أوقفت السيارة أمام بيت العزاء ونزلت منها مع قريبي مدير مدرسة قريتنا. استقبلنا عدد من أهل القرية وعلى رأسهم عم الشهيد وبعض من أهله. بعد السلام والعناق وكلمات العزاء دخلنا إلى البيت حيث جلس على صف من الكراسي مجموعة من أهل الشهيد وفي منتصفهم والده. سلمت عليهم فردا فردا وعانقت والد الشهيد وتمنيت له الصبر على فقدان ابنه، فلم يكن لدي ما اضيفه.
ماذا تقول لأب قتل المستوطنون اليهود ابنه الوحيد لأنه تجرأ ودخل بستانا قريبا من مستوطنتهم، يملكه والده أبا عن جد. قتلوه وجروا جثته أمام أعين مزارعي أهل القرية المجاورة ورموها على الطريق العام كما ترمي كيسا من القمامة؟ ماذا تقول لأب سلب المستوطنون اليهود أرضه وقتلوا ابنه الوحيد في وسط النهار وأمام أعين الناس وليس لديه مرجعية يشكوا لها فالقاتل والقاضي ورجل الأمن ينتمون إلى المرجعية ذاتها؟
ساد الغرفة جو من الصمت يشقه نحيب الوالد و صوت المروحيات الثلاث المحيطة بجثة الشهيد الشاب الملفوفة بالكفن الأبيض والمستلقية على فراش فرش على أرض الغرفة استعدادا للصلاة عليه ودفنه في مقبرة القرية. يخيل للناظر أنه في قيلولة سيقوم منها ليطرح علينا السلام ويوقظ والده من كابوس حلم ويقول له" أنا هنا يا والدي، مازلت حيا". لقد قتله حملة التلمود من قبل أن ينهي تعليمه ويتزوج ويخلف الأولاد والبنات. لم يكن هناك حاجة للكلام فصمت الحاضرون كل مع أفكاره ومع أسئلته يبحثون لها عن أجوبة مقنعة، فهم أناس بسطاء طيبون لا يعرفون خبايا صالونات السياسة العربية والعالمية وأسئلتهم بسيطة، لماذا؟ وإلى متى؟ وما العمل؟ أسئلة تحيرهم ولا يجدون لها عند رجال سياسة الصالونات والبدلات الأنيقة جوابا.
خرجنا جميعا من بيت العزاء وتوجهنا نحو مسجد القرية حيث جرت الصلاة على الشهيد ثم توجهنا إلى مقبرة القرية حيث جرى دفنه في قبر تم إعداده لإحتضان جثة الفتى الشهيد، وبذلك أسدل الستار عن فصل من ملحمة ذات فصول لا تعد ولا تحصى وانتهت قصة شاب فلسطيني خرج من بيته ورغب في زيارة بستان لهم فانتهت زيارته بدفنه في قبر في مقبرة القرية، ولكن لم يسدل الستار عن التراجيديا الفلسطينية المحزنة وبقي الممثلون على المسرح ينتظرون أدوارهم، فالقبور في حاجة لمن يسكنها.
اعتذرت لأهل الشهيد ورجال القرية عن دعوتهم لتناول الغذاء وركبت سيارتي المستأجرة وتحركت نحو نابلس. قبل أن أتحرك جاءني فتى من أهل القرية ورجاني أن أصحبه معي إلى نابلس حيث يدرس فوافقت. كان فتى قليل الكلام علمت منه أنه صديق وقريب الشهيد وأنه يدرس في مدينة نابلس وأنه يركب باص القرية صباحا باكرا ويعود من نابلس إلى القرية بنفس الباص في المساء وأنه لم يذهب اليوم إلى المدرسة كي يحضر جنازة صديقه وقريبه وأنه ذاهب ليقضي الليلة عند أصدقاءه في نابلس. احترمت صمت الفتى وتفهمت عدم رغبته في الكلام وتركته مع أفكاره كما شطحت مع نفسي ومع أفكاري وأسئلتي المحيرة والتي أبحث لها، بدون طائل، عن جواب.
الطريق بين قريتنا والطريق العامة المؤدية إلى نابلس_ رام الله، ضيق وكثير الحفر من عدم الصيانة وعلى السائق أن يكون حذرا وخاصة عند الإلتقاء بالسيارات القادمة في الطريق المعاكس. قبل أن أصل إلا مفترق الطرق المؤدي إلى نابلس بحوالي خمسين مترا لاحظت سيارة عسكرية إسرائيلية مصفحة تقف على جانب الطريق وعلى بعد أمتار منها إشارة "قف" موضوعة على طرف الطريق. لم يكن على الطريق أي حاجز أو أي مانع من موانع المرور المعتادة كالمشط المسنن. أوقفت السيارة على بعد أمتار من الإشارة ثم أوقفت محركها وانتظرت. لم يعيرني الجنود الإسرائيليون أي اهتمام واستمروا في حديث بينهم كما لو كنت وسيارتي طيفين غير مرئيين. إنتظرت ونظرت نحوهم لكي أتأكد من أنهم يروني فتأكدت ولكنهم لم يعيرونني أي اهتمام. وبما أنني أعيش في أوروبا ولا أعرف خبايا وتفاصيل الحياة اليومية للفلسطيني العادي، قررت التحرك. عندما شغلت المحرك سمعت صوت الفتى بجانبي يصيح " لا يا مجنون" واختلط صوته بأصوات صراخ الجنود الإسرائليين بأسلحتهم المشهرة في وجهي. عرفت في تلك اللحظة أنني لست في أوروبا وإنما في فلسطين المحتلة من قبل عدو مجنون لا يرحم وأن أي عمل غير عقلاني سيتسبب في قتلي وقتل الفتى. أخرجت جواز السفر الأوروبي الأحمر وصرخت في وجههم باللغة الإنجليزية أنني سائح أوروبي.
أخذ أحد الجنود جواز السفر وتحت غطاء الأسلحة الرشاشة الموجهة إلى رؤوسنا أخذ في تصفح الجواز ثم بدأ جدال غير عقلاني وغير منطقي معه وكان ملخصه أنه كان من واجبي الوقوف إلى أن أستلم إشارة واضحة من الجنود بالتحرك. لم يكن هناك مجال لاستعمال المنطق فالمنطق الوحيد الذي كان يحكم اللحظة هو سلطة السلاح ومشروعية القتل بدون محاسبة. أعاد لي الجندي جواز السفر وأمرني بالتحرك.
تحركت بالسيارة إلى الطريق العام وتوجهت نحو نابلس ولقد غمرني شعور غامر بأنني ومرافقي الفتى كنا قاب قوسين أو أدنى من الموت. كانت هناك مفارقة غريبة أن جواز السفر الأوروبي، البلاد التي شاركت في صنع مأسآة شعبي، هو الذي أنقذ حياتنا. ولأن رفيقي الفتى يعيش في فلسطين المحتلة وليس مثلي في أوروبا، ولأنه يعيش خفايا وتفاصيل الحياة اليومية فيها، ولأنه يعرف عبثية الموت في كل لحظة من لحظات حياتها، ولقد ترك خلفه دليلا راسخا على ذلك، جثة قريبه وصديقه الذي سقط مقتولا على يد المستوطنين اليهود ، فإنه كان يعي أن الموت على يد الجنود الإسرائيليين يمكن أن يحدث لأي فلسطيني ولأتفه الأسباب، لهذا فقد بال لاشعوريا على نفسه حين شعر بيد الموت الإسرائيلي تقترب منه ساعية لسلبه حياته التي لم يعشها بعد.
لم أستطع طوال الطريق تهدئته ولم تنفع اعتذاراتي له عن تطييب خاطره فلقد طغى عليه مزيج من الخوف والحيرة والخجل وكان يتحسس بنطلونه المبلول ويلومني" بدك تقتلنا، شو إنت مجنون، شوف شو عملت فيي، خليتني أبول على حالي، يا فضيحتي".
عندما وصلنا إلى قرية حوارة وهي قرية قريبة من نابلس يمر منها الطريق العام واجهنا حاجز للجنود الإسرائليين ولقد وقف أمامه صف طويل من سيارات الفلسطينيين في انتظار دورهم للتفتيش. نظر الفتى إلي وقال محذرا:" بتعمل شو بقولولك عليه، وقف! بتوقف ولو طول اليوم ولما يقولولك إمش! بتمشي وخلي هاليوم يمشي على خير." وعدته بذلك وبأنني لن أضع أنفسنا في أي موضع يهدد فيه حياتنا أو يسبب لنا الأذى.
عندما وصل دورنا بعد ساعات من الإنتظار، طلب جندي إسرائيلي هوياتنا فقدمت له جواز السفر الأوروبي وقدم الفتى هويته. تصفح الجندي جواز سفري ثم صاح على زميل له بالعبرية ولم أفهم إلا كلمة تشيكوسلوفاكيا. جاء الجندي الثاني وأخذ جواز السفر وتصفحه بدوره ثم نظر إلي وقال بلغة تشيكية سليمة إن كنت أتكلم التشيكية، فأجبته بالإيجاب. علمت منه أنه جاء من بلد اسمها أولومتس في تشيكيا وأن أهله رحلوا إلى "إسرائيل" قبيل سقوط النظام الإشتراكي عام 1998. سألني من أين أنا وأين أعيش، فأجبته من نابلس وأعيش في براتسلافا في سلوفاكيا.
كانت لحظة مفارقة غريبة، أنا الفلسطيني إبن فلسطين أعيش في بلاده بينما هو التشيكي يعيش في بلدي ويحمل بندقية تخوله إيقافي وتفتيشي. كان لا بد أن تثير هذه المفارقة الغريبة جدالا بيننا حول من له الأحقية في فلسطين، أنا الفسطيني الذي ولد في فلسطين وعاش أجداده فيها أبا عن جد منذ مئات السنين أم هو ابن أولومتس، التشيكي وأمثاله من المهاجرين اليهود الذين جاؤوا غرباء من مختلف بقاع الأرض ليستوطنوها؟ أنا الفلسطيني الذي يسمح لي بزيارة بلدي فقط كسائح أوروبي أم هو الذي جاء غريبا إليها فأصبح مواطنا يحمل السلاح يخوله قتل أهلها وسلب أرضها ؟ تطور الجدال واحتد حتى نسيت أنني أقف أمام جندي مسلح يملك الإذن بقتلي بدون مسائلة أو سؤال. قلت له: " اسمي نضال بن عبالقادر بن صالح بن بخيت وتابعت أعدد أسماء أجدادي إلى أن وصلت الجد العاشر وأضفت:" كلهم ولدوا في فلسطين وماتوا ودفنوا في أرضها، لم يأت أحد منهم من سلوفاكيا ولا من التشيك ولا من روسيا أو بولونيا أو رومانيا مثلكم، فكيف يكون لكم أنتم الغرباء الحق فيها ولا يكون لي؟
التف حولنا مجموعة من الجنود وكانوا يستمعون إلى جدالنا وهم مستمتعون بعبثية الجدال ويظهر أنهم كانوا يفهمون حديثنا فالجندي الأول كان بولنديا ولا أدري ما هي أصول الجنود الآخرين. فجأة ظهر ضابط إسرائيلي وصاح بالجندي ان ينهي الجدال. أخذ جوازي السفر، تصفحه وأعاده إلي وقال بعربية مكسرة:" روح بيتك في سلوفاكيا، هذه بلدنا، الله أعطانا إياها وانتوا ما إلكم هون مكان، يالله إمشي" ثم ضرب بيده على سقف السيارة وغادر .
شغلت محرك السيارة وتابعت طريقي إلى نابلس ولاحظت أن رفيقي الفتى يهز رأسه شمالا ويمينا ثم قال: " شو هاللغة اللي كنتو ترطنو فيها؟ قلت له بأنها اللغةالتشيكية فسالني: " وعليش كل هالحكي؟ قلت له عن الأحقية في فلسطين، لنا أم لهم؟ قال: هو هذه بدها حكي؟ الحق معانا والسلاح معهم، شو في حكي غير هيك؟" قلت له معك حق وتابعنا الطريق صامتين.
عندما دخلنا مدينة نابلس ومررنا بجانب معسكر اللاجئين في بلاطة طلب مني أن أوقف السيارة فاصدقاءه يسكنون في المعسكر. طلبت منه أن آخذه إلى بيتنا حتى يغير ملابسه فرفض.عرضت عليه جريدة لكي يغطي بها بقعة البول على بنطلونه فرفض. نزل من السيارة ثم أغلق بابها واتكأ على نافذة السيارة وقال: " شكرا على التوصيلة ولا تخاف، مافي إشي أستحي منه. خللي زعماءنا يستحوا ويغطوا على عوراتهم. كلها نتفت بول بتنشف وبتروح، بس هم وسخهم ما بنضفو كل صابون نابلس ولا إشي بغطي على عوراتهم." ثم أدار ظهره لي وتركني وظللت أراقبه حتى اختفى عن نظري ولكن لم يختف عن فكري وذاكرتي.
د. نضال الصالح/فلسطين
ماذا تقول لأب قتل المستوطنون اليهود ابنه الوحيد لأنه تجرأ ودخل بستانا قريبا من مستوطنتهم، يملكه والده أبا عن جد. قتلوه وجروا جثته أمام أعين مزارعي أهل القرية المجاورة ورموها على الطريق العام كما ترمي كيسا من القمامة؟ ماذا تقول لأب سلب المستوطنون اليهود أرضه وقتلوا ابنه الوحيد في وسط النهار وأمام أعين الناس وليس لديه مرجعية يشكوا لها فالقاتل والقاضي ورجل الأمن ينتمون إلى المرجعية ذاتها؟
ساد الغرفة جو من الصمت يشقه نحيب الوالد و صوت المروحيات الثلاث المحيطة بجثة الشهيد الشاب الملفوفة بالكفن الأبيض والمستلقية على فراش فرش على أرض الغرفة استعدادا للصلاة عليه ودفنه في مقبرة القرية. يخيل للناظر أنه في قيلولة سيقوم منها ليطرح علينا السلام ويوقظ والده من كابوس حلم ويقول له" أنا هنا يا والدي، مازلت حيا". لقد قتله حملة التلمود من قبل أن ينهي تعليمه ويتزوج ويخلف الأولاد والبنات. لم يكن هناك حاجة للكلام فصمت الحاضرون كل مع أفكاره ومع أسئلته يبحثون لها عن أجوبة مقنعة، فهم أناس بسطاء طيبون لا يعرفون خبايا صالونات السياسة العربية والعالمية وأسئلتهم بسيطة، لماذا؟ وإلى متى؟ وما العمل؟ أسئلة تحيرهم ولا يجدون لها عند رجال سياسة الصالونات والبدلات الأنيقة جوابا.
خرجنا جميعا من بيت العزاء وتوجهنا نحو مسجد القرية حيث جرت الصلاة على الشهيد ثم توجهنا إلى مقبرة القرية حيث جرى دفنه في قبر تم إعداده لإحتضان جثة الفتى الشهيد، وبذلك أسدل الستار عن فصل من ملحمة ذات فصول لا تعد ولا تحصى وانتهت قصة شاب فلسطيني خرج من بيته ورغب في زيارة بستان لهم فانتهت زيارته بدفنه في قبر في مقبرة القرية، ولكن لم يسدل الستار عن التراجيديا الفلسطينية المحزنة وبقي الممثلون على المسرح ينتظرون أدوارهم، فالقبور في حاجة لمن يسكنها.
اعتذرت لأهل الشهيد ورجال القرية عن دعوتهم لتناول الغذاء وركبت سيارتي المستأجرة وتحركت نحو نابلس. قبل أن أتحرك جاءني فتى من أهل القرية ورجاني أن أصحبه معي إلى نابلس حيث يدرس فوافقت. كان فتى قليل الكلام علمت منه أنه صديق وقريب الشهيد وأنه يدرس في مدينة نابلس وأنه يركب باص القرية صباحا باكرا ويعود من نابلس إلى القرية بنفس الباص في المساء وأنه لم يذهب اليوم إلى المدرسة كي يحضر جنازة صديقه وقريبه وأنه ذاهب ليقضي الليلة عند أصدقاءه في نابلس. احترمت صمت الفتى وتفهمت عدم رغبته في الكلام وتركته مع أفكاره كما شطحت مع نفسي ومع أفكاري وأسئلتي المحيرة والتي أبحث لها، بدون طائل، عن جواب.
الطريق بين قريتنا والطريق العامة المؤدية إلى نابلس_ رام الله، ضيق وكثير الحفر من عدم الصيانة وعلى السائق أن يكون حذرا وخاصة عند الإلتقاء بالسيارات القادمة في الطريق المعاكس. قبل أن أصل إلا مفترق الطرق المؤدي إلى نابلس بحوالي خمسين مترا لاحظت سيارة عسكرية إسرائيلية مصفحة تقف على جانب الطريق وعلى بعد أمتار منها إشارة "قف" موضوعة على طرف الطريق. لم يكن على الطريق أي حاجز أو أي مانع من موانع المرور المعتادة كالمشط المسنن. أوقفت السيارة على بعد أمتار من الإشارة ثم أوقفت محركها وانتظرت. لم يعيرني الجنود الإسرائيليون أي اهتمام واستمروا في حديث بينهم كما لو كنت وسيارتي طيفين غير مرئيين. إنتظرت ونظرت نحوهم لكي أتأكد من أنهم يروني فتأكدت ولكنهم لم يعيرونني أي اهتمام. وبما أنني أعيش في أوروبا ولا أعرف خبايا وتفاصيل الحياة اليومية للفلسطيني العادي، قررت التحرك. عندما شغلت المحرك سمعت صوت الفتى بجانبي يصيح " لا يا مجنون" واختلط صوته بأصوات صراخ الجنود الإسرائليين بأسلحتهم المشهرة في وجهي. عرفت في تلك اللحظة أنني لست في أوروبا وإنما في فلسطين المحتلة من قبل عدو مجنون لا يرحم وأن أي عمل غير عقلاني سيتسبب في قتلي وقتل الفتى. أخرجت جواز السفر الأوروبي الأحمر وصرخت في وجههم باللغة الإنجليزية أنني سائح أوروبي.
أخذ أحد الجنود جواز السفر وتحت غطاء الأسلحة الرشاشة الموجهة إلى رؤوسنا أخذ في تصفح الجواز ثم بدأ جدال غير عقلاني وغير منطقي معه وكان ملخصه أنه كان من واجبي الوقوف إلى أن أستلم إشارة واضحة من الجنود بالتحرك. لم يكن هناك مجال لاستعمال المنطق فالمنطق الوحيد الذي كان يحكم اللحظة هو سلطة السلاح ومشروعية القتل بدون محاسبة. أعاد لي الجندي جواز السفر وأمرني بالتحرك.
تحركت بالسيارة إلى الطريق العام وتوجهت نحو نابلس ولقد غمرني شعور غامر بأنني ومرافقي الفتى كنا قاب قوسين أو أدنى من الموت. كانت هناك مفارقة غريبة أن جواز السفر الأوروبي، البلاد التي شاركت في صنع مأسآة شعبي، هو الذي أنقذ حياتنا. ولأن رفيقي الفتى يعيش في فلسطين المحتلة وليس مثلي في أوروبا، ولأنه يعيش خفايا وتفاصيل الحياة اليومية فيها، ولأنه يعرف عبثية الموت في كل لحظة من لحظات حياتها، ولقد ترك خلفه دليلا راسخا على ذلك، جثة قريبه وصديقه الذي سقط مقتولا على يد المستوطنين اليهود ، فإنه كان يعي أن الموت على يد الجنود الإسرائيليين يمكن أن يحدث لأي فلسطيني ولأتفه الأسباب، لهذا فقد بال لاشعوريا على نفسه حين شعر بيد الموت الإسرائيلي تقترب منه ساعية لسلبه حياته التي لم يعشها بعد.
لم أستطع طوال الطريق تهدئته ولم تنفع اعتذاراتي له عن تطييب خاطره فلقد طغى عليه مزيج من الخوف والحيرة والخجل وكان يتحسس بنطلونه المبلول ويلومني" بدك تقتلنا، شو إنت مجنون، شوف شو عملت فيي، خليتني أبول على حالي، يا فضيحتي".
عندما وصلنا إلى قرية حوارة وهي قرية قريبة من نابلس يمر منها الطريق العام واجهنا حاجز للجنود الإسرائليين ولقد وقف أمامه صف طويل من سيارات الفلسطينيين في انتظار دورهم للتفتيش. نظر الفتى إلي وقال محذرا:" بتعمل شو بقولولك عليه، وقف! بتوقف ولو طول اليوم ولما يقولولك إمش! بتمشي وخلي هاليوم يمشي على خير." وعدته بذلك وبأنني لن أضع أنفسنا في أي موضع يهدد فيه حياتنا أو يسبب لنا الأذى.
عندما وصل دورنا بعد ساعات من الإنتظار، طلب جندي إسرائيلي هوياتنا فقدمت له جواز السفر الأوروبي وقدم الفتى هويته. تصفح الجندي جواز سفري ثم صاح على زميل له بالعبرية ولم أفهم إلا كلمة تشيكوسلوفاكيا. جاء الجندي الثاني وأخذ جواز السفر وتصفحه بدوره ثم نظر إلي وقال بلغة تشيكية سليمة إن كنت أتكلم التشيكية، فأجبته بالإيجاب. علمت منه أنه جاء من بلد اسمها أولومتس في تشيكيا وأن أهله رحلوا إلى "إسرائيل" قبيل سقوط النظام الإشتراكي عام 1998. سألني من أين أنا وأين أعيش، فأجبته من نابلس وأعيش في براتسلافا في سلوفاكيا.
كانت لحظة مفارقة غريبة، أنا الفلسطيني إبن فلسطين أعيش في بلاده بينما هو التشيكي يعيش في بلدي ويحمل بندقية تخوله إيقافي وتفتيشي. كان لا بد أن تثير هذه المفارقة الغريبة جدالا بيننا حول من له الأحقية في فلسطين، أنا الفسطيني الذي ولد في فلسطين وعاش أجداده فيها أبا عن جد منذ مئات السنين أم هو ابن أولومتس، التشيكي وأمثاله من المهاجرين اليهود الذين جاؤوا غرباء من مختلف بقاع الأرض ليستوطنوها؟ أنا الفلسطيني الذي يسمح لي بزيارة بلدي فقط كسائح أوروبي أم هو الذي جاء غريبا إليها فأصبح مواطنا يحمل السلاح يخوله قتل أهلها وسلب أرضها ؟ تطور الجدال واحتد حتى نسيت أنني أقف أمام جندي مسلح يملك الإذن بقتلي بدون مسائلة أو سؤال. قلت له: " اسمي نضال بن عبالقادر بن صالح بن بخيت وتابعت أعدد أسماء أجدادي إلى أن وصلت الجد العاشر وأضفت:" كلهم ولدوا في فلسطين وماتوا ودفنوا في أرضها، لم يأت أحد منهم من سلوفاكيا ولا من التشيك ولا من روسيا أو بولونيا أو رومانيا مثلكم، فكيف يكون لكم أنتم الغرباء الحق فيها ولا يكون لي؟
التف حولنا مجموعة من الجنود وكانوا يستمعون إلى جدالنا وهم مستمتعون بعبثية الجدال ويظهر أنهم كانوا يفهمون حديثنا فالجندي الأول كان بولنديا ولا أدري ما هي أصول الجنود الآخرين. فجأة ظهر ضابط إسرائيلي وصاح بالجندي ان ينهي الجدال. أخذ جوازي السفر، تصفحه وأعاده إلي وقال بعربية مكسرة:" روح بيتك في سلوفاكيا، هذه بلدنا، الله أعطانا إياها وانتوا ما إلكم هون مكان، يالله إمشي" ثم ضرب بيده على سقف السيارة وغادر .
شغلت محرك السيارة وتابعت طريقي إلى نابلس ولاحظت أن رفيقي الفتى يهز رأسه شمالا ويمينا ثم قال: " شو هاللغة اللي كنتو ترطنو فيها؟ قلت له بأنها اللغةالتشيكية فسالني: " وعليش كل هالحكي؟ قلت له عن الأحقية في فلسطين، لنا أم لهم؟ قال: هو هذه بدها حكي؟ الحق معانا والسلاح معهم، شو في حكي غير هيك؟" قلت له معك حق وتابعنا الطريق صامتين.
عندما دخلنا مدينة نابلس ومررنا بجانب معسكر اللاجئين في بلاطة طلب مني أن أوقف السيارة فاصدقاءه يسكنون في المعسكر. طلبت منه أن آخذه إلى بيتنا حتى يغير ملابسه فرفض.عرضت عليه جريدة لكي يغطي بها بقعة البول على بنطلونه فرفض. نزل من السيارة ثم أغلق بابها واتكأ على نافذة السيارة وقال: " شكرا على التوصيلة ولا تخاف، مافي إشي أستحي منه. خللي زعماءنا يستحوا ويغطوا على عوراتهم. كلها نتفت بول بتنشف وبتروح، بس هم وسخهم ما بنضفو كل صابون نابلس ولا إشي بغطي على عوراتهم." ثم أدار ظهره لي وتركني وظللت أراقبه حتى اختفى عن نظري ولكن لم يختف عن فكري وذاكرتي.
د. نضال الصالح/فلسطين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر