لم يكن سِرّاً أنّ جدول الأعمال في العالم العربي شهد انحداراً متواصلاً، لكنّ الحاضر العربي بات مُكتنَفاً بحالة من التدهور إلى وديانٍ سحيقة، تتضاءل فيها الاهتمامات العامّة، وتتحرّى العربةُ خلالها وجهةً خاطئة، فيما يسدّ الجالسون فيها أسماعهم وأبصارهم. وخلال التمتّع برحلة التدهور هذه؛ تكثر التعليقات الساخرة التي يمكن الإنصاتُ إليها واستقاء الدلالات من مَعينها. |
ويُقال كذلك إنّ الهدنة ثم
المصالحة، ومن بعدها التفاوض فالتنسيق؛ هي عناوين لمراحل تعاقبت على إدارة
العلاقة مع الكيان المحشور في قلب الأمّة بين البحر والنهر. لكنّ المعادلة
في الداخل العربي تسير في اتجاهات معاكسة؛ عناوينها التأزيم، فالاتجاه إلى
حروب داخلية موضعيّة، تتقدّم ببطء من التخوم في أعالي الجبال وتيه الصحاري
والأقاليم النائية؛ إلى صميم الجغرافيا ومراكز البلدان.
وإذا منحت الخريطةُ الجغرافية
انطباعاً مضلِّلاً عن عالم عربيّ ممتدٍّ في مركز العالم؛ فإنّ الواقع
الملموس يوحي بالاندفاع إلى الهامش الأممي، والانكماش على الداخل الذاتي،
حيث تلوذ النُّظُم الرسمية بقواقعها المتناثرة على الشاطئ، خشيةَ المدّ
القادم، ويفضِّل آخرون احتماء الرؤوس بالرمال، حفاظاً على استمرار قيادة
حكيمة تترك شعوبها مكشوفة للأسوأ.
هو مشهد من الانكفاء، ينتهج فاعلوه
التمجيدَ المتواصل لأسلاك التجزئة، وغرسَها حدوداً للوعي الجمعيّ،
وإعلاءها أسواراً في الأذهان تطوِّق «الهويّة» في نسخها المحلِّيّة
والقبليّة والطائفيّة، بكل ما يتطلّبه ذلك من أناشيد ومعزوفات، وقنوات
تلفزة وأجهزة دعاية، ومناهج تعليم تبعث على تبلّد الأذهان.
أمّا شعارات «التقوقع أوّلاً»، التي
يُنادَى بها منذ سنوات في هذه العاصمة وتلك، فيتّضح في التفاصيل أنّها
التعبير عن استراتيجية الانكفاء، التي تُسقِط القضايا الكبرى من الاهتمام،
وتطيح الشواغل المركزية، وليس فقط بقضية فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني
وامتلاك الأمة زمام أمرها.
وفي كلِّ الأحوال؛ ظلّت كيفية
الاستجابة للمسؤولية الكبرى نحو فلسطين عنواناً بارزاً يؤشِّر إمّا لحالة
الوعي بالتحدِّيات؛ أو لحالة الغياب عن الوعي. فمن التآكل في طموحات
الأمّة، مروراً بتقزيم مفهوم «الأمّة» ذاته ليراد به جزر متنافرة ومعزولة
عن التاريخ والجغرافيا. ثمّ لا تتوقّف نزعة الانكماش عند تمجيد المنازلة
الضارية بين الأشقاء في ملاحقة الكرة؛ بل تمضي إلى التأجيج الجمعي
استعداداً للاحتراب على قمصان اللاعبين. أمّا مفهوم الأمن القومي ذاته؛
فيتساوق مع منحى الانكماش القائم، فيتحوّل الشقيق المُحاصَر تحت الاحتلال
إلى خطرٍ وجوديّ على العواصم الشقيقة، بما يستدعي دقّ الأسافين العميقة،
ويُصَنّف التخصيب المُستتر في الجوار على أنه أفدح خطراً من مئات القنابل
النووية المنسيّة في قلب المنطقة، على مرمى حجر من الجميع.
لا يُشغل نهج «التقوقع أوّلاً»،
بتنمية الذات والتهيّؤ للمستقبل؛ بل يُعبِّر عن انصياعٍ لحالةٍ داهمةٍ من
فقدان الإرادة، واضطراب البوصلة، وتحويل المواجهة من العدوّ إلى الشقيق،
ومن الخارج إلى الداخل، بكل ما يتخلّل ذلك من انحسار وانكسار، وما يفضي
إليه من برامج الفوضى والتشظِّي.
وفي هذا المشهد الكارثيّ؛ لا يبقى
من معنىً للقدس الواقعة تحت هجمة التهويد وتكريس الاحتلال وانتزاعها من
التاريخ، مهما أُعلِنَت عاصمةً للثقافة، أو صدرت بحقِّها البيانات الرتيبة
والتصريحات الباردة. وفي المشهد ذاته؛ لا أهمية تستدعي قمّةً جامعةً
للقادة، إذا ما أبيد شعبٌ عربي بآلة حرب تسحق وجودَه على مرأى من الجميع
ومسمعهم، أو إذا ما تمزّقت الجغرافيا حتى داخل حدود التجزئة وأسوار الوعي
التي تضيق على من فيها.
وبمقتضى وصفة الانكماش في نسختها
الفلسطينية، مثلاً؛ فإنّه يُراد لما يجري بحق غزة من عدوان وحصار ألاّ
يردِّد أصداءه في الضفة، إلا بوقفات الشموع الوقورة، وأن يتحوّل الاضطهاد
المنهجي بحقِّ فلسطينيي 48 إلى «شأن إسرائيلي داخلي»، مع الاستمرار في
محاولة إخراج الشتات الفلسطيني في الخارج من المعادلة الفلسطينية الجامعة.
إنها ملامح عالم عربيّ يعجز عن
استثمار انتصارات مرحليّة تحرزها شعوبُه، على القاعدة الحربيّة الضخمة
المسمّاة «إسرائيل»، ويقعد عن تثمين الصمود التاريخي تحت التجويع والحصار
الذي لم يشهد العالم الحديث له مثيلاً. وهو عالم عربيّ يفتقد القدرةَ على
مخاطبة العالم بلسانٍ واحد في عصر التكتّلات، بل يُساق بلا ناظم إلى
«شراكات» أمريكية وأوروبية ومتوسطية لا تقوم على التكافؤ والندِّيّة.
ومع تواصل التدهور صوب الوديان
السحيقة؛ تتبدّد القدرة على تقدير المستقبل، فضلاً عن التخطيط له في آمادٍ
قريبة، والاستعداد لمخاضاته العسيرة وتحوّلاته الشاقة؛ وإن كان آخرون
يستشرفون فوضى قادمةً إلى منطقة رابضة على حقول الزيت الملتهب، لا تندر
فيها فتائل التفجير.
في هذه اللحظة التاريخية؛ تبقى
للأمّة، كلِّ الأمّة، بمخزونها، ومقاومتها، وإرادتها الكامنة، خياراتٌ
عدّة يمكن إعمالُها، لكبح الانحدار الحادّ، وتصويب وجهة الاندفاع،
والاستجابة للتحدِّيات المتعاظمة، ومواجهة مخاطر الحاضر، واستيعاب حقائق
المستقبل. ويبقى القول: إنّ كيفية استجابة الأمّة، قادة ونخباً، قوى
وحركات، للمسؤولية الكبرى نحو فلسطين؛ تقع بلا شكّ في صميم معادلة
الاختيار بين الاستجابة الواعية التي تنفتح على الآفاق؛ أو الانكماش على
ذات ممزّقة تعيش تيهَها الكبير. أي إنّ فلسطين تتعلّق كذلك بسؤال الأمّة
الجوهري: تكون أو لا تكون؟[/b]
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر