عشرون عاما ًعلى سقوط «جدار العار» الذي فصل بين برلين الشرقية وبرلين الغربية طوال عقود... وسبعة أعوام على قيام «جدار العار» الذي يفصل بين فلسطين العربية وفلسطين المحتلة. ولو كان لإسرائيل أن تحتفل بهذه «الذكرى» مثلما يفعل الألمان اليوم بذكرى جدارهم، لفعلت دون تردّد. فهذا الجدار الذي أقامته بحجة أمنية أصبح أشبه بجدار «العزل» العنصري الذي يفصل بين الشعب «المختار» والشعب المقتلع. ولم يفصل هذا الجدار بين الأرض الأم والأرض المحتلة فقط، بل فصل الأرض الأم عن أطرافها، فصل الأهل عن أهلهم، والمزارعين عن بساتين الزيتون والأحياء عن موتاتهم... راح الجدار القاسي، الزاحف كسلحفاة عملاقة، يقضم ما أمكنه من أحياء ومنازل وحقول غير آبه بأهليها، أولئك الذين لم يبق أمامهم إلا المغادرة إلى ما تبقى من الأرض، هناك، في الناحية الأخرى.
لا يمكن للمواطن العربي إلا أن يتألم عندما يشاهد الألمان يحتفلون بالذكرى العشرين لسقوط جدار برلين. هذا المشهد الذي صنع تاريخاً جديداً للمدينة يترك الكثير من الأسى في نفوسنا، نحن العرب الذين أصبحنا فلسطينيين بالتبني والألم والخيبة . ومثلما تسلّق الشبان الألمان جدارهم عام 1989 وراحوا يُعملون معاولهم فيه هادمين أجزاء منه، تسلّق بضعة شبان فلسطينيين «جدار العار» وراحوا يقتطعون منه أجزاء، لكن الجيش الإسرائيلي كان في انتظارهم، كعادته. شاء هؤلاء الشبان أن يحذوا حذو الشبان الألمان في هذه الذكرى وأن يسقطوا بضعة أجزاء من الجدار وعجزوا. هذا جدار من حقد وكراهية وليس من إسمنت. جدار عنصري صلب وقاسٍ أقامته إسرائيل لتقول علانية وعلى مسمع العالم، إن «النقاش» انتهى هنا، على قاعدة هذا الجدار، جدار الاستبداد .
بدا مشهد الشبان الفلسطينيين الذين انقضوا على الجدار في غفلة من عين الديناصور الإسرائيلي، أليماً جداً. كانت حماستهم رائعة لكن خيبتهم كانت مريرة. هذا الحلم الصغير سقط سريعاً تحت ضربات الجنود ورصاصهم. لكنه الحلم ولو قدّر له أن يطول، الحلم الذي يظل يلمع في العيون كالسراب .
أقيم جدار برلين ليمنع المواطنين من الخروج، أما «جدار العار» في فلسطين فأقيم ليمنع أهل الأرض من الدخول إلى أرضهم، ليمنعهم من العودة إلى ماضيهم وذكرياتهم، إلى بيوتهم وحقولهم... الحلم في الخروج إلى عالم الحرية يقابله حلم في الدخول إلى عالم الذات، الذات التي هي الأرض مثلما هي الهواء والماء والتراب... أقيم جدار برلين ليأسر المواطنين في الداخل، أما «جدار العار» في فلسطين فأقيم ليأسر الناس في الخارج. وقد أضحى هذا الخارج الذي يرسم الجدار تخومه، بمثابة السجن الكبير، السجن الذي ينعم بالهواء الطلق وتشرق عليه شمس فلسطين وتضيئه في الليل نجومها. إنه الوطن الذي استحال سجناً كبيراً ينتهي أمام هذا الجدار، جدار الاسمنت والبغضاء. لم يشأ الإسرائيليون إقامة هذا الجدار لتصبح حياتهم كما يرجونها، طبيعية وهادئة، بل ليجعلوا حياة الفلسطينيين حياة مجتزأة وغير طبيعية .
هل أصبح «جدار العار» في فلسطين حقيقة تاريخية؟ هل سيتمكن الفلسطينيون من هدمه ذات يوم كما فعل الألمان بجدارهم؟ لعل الجواب يمكن استخلاصه مما قاله الكاتب الإسرائيلي دافيد غروسمان، اليساري والمعارض كما يوصف: «أريد أن أبدأ الحياة. أريد أن تُفتح أبواب في هذا الجدار». لم يدعُ غروسمان إلى إسقاط هذا الجدار، دعا إلى فتح أبواب فيه، أي إلى إبقائه ولكن بأبواب. ولعله يدرك جيداً ماذا يعني الباب في معجم الجيش الإسرائيلي وفي حياة المواطنين الفلسطينيين .
قام الكاتب المسرحي البريطاني دافيد هار قبل فترة بجولة على «ضواحي» الجدار في فلسطين بغية كتابة نص درامي، وعندما عاد، كتب ما يشبه الشهادة الأليمة، ناقلاً صورة مأسوية عن الحياة الفلسطينية ما وراء الجدار. وقد آلمه منظر القدس كثيراً فكتب يقول: «كانت القدس جميلة، أما الآن فلا. أعتقد شخصياً أن القدس ذُبحت ».
لا أعتقد أن شاعراً أو كاتباً فلسطينياً سيجلس سانداً ظهره إلى هذا الجدار، حالماً ومحدقاً إلى البعيد الغامض، ليكتب ما يكتبه الأدباء الذين يملكون جدراناً تحميهم. هذا الجدار لم يكن ليحمي كما تفعل الجدران عادة، جدران الغرف أو البيوت والمدن. لكنّ الخوف، كل الخوف، ألا يصبح هذا الجدار «حائط» مبكى، فلسطينياً، يزوره الفلسطينيون ليبكوا أمامه ماضياً اندثر وذكريات عن بلاد لم يبق منها إلا القليل.
لا بد من الحلم بهدم هذا الجدار، مهما بدا هذا الحلم ضئيلاً وواهياً وصعب المنال أو عصياً. فالحلم يظل أجمل من هذا الكابوس الذي يعيش الفلسطينيون وراء الجدار والذي يشوّه حياتهم اليومية وروحهم، جماعة وأفراداً. هذا الحلم لا بد منه ولو لم يبد «إلا عزاء واهياً للناس الذي يعانون الأسر» كما قال المفكر تزفتان تودوروف في جريرة كلامه عن هذا الجدار. الحلم بهدم هذا الجدار عزاء واهٍ؟ ليكن... ما دام هذا الجدار قائماً .
بين جدار برلين الذي سقط قبل عشرين عاماً و «جدار العار» الذي أقيم في فلسطين قبل سبعة أعوام، يبدو المشهد مختلفاً تماماً. هناك على أنقاض ذاك الجدار نهضت حياة جديدة، وهنا في ظل هذا الجدار لن يبقى إلا ما توافر من حياة. اللعنة عليك يا جدار إسرائيل .
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر