أن الفصحى ليست، بالضرورة، لغة امرئ القيس، أو لغة القرآن الكريم، فنقطع بذلك بعض السبل على أولئك النفر، بل إن لغة الأدب الجاهلي، والقرآن الكريم، تُفهمان إلى حد كبير من قبل معظم العرب. كما أود أن أشير، ثانيا، إلى أن الدعوى القائلة إن العرب لا يفهم بعضها بعضا، لما بين لهجاتهم من اختلاف، دعوى باطلة؛ ذلك بما هي قائمة على جهل القائلين بها من ناحية، ولأنها إن صدقت، فليس إلا في أحوال نادرة من حيث المكان، وقصيرة من حيث الزمان. وأذكر أنني قبل الشروع في الدراسات العليا، كنت جئت مصر لأول مرة بعد تسعة أعوام في الجزيرة العربية، ولاسيما الربع الخالي ـ سمعت برنامجا في إحدى الإذاعات يقدم تسجيلا (لفرح)، فحسبت أن الإذاعة هي الرياض، وأن الفرح واحد من تلك الأفراح التي كنا نحضرها في أكناف الربع الخالي ونجد ... وكم كانت دهشتي عندما انتهى البرنامج حين ذكرت المذيعة أن الإذاعة هي (الشرق الأوسط)، وقد كانت الدهشة أعظم عندما قالت عقب ذلك: نقلنا لكم صورة حية (لفرح) من منطقة السلوم. إن في هذا لما يكشف عن حقيقة جليلة، هي أن العرب يفهم بعضهم بعضا، وتتجانس أمزجتهم وعاداتهم في مشرق الوطن ومغربه.
وقل مثل ذلك في أمر سمعته على ألسنة القوم في خيبر الجنوب (شرقي عسير بين اليمن والحجاز) موقع قبيلة شهران، حيث يقولون: (معرفة الديار أمارة، ومعرفة الرجال تجارة، ومعرفة النساء خسارة). حيث اجتمعت مرة مع احد عرب تيوات جنوب الجزائر، في بيت صديقي السنوسي العربي الأنصاري، وكنا نتجاذب أطراف الحديث عن العروبة والإسلام وأهلها وتقاليدها، فذكرت المثل السابق، فإذا به يستغرب الأمر، وكان شيخا ولكنه في حماس الشباب، فاستفسرت ما السرّ؟، فقال عندنا مثل يناظره، قلت: ما هو؟ قال: نقول: ( العرف بالبلاد فوز، وعرف الرجال كنوز، وعرف النسا خنوز) . لقد سرني الأمر، بغض النظر عما ينطوي عليه من مجانبة للصواب؛ لا سيما في شقه المتعلق بالنساء، لكنه لم يدهشني لعلمي أن العرب امة واحدة، وإذا انتفى التجانس بين لهجات سكان مدنها وبين طباعهم، فذلك لما اعتور المدنية العربية من فساد في العصر الحديث، تمثل في إفراغها من مقومات الأصالة بفعل الاستعمار والأقليات الدخيلة والذين لا همَّ لهم غير القرش وما قرب منه، وغير الكرش وزاد في تخمته وانتفاخه. وإن التجانس ما يزال قائما بين البادين العرب من نواق الشط (نواكشوط) إلى الشحر ومن بحر العرب إلى الإسكندرية. أقول ذلك استنادا إلى ما تعلمته أثناء تجوالي ما بين خافقي الوطن خلال ستة عشر عاما ونيّف.
وجدير بالذكر أن الاختلاف اللهجي في مجال الأصوات، ليس من الكبر بحيث يشكل حاجزا يعوق التفاهم العربي، ذلك أن كثيرا من وجوهه مألوفة في الفصحى نفسها، إلى جانب أن في إمكان كل امرئ أن يدرك المقصود بالصوت المختلف، كأن يكون همزة أو كافا أو كافا والمقصود قاف.
أما الاختلاف في المفردات لمعانيها، أو لمعان مختلفة، فمرده إلى جملة من العلل أجرّد منها ما يلي:
أ. كثرة المشترك ـ اللفظي والمعنوي ـ في العربية:
فقوم قد يستخدمون كلمة (فرعة) لمعنى الشعبة من الجبل، أو الجبل نفسه، كما هي الحال في جنوب الحجاز، وقد يستخدمها قوم آخرون لمعنى آخر، كما هي الحال في الجماهيرية، حيث تعني السروال القصير. وقد يستخدم قوم كلمة (بصير) بمعنى الواسع الدراية أو الخبير، على الأصل، وقد يستخدمها غيرهم ـ العرب الليبيون مثلا ـ لمعنى الكفيف؛ على التفاؤل من موجهات الأضداد. والكلمة لهذه الدلالة دخيلة في لغة الهوسا من اللهجة الليبية.
وقد يستخدم قوم كلمة (سمسم) للمحصول المعروف، وعلى ذلك معظم العرب، بينما يستخدم غيرهم كلمة (جلجلان) مكانها، ومن ذلك عرب اليمن وتهامة والجماهيرية. ومن ذلك كلمة (تين) للثمرة المعروفة، حيث هي المستخدمة في معظم اللهجات العربية، غير أننا نجد قبيلة خثعم شمال تبالة من بلاد عسير، تستخدم كلمة (بلسن) مكانها. ومن ذلك في ديارهم (جبل البلس) وهو جبل عالٍ تكثر فيه أشجار التين. وقد وردت الكلمة لدلالتها في شعر أبي العلاء المعري، حيث قوله:
يقنعني بَلْسَن يمارس لي فإن أتتني حلاوة فبلس (1)
والبلسن هو العدس في لهجة اليمن المعاصرة.
وتستخدم قبيلتا زهران وغامد ـ من قبائل الحجاز ـ كلمة قهدة بمعنى التين، كما تستخدم (حماط) في معظم أنحاء الحجاز جنوب مكة، وعسير إلى نجران. والحماط لغة التين الجبلي، ويضرب المثل في الخبث بتين الحماط ، والكلمة قديمة لدلالتها في أشعار الهذليين. ويستخدم عرب ليبيا وغرب مصر، وبعض بلدان المغرب كلمة (كرموس) بمعنى التين، وكرموز، بقلب السين زايا لمخالفة الميم في الهمس، كأحد أحياء الإسكندرية إلى الغرب منها، وجدير بالذكر أن المنطقة الممتدة غرب الإسكندرية مشهورة بكثرة ما فيها من شجر التين. وأعتقد أنها سميت به، وأن اصل الكلمة (كرم) والواو والسين زائدتان كما هي الحال في (قدموس) بمعنى قديم، او الصخرة القديمة، قال عبيد بن الأبرص:
ولنا دار ورثنا غيرها م الأقدم القدموس عن عم وخال (2)
يقصد في رأس جبل كثير الصخور.
والواو والسين هاهنا كالواو والتاء في عنكبوت وتربوت، بل إن السين والتاء قد تبدل إحداهما من الأخرى كما هي الحال في مت ومس بمعنى مي ومط، ولا عجب فهما متقاربان في المخرج متحدان في صفة الهمس. وقد يكون المقطع (وس) ناجما عن تأثر باللاتينية، حيث يضاف علامة للرفع. والكرم هو البستان فيه عنب وتين وعلى هذا لهجة الشوام بعامة.
ومن قبيل ذلك أن التهاميين وعرب جنوب الحجاز يسمون الزيتون عتما، وهو لغة الزيتون الجبلي، والكلمة لدلالتها في أشعار هذيل، بينما يطلق أهل عدن كلمة زيتون على الفاكهة المعروفة باسم (الجوافة) من فواكه الصيف.
ب. جهل العرب بالفصحى
العرب، حتى المثقفين منهم ليس فيهم من يحيط باللغة العربية، ليس لأن اللغات ليس مما يحاط به وحسب، بل لأن معظمهم من التقصير بحيث يزداد عجزهم أفرادا وجماعات عن الإلمام بما يتضمن ويمثل أبعاد المفارقات بين بعض اللهجات. فالكلمتان (فهر وفلو) من الكلام الفصيح، وهما لدلالة واحدة، غير انهما قليلا ما تجتمعان في لهجة واحدة. إلا ان إتقان الناس للفصحى، ومعرفتهم بألفاظها ومشتركها، تمكنهم من فهم بعضهم بعضا في حال توفرهما. وقد تكشف عكس ذلك، عندما ذكرت شيئا من هذا الأمر لطلابي في إحدى المحاضرات. حيث وجدت بعضهم يستخدمون كلمة (مهر) وبعضهم يستخدمون كلمة (فلو) ... وكم كان أسفي عندما وجدت بينهم من يستخدم عبارة (حصان صغير) ... عبارة صحيحة إلى حد ما، ولكنها ليست من الفصحى قلامة أظفور.
ويتبين أثر إتقان الفصحى في التقريب بين اللهجات العربية وتوحيدها في ما تقدمه المدرسة العربية الحديثة في هذا المجال، بالرغم من سوء حالها إذا ما قورنت بالمدرسة القرآنية.
ج. عدم الاتصال:
ويتضح أثر الاتصال في توحيد اللهجات العربية، في رصد اللهجات المستخدمة في الأقاليم المتجاورة من أرجاء الوطن الكبير، حيث نجد المتحدثين بها يتفاهمون بسهولة مطلقة، بل الغالب أن تكون اللهجة واحدة في تلكم البيئات، ويتجلى ذلك في البادية العربية في جانبي الوطن الكبير، حيث يشكل التنقل عامل اتصال مستمر، ولم يحدثنا أي مؤرخ أن العرب وجدت صعوبة في التفاهم بعضها مع بعض بعد الإسلام، أو قبله، اللهم إلا ما يروى عن أبي عمرو بن العلاء من قوله: (ما لسان حمير بلساننا، وما لغتهم بلغتنا.)، ويسهل تعليل هذه العبارة إذا أخذنا في الاعتبار البعد، واختلاف البيئتين العربية الشمالية والعربية الجنوبية.
ولعل المستعمرين أدركوا ما لعدم الاتصال من أثر في تكريس التفرقة والانفصال، فأقام الكيان الصهيوني فاصلا بين شقي الوطن: البر الشرقي والبر الغربي. فانقطع الاتصال المباشر ... وها هم يتمادون، وها نحن لا نحرك ساكنا، إزاء مد الفاصل شمالا إلى جنوب لبنان، وجنوبا إلى مصر بل إلى السودان . ليصبح الخرق أكبر من جهد الراقع.
د. الآثار الدخيلة والحضارة المادية:
أكثر ما يتجلى ؟أثرهما في لهجات المدن العربية؛ حيث تتغير اللهجات فيها بسرعة، وحيث تخضع المدن لنظم وأساليب تفسح المجال واسعا أمام الدخلاء وتبعاتهم. فلهجاتهم، والحال هذه، تفقد ألفاظا لم تعد تعنيهم، لتستوعب ألفاظا تعرف لمسميات ومدلولات مستحدثة. ولا يقف الحد عند الألفاظ والمعاني، بل يتعداها إلى الأصوات ومخارج الحروف وغير ذلك. حيث يميل سكان المدينة إلى اللين والأخذ به في كل شيء. على العكس من ذلك الفلاحون ... وأشد ما تكون المخالفة عند البدو. وهذا يفسر اختلاف لهجة سكان دمشق عن لهجة حوران من سورية. واتفاق لهجتي نابلس والقدس في معظم جوانبهما. واختلافهما عن لهجة سكان الجبال غرب نابلس رغم القرب المكاني بينهما. ورغم البعد بين نابلس والقدس.
كما يفسر ذلك اتفاق لهجات البدو حيثما وجدوا، رغم المسافات الشاسعة التي تفصل بينهم، والحدود الآثمة التي تحول بينهم ... وقد تبين لي بالممارسة والدراسة الميدانية أن لهجات الجزيرة العربية بعامة ، والبدو من سكانها بخاصة، ولهجات البوادي في الشق الغربي من الوطن، وغرب تشاد والنيجر، وبوادي الشام والعراق وفلسطين وسيناء وغرب مصر والسودان ـ أنها تكاد تكون واحدة في معظم ألفاظها ومعانيها ومخارج الحروف فيها.
وقد تبين لي أن طلاب المدرسة الابتدائية في (غات) كانوا يفهمون لهجتي (وهي خليط من لهجات شتى، ولكنها بدوية إلى حد كبير) كما كنت أتفاهم مع المرحوم ( علي باعلاق عمر) من عرب تشاد، أكثر من تفاهمي مع غيره من العرب الذين ينتمون إلى بيئات حضرية مختلفة. لقد كنت أسمع في كلامه صوت (بداح القرقاح القحطاني) من عرب نجد،في ألفاظه ومعانيه.
وقد يخطر ببال أني إلى المبالغة ... غير أني أملك الدليل التجريبي لإثبات كل ما تقدم، وأكثر منه، وقد حدا بي ما نحن بصدده إلى البدء بدراسة تقابلية حول لهجتي البادية في كل من ليبيا ونجد، وبخاصة في مجال الشعر الشعبي. وإنك ليهزك ما بين اللهجتين من تقارب يمكنك أن تقف على أبعاده بالاستماع إلى الشاعر الشعبي الرقيعي، أو نور الدين العزومي، من عرب ليبيا، وإلى شعر (ابن سبيل) من عرب نجد.
هـ . نقص المعجم العربي:
فكم من كلمة عربية أصيلة مستخدمة في اللهجات المختلفة ـ لا نجدها في المعجم إما لدلالتها أو لدلالة أخرى قريبة أو بعيدة، ويسهل التحقق من ذلك بدراسة بعض اللهجات العربية المنعزلة، وبمقابلة بعض مفرداتها بالفصيح اتكاء على تقارب الألفاظ وعلى قواعد التناظر بين اللغات السامية.
ومما يقطع بذلك، ما تجده في مجاميع الشعر من ألفاظ ليست في المعاجم، ويمكنك التثبت من ذلك بالاطلاع على فهارس بعض الكتب التي حققها الأستاذ عبد السلام هارون، حيث ضمنها قوائم بالمفردات التي وردت في تلك الكتب مما لم يرد في المعاجم.
ومرجع ذلك إلى أن الذين دونوا العربية إنما اعتمدوا المشافهة والرواية عن اعراب شبه الجزيرة بالتنقل بين أصقاعها ... الأمر الذي لايمكن ان يتم لأي امرئ أو جماعة على نحو كامل. ولذلك جاءت المعاجم ناقصة. وإن عدم ورود كلمة فيها لا يعني أن تلك الكلمة ليست من العربي الفصيح.
إن الذين يحجمون عن دراسة اللهجات العربية مدعين أنها عامل تفريق مخطئون، ويجهلون أن الأشياء غنما تتميز بأضدادها، وأن هدم النقيض ساعد في البناء، وأن الدواء لا يحدد إلا بعد معرفة الداء. إن هؤلاء القوم يقصون للبحث فيها بنوايا سيئة في الغالب، أو لا يرون من الأمور إلا جوانبها التي قد تستغل للهدم ... إن الأمور في حد ذاتها لا يمكن أن توصف بالخيرية أو بالشرية، فالقتل شر أحيانا، وخير أحيانا أخرى، وإنما الذي يمكن أن يوصف بتينك الصفتين هو التوجيه البشري للأمور، والحافز المؤدي إلى إحداثها.
كأني بهؤلاء القوم لا يدرون من أين تؤكل الكتف في هذا المجال، أفيجب علينا أن نتقفى سنن المستشرقين ومطاياهم من العرب في دراسة لهجاتنا؟ أليس ممكنا أن نقف على أوجه التشابه والاتفاق بين لهجاتنا فنبرزها ونتخذ منها موطئ قدم صلبة للعمل على التقريب بين ما اختلفت فيه، فتكون بذلك عامل توحيد؟! إن كان المر عسيرا، فأعتقد انك توافقني عزيزي القارئ، في أن المصاعب لا تحول بين الرجال وآمالهم ... أليس كذلك. وهذا لا يعني أن نبدأ بدراسة لهجاتنا أولا، بل عن علينا أن نبدأ بدراسة أنفسنا، ونقوض ما خلفته الأسباب التي سبق ذكرها من آثار على أمتنا، ثم نمضي لغير ذلك من الأمور، ومن ضمنها دراسة لهجاتنا على نحو ما أسلفت ـ بنية حسنة ـ وأورد فيما يأتي بعض كلمات ما زالت حية لدلالاتها القديمة في اللهجة العربية الليبية، وهذه المفردات هي:
سمحاق، شؤبوب، وقلت، وماجل، وجلجلان، وديموم.
وهذا لا يعني أن هذه المفردات هي كل ما في اللهجة الليبية من هذا القبيل ... وإنما خصصتها لأني لم أسمعها لدلالاتها القديمة إلا في اللهجة الليبية باستثناء بعضها، حيث يستخدم للدلالة نفسها في بعض البلدان، كالماجل في بعض أنحاء المغرب، والجلجلان في تهامة واليمن، كما خصصتها بذلك لأنها مما لم يعد يستخدم في الفصحى اليوم، لدلالته الأصلية أو لدلالة أخرى. اللهم إلا كلمة (شآبيب) جمع كلمة شؤبوب، في مثل قولك في الداعاء: ( اللهم أمطر علينا شأبيب رحمتك) وهذه العبارة، بكاملها، من القديم. ومرد ذلك إلى التغير الذي طرأ على البيئة العربية بوجه عام، الأمر الذي يؤكد الطابع الاجتماعي للغة في معظم مراحل نموها.
· سمحاق:
كانت دهشتي عظيمة عندما كنت أشرح لطلابي قصيدة (مقتل السلطان تاج الدين) لمحمد الفيتوري، حيث جاء في أولها:
خلف الأفق العربي سحاب أحمر لم يمطر (4)
وحيث كان بعض الطلبة من قسم الجغرافية، فأحببت أن أرشدهم إلى المصطلح ـ أو قل ـ الكلمة التي تطلق على (سحاب احمر لم يمطر)، فقلت: يمكننا الاستغناء عن هذه العبارة بكلمة واحدة هي (سماحيق)، ولم أكمل حتى قاطعني احد الطلبة (من غريان) بقوله: (سمحاق)، وأكد أن الكلمة مستخدمة في لهجتهم لدلالتها، وقد استغربت أن تكون مجهولة لتلكم الدلالة في لهجة النواحي الشرقية من ليبيا.
وقد وردت هذه الكلمة في الشعر الذي يحتج به مرة واحدة في شعر طرفة بن العبد البكري الشاعر الجاهلي، حيث قوله:
(بسيط)
إذا ما الدجن أمسى في السماء كأنه سماحيق غيم وهي حمراء حرجف (5)
وقد استشهد ابن قتيبة في كتابه (الأنواء في مواسم العرب) (6) بهذا البيت، وقال: السماحيق سحب رقاق حمر تظهر في سني الجدب. قلت: ولذلك، فللكلمة دلالة على الغيم والحمرة وعدم الإمطار، أي على الذات ولونها وصفتها. وقد نقبت في الكتب بحثا عن شاهد آخر، فلم تسعفني به.
· الجلجلان:
وهو السمسم، والكلمة حية لدلالتها في لهجتي اليمن (وتهامة) و (ليبيا) .
· المأجل:
أو الماجل بتسهيل الهمزة، أو الماجن بتسهيلها وقلب اللام نونا. والأخيرتان من كلام أهل (ليبيا) والمغرب. والكلمة من بقايا العربية الجنوبية، من فرعها السبئي، وقد وردت في نقوش سبئية. وقد جاء في المعجم الكبير أن أصلها (م أق ل) بالقاف، وليس صحيحا، وإنما الصحيح في نظري أن تكون الجيم، لأن قلب الجيم كافا فارسية لهجة يمنية قديمة حديثة، فهي إذا من المادة (أجل) مفعل منها كمسجد، اسم مكان، لأن الماء يؤجل في موضعه مما تدل عليه، ذلك أن المأجل حوض كبير ينتهي إليه ماء عين دامعة، أو وشل، لا يكفي لري أو استقاء. فيحتال على شحه بجمعه في الحوض إلى أجل، أي إلى أن يكثر بحيث يصبح كافيا.
فبذلك تكون المادة ( أ ج ل) قد اشتق منها عرب اليمن قديما (المأجل) واشتق منها عرب الشمال (الأجل) وغيره، وبذا، فالأصل واحد ودلالته واحدة، وإنما اختلفت المشتقات في وجهاتها.
وطريف أن الكلمة لا تستخدم في المشرق العربي إلا في اليمن، وقد يقال: كيف توجه انتشارها في المغرب وليبيا؟ فأقول: إن عرب هذه البلاد يمنيون أصلا، وليسوا حجازيين، وتلك قصة تطول غير أني أورد بعض الأدلة منها:
أ. انتشار كلمة يمنية أخرى في المنطقة، كالجلجلان ونحوها.
ب. قلب السين صادا، والجيم كافا فارسية في كثير من أنحاء المغرب الأقصى، وهذه لهجة يمنية.
ج.شيوع المزمار اليمني في ليبيا وكثير من أنحاء المغرب.
د. شهادة التاريخ تشير إلى أن عرب اليمن كانوا أنشط للفتح من الحجازيين، وان اليمن كان مصدر هجرات كثيرة.
هـ . لم أقف على الكلمة في أثر جاهلي، الأمر الذي يشير إلى أنها انتشرت بعد الفتح الإسلامي ... ذلك أن الزعم أن لغة اليمن لم يرو بها شعر ـ زعم قوي. ولعل أول أثر وردت فيه هذه الكلمة هو قول الطرماح بن حكيم الطائي:
(رمل)
مثل ما دب إلى ماجل مترص الرصف عيون الكظام (7)
دب: سال بطيئا. مترص الرصيف: محكم الرصف بالحجارة، وهذا دليل على أن الماجل من المصانع. والكظام والكظائم، جمع كظامة وكظيمة بمعنى المكظومة، وهما العين الدامعة، سميت بذلك لأن الماء يكظم فيها، أي يحبس، ومن ذلك قوله تعالى: (والكاظمين الغيظ) ( أي الذين يحبسون غضبهم.
وقال رؤبة بن العجاج التميمية في مطر نزل:
(رجز)
وخالف الوقطان والمآجلا (9)
خالف المطر المكان وأخلفه، إذا لم يصبه. الوقطان: جمع وقط، وهو النقرة في الصخر تمسك الماء، أصغر من القلت.
قد وردت الكلمة في بلدان اليعقوبي، احمد بن واضح حيث قوله: ( ... إذا كانت الشتاء وقعت المطار والسيول، ودخل ماء المطر من الودية إلى برك عظام يقال لها المواجل) (10).
وفي هذا النص إشارات إلى أن المأجل من صنع الإنسان، وإلى انه يعد لحفظ الماء فيه، لتأجيله، والمواجل: والمواجل جمع ماجل، بتسهيل الهمزة. كما وردت الكلمة في كتاب صفة جزيرة العرب للهمداني، حيث قوله: (ومنهلها الذي يشرب منه أهل القلعة غيل بمآجل ... ووادي ضهر، وهو كثير الغيول والمآجل والمسايل) (11) والغيل هو الجدول يجري بين الأشجار والحجارة.
· شؤبوب:
والشؤبوب هو الدفعة الشديدة من المطر، التي غالبا ما تكون قليلة الانتشار، فتذهب طولا، والكلمة باقية لدلالتها في لهجة عرب ليبيا، يقولون شبوب، بتسهيل الهمزة ثم بحذفها. وقد وردت الكلمة لدلالتها في عدد كبير من الشواهد منها قول امرئ القيس في حصانه:
(طويل)
وولى كشأبوب العشى بوابل ويخرجن من جعد ثراه منصب (12)
أي قوياسريعا. وقال ثعلبة العبدى في درعه أنها:
(كامل)
بيضاء مثل النهى ريح ومده شآبيب غيث يحفش الأكمم صائف (13)
يقول: إن درعه بيضاء كالغدير إذا هبته الريح، ونزل عليه مطر غزير. وقال زهير بن أبي سلمى المزني:
(طويل)
فتبع آثار الشياه وليدنا كشؤبوب غيث يحفش الأكم وابله (14)
تبع: تتبع. الشياه: إناث الوعول، جمع شاه. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاجا:
(رجز)
كريق الشؤبوب في خمائلا (15)
الريق: الماء المنصب، فعيل من راق يريق بمعنى انصب ينصب. والخمائل جمع خميلة، وهي الروضة الناعمة.
وتلاحظ أن شاعرين أضافا الشؤبوب للعشي، وهذه عبارة كثر ورودها في أدب الاحتجاج. وفي هذا إشارات مهمة منها:
أن الكلمة يمانية أصلا، ذلك أن أمطار اليمن ـ ما يلي مكة جنوبا ـ صيفية، وأكثر ما تنزل بعد الظهر إلى العشاء، أي (عشيا)، وقد لاحظت ذلك أثناء إقامتي نحوا من ثمانية أعوام في تلك المنطقة، كما ذكر مثل ذلك عرام بن الأصبع السلمي في كتابه (أسماء جبال تهامة ...) والهمداني في (صفة جزيرة العرب).
ومما يؤكد أن الغالب في مطر الشق الجنوبي من بلاد العرب أن يكون العشي، استخدام كثير من شعراء الجاهلية كلمة (رائح) بمعنى المطر ينزل في العشي، والكلمة (فاعل) من راح يروح بمعنى عاد، والعودة غالبا ما تكون في العشية، أما تراهم سموا مأوى الماشية (مراحا) .... ذلك لأنها تروح إليه، أي تعود من مراعيها، عشيا.
وقد تهطل الشآبيب في غير تلك البلاد، وفي غير ذلك الوقت، ولم أهدف من وراء ما أسلفت إلى تقرير ما ينفي ذلك. وتلاحظ أن شاعرين نعتا الشؤبوب بعبارة (يحفش الأكم) أي يجرف حصى الآكام وطينها، وهذا النعت شائع في أدب الجاهلية.
· القلت:
وهو الحفرة الطبيعية في الصخر، أو التي يحدثها الماء فيه، في جبل كانت ام في واد. والكلمة باقية لدلالتها في لهجات ليبيا واليمن وموريتانيا. ولها في الفصحى دلالة أخرى تنصرف للنقرة في الصخر يحدثها ماء واشل يقطر من سقف كهف أو نحوه، فيوقب، أي يحدث تجويفا، على العكس مما يعرف بالصواعد والنوازل.
وجمع القلت أقلات وقلتة وقلتان وقلات. وقد زعم أبو زيد الأنصاري أن الكلمة مؤنث وحسب، محتجا بقول أبي النجم العجلي:
(رجز)
فسحرت خضراء في تسحيرها قلتا سقتها العين من غزيرها (16)
العين: مطر يأتي بلاد العرب من قبل البحر الأحمر، أنت ترى أن الراجز أنث الضمير العائد للقلت فقال (سقتها).
غير أن القلت قد ورد مذكرا في شواهد أولى بالأخذ من الشاهد السابق، لتقدمها عليه، ومنها قول مالك بن حريم الهذلي:
(طويل)
وقلتا مرت فيه السحابة ماءها بأنيابها والفارسي المشعشعا (17)
حيث ذكر الضمير العائد إليه في (فيه). وقال الكميت بن زيد:
(وافر)
قلات بالخطيطة جاوزتها فنض سمالها العين الدرور (18)
الخطيطة: الأرض لم تمطر بين أرضين ممطورتين. نضّ: عرى. سمالها: أثوابها الخلقة. يريد أن المطر كان غزيرا فغسلها. الدرور: فعول من در بمعنى الغزير المتحلب.
· الديموم:
ويؤنث، وتعني الصحراء المترامية التي قلما ينجو عابرها، وقد تطلق على البحر وعلى الظلام الدامس. والكلمة باقية لدلالتها في اللهجة الليبية. ومن شواهدها قديما، قول العشى:
(خفيف)
فوق ديمومة تخيل للسفر قفارا إلا من الآجال (19)
أي في صحراء تبدو للمسافرين موحشة ليس فيها إلا بقر الوحش. وقال النامحترم الشيباني:
(بسيط)
ومهمه قفرة أجن مناهلها ديمومة ما بها جن ولا إنس (20)
حيث استخدم الكلمة نعتا للقفرة، وهي الأرض ليس بها إنس ولا حيوان. والجمع دياميم، قال الكميت:
(طويل)
تعرض قف بعد قف يقودها إلى سبسب منها دياميم سبسب (21)
أي يقودها إلى صحراء مترامية مستوية صحارى متناصية متصلة. والسبسب الصحراء المديدة المستوبة. والديمومة، فيعولة من دم بمعنى سوى. سميت به لاستوائها في اتصال.
نخلص مما سلف، إلى بيان جملة من الحقائق هي:
ـ أن دراسة اللهجات العربية تقرب بين العرب إذا قامت على حسن النية.
ـ أن اللهجات البدوية واحدة أو تكاد.
ـ الحدود تجسد الاختلاف بين اللهجات وتمد في عمره.
ـ أن ما تتفق فيه اللهجات اكبر مما تختلف فيه.
ـ أن معظم ألفاظ اللهجات العربية فصيحة لدلالتها وإن اختلفت الألفاظ والدلالات، ومرد ذلك إلى الاشتراك اللفظي والمعنوي.
ـتعقب الألفاظ في مواطنها يسهل تتبع هجرة القبائل العربية من المشرق إلى المغرب، أو غيره، كما تبين في تحليل كلمتي شؤبوب وماجل.
ـ هناك ألفاظ يظن أنها ليست من العربية، لأنها لم تعد تستخدم في الفصحى، وهي في الحقيقة من الفصيح العريق. وهذا يكشف عن الجهل بالعربية، وعن ضرورة العناية بها وبدراستها.
ـ ليس كل ما في المعاجم فصيحا، وليس فيها كل الفصيح، وليس كل ما ليس فيها عاميا.
ـ العربية بحاجة إلى أن تدون من جديد.
ـ للحضارة المادية، وللأجنبي، اثر كبير في تمزيق المجتمع العربي وسلك لهجاته في مجارٍ متباينة. وهنا، أذكّر بلهجة مالطة، والمدنية العربية بوجه عام ... ولست أرمي بذلك إلى التقليل من شان الحضارة المادية وجدواها، بل أريد أن أقول: حبذا لو رشدت أو كانت ذاتية إلى حد معقول.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر