يبدأ المشهد الأول بصورة طفل.. الصورة من الحجم الوسط وبها يظهر الطفل
كاملاً بقامته القصيرة، ويبدو سعيدًا يرفع بيده شيئًا لا نكتشفه، وغموضه
يقودنا إلى محاولة البحث عن كنهه، هل هو لعبة صغيرة أم مركب ورقي؟ كون
الطفل من غزة فهذا يربطه مباشرة بالبحر.. أم أنه كمشة أحلام يحملها للغد
الذي لن يأتيه بشي سوى الفقدان.
تزول الصورة ويبقى أثرها في
الذهن، وتزاحمها مئات الصور لأناس لا نعرفهم لكننا حتمًا نعرفهم لأنهم
يشبهوننا. تلك العجوز قد تكون جدتي، وأولئك الرجال المرتدون العمامات التي
تقول إنهم فلسطينيون هم أعمامي، وتلك الحلقة من الشباب الدبيكة في عرس
أحدهم، خالي كان هو العريس، وتلك الجميلة التي يجللها الوقار، يصرّ المصور
على توشيح صورتها بإضافة تلك الحسنة التي كانت لازمة لكل حسناوات ذلك
الزمن، وتلك الأم المبتسمة التي يحيط بها أطفالها، وكأن وجهها أقحوانة
ووجوه أطفالها أوراق زهرتها، إنها تشبه أمي، كان يمكن لأمي أن تكون هي
المزروعة في فريم تلك الصورة.
صور وصور وصور تخربشنا وتحرك ماء
قلوبنا الراكد وتجبر دموعنا المتحجرة على التحرر، تلك الصور التي توشوش في
آذاننا بكلمات بسيطة وقريبة جدًّا للقلب، وتقول لنا كم كان الأمس جميلاً
وكم هو كبير حجم خسارتنا.
أكبر من كل السماء التي تقبل أن تظللنا
كما عدونا.. وأكبر من البحر الذي يبتلع أحلام بحارتنا وقواربهم الصغيرة
ويأبى أن يبتلع ذكرياتهم لتبقى هي تعذبنا وتذكرنا أيضا بكل الذين كانوا.
كلمة
واحدة كانت تكتب في هامش كل الصور التي مرت أمامنا في أقل من ساعة، الكلمة
هي غزة.. ورأيتها -ليس غزة بل الكلمة- تكبر وتكبر، يضخمها الخطر ويجعل
منها القلق أكثر سوداوية، ويؤهلها مرور الوقت للانفجار، وهذا ما كان، وهذا
أقسى ما عكسته الصور، ذكرتنا بجمالنا وروعة ما كنا عليه، ثم كشفت النقاب
عنا اليوم، لنشهق من قسوة ما نرى، ومن سطوع حقيقة أننا تغيرنا وأننا فقدنا
الكثير.. كنا أجمل، والآن، نحن غرباء بعيدون عن كل ما هو حي في صور الأمس.
لا
تسعك بعد مشاهدة تلك الصور إلى أن تنهض من نفسك لتحاول البحث في ألبوم
صورك القديم، وربما صور عائلتك، وتحديدًا أباك وأمك، لتفتش بين ظلال صورهم
وسوادها وبياضها عن ردم قصص حبهم، وعن الحياة التي عاشوها.. تسأل صورة
أمك: هل كنت سعيدة؟ هل حصلت على بعض ما تريدين؟ ثم تنتقل لتركز في عيني
أبيك لتسأله: هل خذلتك الحياة؟ هل أنت متعب؟ والويل، كل الويل لك، إن كانت
لديك صورة أحدهم، وأعني شهداءنا، ستعريك الصورة وستقودك للعويل، لتقول لها
بصوت عالٍ: نعتذر عما فعلنا.
تنتهي الحالة وتهدأ قليلاً بعد أن
تطبطب عليك روحك قائلة: يكفيك ما أنت فيه، فتبتسم وتعود مجددًا لتقلب
الصور.. صورة صورة ومخيمًا مخيمًا وحقبة حقبة.. كل الأزمنة تراها خلف
الصور، حتى إنك توقن أن النساء كن أجمل، لأن صورهن كانت أقل، أما اليوم،
فالصور كثيرة، بالكاد تستوقفنا لننظر لبرهة ثم نواصل ما كنا فيه، بكل ما
في ذلك من تقليل لشأن الصورة الذي يرفضه الحاج إبراهيم، المصور الأصيل
الذي لم يكن فقط يصنع صورًا، ولم يكن فقط يوثق مرحلة، بل كان صانع حياة.
تقول صوره إن الأمس كان جميلا، فالصورة للعرسان، وهي صورة واحدة أو اثنتان لا أكثر، لذا، كان يُحتفظ بها.
والصورة كانت للغائب وللأحبة، صورة نفرح لأننا عثرنا عليها، لأننا نخشى أنها كل ما تبقى لنا.
الحاج
سلامة يؤكد كم هو غالٍ ما كان بين أيدنا، وكم هم ثمين ما فقدناه.. كاميرته
التي يعشق.. رأيتها تشبه عجوزًا هندية متوغلة في الحكمة والعطاء، تعد
وصفات لشفاء الروح، وصفات تجلب الحظ الجيد.
حتى البحر في تلك الصور يبدو مختلفًا، كأنه أحن وأقل غدرا.. كأنه صديق لفتيات جميلات حرصن على أن يقفن بجانب بعضهن ويبتسمن للكاميرا.
حتى
المدرسة وغرفة الصف وتلاميذ الصف الرابع "ب" كانوا أكثر ظرفا، تجمع شملهم
الصورة، فيؤدون حركات "خفيفة دم"، تبقى تطلب ابتسامة الناظر للصورة، حتى
لو بعد نكبة وبعد انتفاضة أولى وثانية، وبعد حروب نفهمها وأخرى لا نفهمها،
تبقى الصورة كما هي، لا تتغير، لأنها، كما وصفها أبطالها، لا تكبر ولا
تخشى شيئًا.. ولا تخشى أحدًا.
الكل يبحث عن إجابة.. أبطال الصور،
أطفالا كانوا أو رجالا أو نساءً، شهداء أو أحياء، بحرا أو علما، كلهم
يبحثون عن الإجابة، حتى عبد السلام شحادة مخرج الفيلم وصانعه يبحث عن
الإجابة التي لا تطالها صوره، فيختتم فيلمه "إلى أبي" بأمنية أن يكون غدنا
أجمل، وهذا شرعي ومتاح لأناس امتلكوا أمسًا جميلاً كأمسنا.
يقول عبد، بصوته الذي تحمله ذبذبات مرنخة بحزن طفولة المخيم: إننا لم نكن نخشى السقوط، لأننا كنا نعلم أن هناك أيدي ستلقفنا وتحمينا.
أما
نحن، من شاهدنا الفيلم وأبكتنا صور الأمس التي استحضرتها الدقائق الـ52
لفيلم "إلى أبي"، فما زلنا هناك في أرشيف صورهم وفي صفحات ألبوم حياة
فلسطينية كانت يوما جميلة وخاصة، فجعلها الاحتلال وجعلناها نحن قاسية لا
تطاق معاشرة ولا فقدانًا ولا أي شيء.. نحن فقط نحياها، ولا نحسن سوى ذلك.
نحياها
حقيقةً وأيامًا وذكرياتٍ وصورًا. شكرًا لكل من يساعدنا على تذكر الأمس
الجميل لأننا نحنّ إليه، شكرًا لكل من يقول لنا -على الأقل- إننا كنا أجمل.
شكرًا لك عبد السلام، وإلى فيلم جديد نكتشف به ذواتنا مع صور مختلفة.
نبال ثوابتة
كاملاً بقامته القصيرة، ويبدو سعيدًا يرفع بيده شيئًا لا نكتشفه، وغموضه
يقودنا إلى محاولة البحث عن كنهه، هل هو لعبة صغيرة أم مركب ورقي؟ كون
الطفل من غزة فهذا يربطه مباشرة بالبحر.. أم أنه كمشة أحلام يحملها للغد
الذي لن يأتيه بشي سوى الفقدان.
تزول الصورة ويبقى أثرها في
الذهن، وتزاحمها مئات الصور لأناس لا نعرفهم لكننا حتمًا نعرفهم لأنهم
يشبهوننا. تلك العجوز قد تكون جدتي، وأولئك الرجال المرتدون العمامات التي
تقول إنهم فلسطينيون هم أعمامي، وتلك الحلقة من الشباب الدبيكة في عرس
أحدهم، خالي كان هو العريس، وتلك الجميلة التي يجللها الوقار، يصرّ المصور
على توشيح صورتها بإضافة تلك الحسنة التي كانت لازمة لكل حسناوات ذلك
الزمن، وتلك الأم المبتسمة التي يحيط بها أطفالها، وكأن وجهها أقحوانة
ووجوه أطفالها أوراق زهرتها، إنها تشبه أمي، كان يمكن لأمي أن تكون هي
المزروعة في فريم تلك الصورة.
صور وصور وصور تخربشنا وتحرك ماء
قلوبنا الراكد وتجبر دموعنا المتحجرة على التحرر، تلك الصور التي توشوش في
آذاننا بكلمات بسيطة وقريبة جدًّا للقلب، وتقول لنا كم كان الأمس جميلاً
وكم هو كبير حجم خسارتنا.
أكبر من كل السماء التي تقبل أن تظللنا
كما عدونا.. وأكبر من البحر الذي يبتلع أحلام بحارتنا وقواربهم الصغيرة
ويأبى أن يبتلع ذكرياتهم لتبقى هي تعذبنا وتذكرنا أيضا بكل الذين كانوا.
كلمة
واحدة كانت تكتب في هامش كل الصور التي مرت أمامنا في أقل من ساعة، الكلمة
هي غزة.. ورأيتها -ليس غزة بل الكلمة- تكبر وتكبر، يضخمها الخطر ويجعل
منها القلق أكثر سوداوية، ويؤهلها مرور الوقت للانفجار، وهذا ما كان، وهذا
أقسى ما عكسته الصور، ذكرتنا بجمالنا وروعة ما كنا عليه، ثم كشفت النقاب
عنا اليوم، لنشهق من قسوة ما نرى، ومن سطوع حقيقة أننا تغيرنا وأننا فقدنا
الكثير.. كنا أجمل، والآن، نحن غرباء بعيدون عن كل ما هو حي في صور الأمس.
لا
تسعك بعد مشاهدة تلك الصور إلى أن تنهض من نفسك لتحاول البحث في ألبوم
صورك القديم، وربما صور عائلتك، وتحديدًا أباك وأمك، لتفتش بين ظلال صورهم
وسوادها وبياضها عن ردم قصص حبهم، وعن الحياة التي عاشوها.. تسأل صورة
أمك: هل كنت سعيدة؟ هل حصلت على بعض ما تريدين؟ ثم تنتقل لتركز في عيني
أبيك لتسأله: هل خذلتك الحياة؟ هل أنت متعب؟ والويل، كل الويل لك، إن كانت
لديك صورة أحدهم، وأعني شهداءنا، ستعريك الصورة وستقودك للعويل، لتقول لها
بصوت عالٍ: نعتذر عما فعلنا.
تنتهي الحالة وتهدأ قليلاً بعد أن
تطبطب عليك روحك قائلة: يكفيك ما أنت فيه، فتبتسم وتعود مجددًا لتقلب
الصور.. صورة صورة ومخيمًا مخيمًا وحقبة حقبة.. كل الأزمنة تراها خلف
الصور، حتى إنك توقن أن النساء كن أجمل، لأن صورهن كانت أقل، أما اليوم،
فالصور كثيرة، بالكاد تستوقفنا لننظر لبرهة ثم نواصل ما كنا فيه، بكل ما
في ذلك من تقليل لشأن الصورة الذي يرفضه الحاج إبراهيم، المصور الأصيل
الذي لم يكن فقط يصنع صورًا، ولم يكن فقط يوثق مرحلة، بل كان صانع حياة.
تقول صوره إن الأمس كان جميلا، فالصورة للعرسان، وهي صورة واحدة أو اثنتان لا أكثر، لذا، كان يُحتفظ بها.
والصورة كانت للغائب وللأحبة، صورة نفرح لأننا عثرنا عليها، لأننا نخشى أنها كل ما تبقى لنا.
الحاج
سلامة يؤكد كم هو غالٍ ما كان بين أيدنا، وكم هم ثمين ما فقدناه.. كاميرته
التي يعشق.. رأيتها تشبه عجوزًا هندية متوغلة في الحكمة والعطاء، تعد
وصفات لشفاء الروح، وصفات تجلب الحظ الجيد.
حتى البحر في تلك الصور يبدو مختلفًا، كأنه أحن وأقل غدرا.. كأنه صديق لفتيات جميلات حرصن على أن يقفن بجانب بعضهن ويبتسمن للكاميرا.
حتى
المدرسة وغرفة الصف وتلاميذ الصف الرابع "ب" كانوا أكثر ظرفا، تجمع شملهم
الصورة، فيؤدون حركات "خفيفة دم"، تبقى تطلب ابتسامة الناظر للصورة، حتى
لو بعد نكبة وبعد انتفاضة أولى وثانية، وبعد حروب نفهمها وأخرى لا نفهمها،
تبقى الصورة كما هي، لا تتغير، لأنها، كما وصفها أبطالها، لا تكبر ولا
تخشى شيئًا.. ولا تخشى أحدًا.
الكل يبحث عن إجابة.. أبطال الصور،
أطفالا كانوا أو رجالا أو نساءً، شهداء أو أحياء، بحرا أو علما، كلهم
يبحثون عن الإجابة، حتى عبد السلام شحادة مخرج الفيلم وصانعه يبحث عن
الإجابة التي لا تطالها صوره، فيختتم فيلمه "إلى أبي" بأمنية أن يكون غدنا
أجمل، وهذا شرعي ومتاح لأناس امتلكوا أمسًا جميلاً كأمسنا.
يقول عبد، بصوته الذي تحمله ذبذبات مرنخة بحزن طفولة المخيم: إننا لم نكن نخشى السقوط، لأننا كنا نعلم أن هناك أيدي ستلقفنا وتحمينا.
أما
نحن، من شاهدنا الفيلم وأبكتنا صور الأمس التي استحضرتها الدقائق الـ52
لفيلم "إلى أبي"، فما زلنا هناك في أرشيف صورهم وفي صفحات ألبوم حياة
فلسطينية كانت يوما جميلة وخاصة، فجعلها الاحتلال وجعلناها نحن قاسية لا
تطاق معاشرة ولا فقدانًا ولا أي شيء.. نحن فقط نحياها، ولا نحسن سوى ذلك.
نحياها
حقيقةً وأيامًا وذكرياتٍ وصورًا. شكرًا لكل من يساعدنا على تذكر الأمس
الجميل لأننا نحنّ إليه، شكرًا لكل من يقول لنا -على الأقل- إننا كنا أجمل.
شكرًا لك عبد السلام، وإلى فيلم جديد نكتشف به ذواتنا مع صور مختلفة.
نبال ثوابتة
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر