كنا نحن, العرب الذين بقوا في إسرائيل, مثل شجرة اقتلعت من جذورها آنذاك. وكل من يجهل الأوضاع التي عادت هذه الجذور المقتلعة تطلق فيها الأغصان والأوراق من جديد لن يفهم أبدا ما يجري لنا اليوم.
في غضون عام واحد دمر مجتمع قومي ونفيت أكثرية سكانه ونهبت ممتلكاتهم, وتحولت أغلبية شعب فلسطين العربية إلى أقلية خاضعة لنظام حكم أكثرية يهودية, ودفعت إلى أطراف المجتمع الإسرائيلي, وفرض عليها حكم عسكري كانت مهمته السهر على تفتيت هذه الأقلية وتشتيتها إلى جماعات بعضها معزول عن بعض, ومستسلمة لواقعها الجديد, وعلى ضمان عدم تبلورها في كتلة عربية موحدة ومستقلة, في الوقت الذي كان يجري تركيب الدولة اليهودية في ظل حالة حرب مستمرة مع الشعب الأم لهذه الأقلية, في بلاد الجوار العربي.
لكن العقود الأربعة التي مضت على الكارثة القومية في فلسطين, والتي شهدت أيضا نمو هذه الأقلية العربية وصحوتها من صدمة الكارثة, ونهضة القطاع العربي في إسرائيل في ظل أوضاع عزلة وفصل وحرمان فريدة, تغيرت معها نظرة هذه الأقلية إلى واقعها, كما تغيرت تطلعاتها ومشكلاتها في مجتمع لم يحقق أنصارها فيه, بل حال أيضا دون قيام تعايش حقيقي بينها وبين الأكثرية اليهودية الحاكمة.
الاقتلاع
عندما صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في تشرين الثاني/ نوفمبر 1947, كان عدد سكان البلد 1,970,000 نسمة ثلثاهم( 1,300,000نسمة) من العرب, والثلث الباقي (650,000 نسمة) من اليهود. وكانت أغلبية العرب الكبيرة من المسلمين (86%), والباقي في معظمهم من المسيحيين. وبعد عام على قيام إسرائيل وإلحاق منطقة غزة بالإدارة المصرية والضفة الغربية لنهر الأردن بالمملكة الأردنية, بلغ عدد سكان إسرائيل 1,174,000 نسمة. بينهم 86% من اليهود. وبقي في إسرائيل 160,000 نسمة فقط من العرب (من مجموع 700,000 نسمة كانوا في ذلك الجزء من فلسطين), بينهم 70% من المسلمين, و21% من المسيحيين, و9% من الدروز.
وكانت فلسطين ـ الانتداب تضم 447 بلدة عربية وعربية ـ يهودية, بينها 434 قرية بقي منها 88 قرية عربية سنة 1948, وبقي العرب المدنيون في 7 مدن فقط بعد أن كانوا منتشرين في 13 مدينة. وانخفضت نسبة سكان المدن العرب من 36 % قبل الحرب إلى 26% سنة 1951. ويعود هذا الانخفاض الحاد في عدد العرب المدنيين. بالدرجة الأولى, إلى اختفاء السكان العرب في مدن طبريا وبيسان وصفد والقدس الغربية وبئر السبع خلال الحرب, واختفائهم التقريبي في مدن حيفا ويافا واللد والرملة. والانخفاض الحاد في عددهم في مدن أخرى (بقي في مدينة عكا سنة 1951 ثلث عددهم سنة 1946, وفي مدينة حيفا 15%) هذا, بينما ارتفع عدد سكان القرى العربية خلال هذه الفترة نفسها. فكل المدن والقرى العربية التي كانت مسرحا للمعارك خلت من سكانها إن بنزوحهم أو بطردهم. فقد كانت قوات الهاغاناه تقصف المدن العربية وتنفذ أعمالا إرهابية ضد سكانها لحملهم على النزوح عنها تمهيدا لاحتلالها. وقد احتلت مئات القرى ومدن حيفا ويافا وطبريا وبيسان وصفد وعكا خلال الأشهر الستة الواقعة بين صدور قرار التقسيم وقيام إسرائيل في 15 أيار/ مايو 1948, وهكذا طرد خلال هذه الفترة فقط نحو 400 ألف عربي من ديارهم. مع العلم بأن القوات الإسرائيلية ظلت تخرق قرارات وقف النار بعد إعلان قيام الدولة, وتحتل البلدات العربية وتهجر سكانها بهدف احتلال فلسطين كلها. ومن هذه البلدات اللد والرملة وبئر السبع, التي كانت ضمن القسم المحدد في قرار التقسيم لإقامة دولة فلسطينية. وبذلك زادت إسرائيل في المساحة المخصصة لها من 56% من مساحة فلسطين إلى ما يقرب من 80%.
وعلى الرغم من أن الوضع ظل غير مستقر لبضعة أعوام بعد الحرب بسبب اصطناعية خط الهدنة واستمرار سياسية الإجلاء القسري الإسرائيلية والنزوح, فقد ظهرت ثلاث مجموعات متميزة في وسط 1,400,000 لاجئ فلسطيني أوائل الخمسينات.
(1) 400,000 نسمة من سكان الضفة الغربية التي حال الدفاع الناجح عنها دون مواطنين أردنيين مع نحو 475,000 لاجئ فلسطيني كانوا قد استقروا في المملكة.
(2) نخبة مالية ومثقفة صغيرة من اللاجئين, استوعبت في الدول العربية التي استقرت فيها بفضل ثرواتها ومهاراتها. وكان اللاجئون الذين يتعلمون ويكتسبون المهارات يغادرون. في معظمهم, المخيمات الأمر الذي زاد في عدد «اللاجئين المستوعبين». وقد أصبح نصف اللاجئين خارج المخيمات و180,000 منهم مستقلين عن مساعدات وكالة الأونروا.
(3) 875,998 لاجئا فلسطينيا معدما ومن دون مأوى كما أفادت وكالة الأونروا في سنة 1951, وقد انتشروا في بيروت ودمشق وعمان وقطاع غزة. وقد قامت الأمم المتحدة, سنة 1949, بتجمعيهم في 64 مخيما في لبنان وسوريا والأردن وإسرائيل, حيث عاشوا تحت وقع الصدمة, في مرارة ويأس. وبلغ مستوى تطورهم كجماعة قومية ذات وعي فلسطيني درجة متدنية, وظل كذلك إلى ما بعد حرب حزيران/ يونيو 1967. وقد بلغت نسبة اللاجئين داخل إسرائيل 25% من مجمل السكان العرب فيها (أي ما يزيد على 40,000 نسمة), منعهم الجيش من العودة إلى قراهم أو أنهم لم يعودا إليها بسبب الدمار الذي حل فيها.
لكن على عكس ما هو شائع, لم يحاول الفلسطينيون دائما الهرب عبر الحدود. فردة فعل الأكثرية العربية في أثناء الحرب كانت ردة فعل محلية في الأساس. أي أن سكان القرية كانوا ينزحون عن قريتهم عندما يقترب القتال منها ويلجأون,. في كثير من الأحيان, إلى قرية أخرى حيث ينتظرون توقف القتال للعودة إلى بيوتهم. وهذا يعني أنه إلى جانب الذين نزحوا عن البلد, كان هناك لاجئون نزحوا داخل البلد, إما لتجنب أهوال الحرب وإما بسبب الذعر الذي أثارته فيهم أخبار المجازر الجماعية والفظائع الأخرى التي كانت القوات الصهيونية تركبها ضد العرب خلال القتال وبعده. وكان هناك من غرر بهم فنزحوا عن قراهم مصدقين وعود الهاغاناه بإمكان عودتهم إليها بعد انتهاء القتال. كما كان هناك من لم يغادروا قراهم بإرادتهم بل طردوا منها بعد احتلالها, كما طرد آخرون من القرى التي لجأوا إليها, ونقلوا إلى ما وراء الحدود, بالإضافة إلى عشرات الآلاف من العرب الذين لازموا قراهم, قبل ترحيلهم على يد الجيش الإسرائيلي إلى حدود المنطقة العربية ـ كما حدث لسكان مدينتي الرملة واللد والقرى المجاورة لهما. وقد كانت هناك سياسة تقضي بمنع عودة اللاجئين إلى القرى التي شهدت نزوحا جماعيا, وكانت الأوامر المعطاة للجيش الإسرائيلي تقضي بـ «تشجيع» العرب على النزوح من خلال تدمير المدن والقرى.
إن بنية المجتمع القومي التي كانت تتبلور في عهد الانتداب البريطاني قد دمرت تدميرا تاما: إذ سحق أساسها البشري بسبب النزوح, والطرد الجماعي, ورفض حكومة إسرائيل السماح سوى لعدد ضئيل بالعودة. فقد بقي في إسرائيل خمس عدد العرب الذين كانوا يعيشون في ذلك الجزء الذي قامت هذه الدولة عليه, واختفى عن الخريطة أكثر من 400 قرية إضافة إلى أن المدن العربية الرئيسية الثلاث في فلسطين ـ الانتداب لم تعد, في أغلبية سكانها, مدنا عربية. وقد قضى اختفاء السكان المدينين العرب, بضربة واحدة, على أساس عرب إسرائيل الصناعي والتجاري. وأصبح اليهود الإسرائيليون, بعد قيام الدولة, المصدر الرئيسي الذي يزود العرب بحاجاتهم من السلع والبضائع, ويوفر الوظائف لهم. كما تلقى القطاع الزراعي ضربة شديدة من جراء القيود التي فرضت على الزراعة العربية عن سياسة مصادرة أراضي القرى, وغيرها من القيود التي فرضها الحكم العسكري وسيطرة نظام الحكم اليهودي على الزراعة العربية من خلال التحكم في الأسواق والأسعار.
أثرت هذه التغييرات الديموغرافية تأثيرا عميقا في مكانة عرب إسرائيل السياسية. فقد تدهورت قوتهم السياسية الكامنة بسبب الانخفاض الحاد في عددهم, وضعفت ـ إلى حد كبير ـ قدرتهم على استرداد عافيتهم السياسية بسبب هجرة قياداتهم والانخفاض الحاد في الأساس العددي الذي يتيح نمو قيادة جديدة. أما سكان القرى الذين اعتادوا التعامل مع سلطات الانتداب من خلال وساطة العائلات العربية المدينية, فقد وجدوا أنفسهم فجأة عزلا, من دون شبكة الصلات والعلاقات التي كانت قائمة.
كان اقتصاد هذه الأقلية العربية ـ و60 % منها كانوا من الفلاحين ـ مقطع الأوصال وبنيتها الاجتماعية مفتتة, تفتقر إلى التنظيم السياسي وينهشها الخوف والأمية والصدمة. وقد بترت عن المراكز الثقافية والسياسية في العالم العربي, وعن مراكز القيادة المحلية الجديدة التي كانت في طور النمو نتيجة ترحيل سكان مدن فلسطين, بؤر هذه الحركة الحديثة, «فالبورجوازية الوطنية التي كانت فطنتها في مجال الأعمال والتنظيم مهمة جدا لتمهيد أسس أي اندفاع نحو العصرنة, والبررجوزية الصغيرة التي كانت العمود الفقري وقوة هذا المجتمع ـ الأطباء والمحامون والمعلمون, وموظفو الدولة, وموظفو المكاتب والكتاب والمفكرون ـ ذهبت كلها» لكن «قصة هؤلاء الذين بقوا هي قصة تحول مستمر من المجتمع التقليدي إلى المجتمع العصري. فقد استمرت عملية تآكل أشكال التنظيم الاجتماعي التقليدي, التي حكمت حياتهم, ورافقها تحرك في اتجاه وعي وتنظيم سياسيين واجتماعيين قائمين على أساس أيديولوجي لا على أساس قبلي أو ديني ـ طائفي.»
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر