فدية الابن البكر في اليهودية
بروفيسور حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
جاء في سفر الخروج ١٣: ٢ “قدّس لي كل بِكر فاتح رحم من بني إسرائيل من الناس ومن البهائم إنه لي” (وينظر أيضا في: خر ١٣: ١٢-١٥، ٢٢: ٢٩، ٣٤: ٢٠؛ لا ١: ٢-٤؛ عد ٣: ٤٥، ٨: ١٧، ١٨: ١٦؛ لو ٢: ٢٢-٢٤). يعود مصدر القيام بهذه الفريضة إلى قبيل خروج بني إسرئيل من مصر وقبيل إعطاء التوراة وبُعيد الضربة العاشرة، ضربة البواكير (أنظر خر ١٣:٢، ١٥). في العام الثاني للخروج المذكور اتّضحت معالم هذه الفريضة. وسبب هذه الفريضة مذكور في سفر العدد ٣: ١٣ “لأن كل بِكر من شعب إسرائيل هو لي. فقد أفرزت لي كل بكر في إسرائيل من الناس والبهائم منذ أن أهلكت كل بكر في ديار مصر. لي يكونون أنا الربّ” (أنظر عد ٨: ١٧). كان الأبكار في البداية هم الكهنة الأوائل في “الهيكل/المسكن” في الصحراء إلى أن بدّلوا باللاويين (عد ٣: ١٢). كما أن بواكير الأحياء والنبات كانت مكرّسة لله وأعطيت للكهنة (تث ١٥: ١٩-٢٣) وهكذا كانت أبكار الإنسان ملكا للخالق أيضا ولتحريرهم لا بدّ من دفع فدية للكاهن وهي خمسة شواقل. قد يعكس هذا الفرض النهج الكنعاني أي تقديم البكور لمولخ الإله. ويذكر أن الكهنة واللاويين وكذلك بناتهم معفيون من هذه الفريضة. ويعود أصل طقس تقديم الفدية المذكورة والمتبعة في أيامنا هذه إلى حقبة الچئونيم.
في العقيدة اليهودية كل الأمم هي أبناء الله إلا أن بني إسرائيل مفضّلون عند الله فهم بمثابة الابن البكر (خر ٤: ٢٢-٢٣) وفيه مسحة من القدسية. للابن البكر مكانة مركزية في المجتمعات الإنسانية المختلفة، فقد ورد مثلا في سفر الخروج منذ أكثر من ثلاثةآلاف عام، أن إسرائيل هو الابن البكر بالنسبة لله، ٤: ٢٢. وينبغي أن يكون الآبن البكر مستحقا لتسلّم دور أبيه بعد وفاته وأن يتحلى بالسمات الروحانية المطلوبة وإلا فبكوريته تبقى مجرّد اسم فقط، كما حدث لإسماعيل وعيسو ورئوڤين. ولا يسع البكر أن يحيا حياة عادية بدون الفدية المذكورة التي يتمخّض عنها نقل قدسية البكر للكاهن. وكل شيء أولي يشبه، لحد ما الخالق، سبحانه وتعالى، إذ أنه بداية الوجود. في الماضي كرّس اليهودي ابنه البكر لخدمة الله إلى أن تم إعفاؤه من ذلك إثر قيام اللاويين بمهام الكهانة مقابل فدية يدفعها الأب للكاهن بعد ولادة البكر بشهر من الزمان.
عبد بنو إسرائيل العِجل في التيه ومن ضمن ذلك الأبكار، وعندها نزع الله الحليّ عنهم وتخلّى عن خدماتهم (أنظر هو ٤: ٦، تث ١٠: ٨) مستبدلا إياهم ببني ليڤي/لاوي لأنهم لم يشتركوا في معمعة صبّ العجل الذهبي (تث١٠: ٨؛ عد، ٣). ومن سبط ليڤي اختار الله أهرون وبنيه للكهانة مانحا إياهم أربعا وعشرين هدية كهنوتية، منها فدية الابن البكر بخمسة سلعيم وذلك تكفيرا عن اثم بيع يوسف بكر راحيل (عد ٣: ٤٦). لاوي لم يكن بكر يعقوب بل الابن الثالث ومع هذا اختاره الله ليُري شعبَه أن البكورية ليست قائمة جسديا بل معنوبا، وهكذا كما تخطّى ليڤي أخويه، رئوڤين وشمعون، هكذا حدث بالنسبة ليسوع المسيح وآدم. ونذكر هنا بكورية يعقوب (تك ٢٧: ١١) وليس عيسو البكر. بكورية المسيح تختلف عن باقي أخواتها، إنها فتحت الباب على مصراعيه أمام البشرية جمعاء لتتعم بالبكورية من خلاله. وقد كفّر لاوي عن اثمه في المشاركة في بيع أخيه يوسف عندما لم يشترك في صنع العجل المذهّب.
وعندها، أي في السنة الثانية لخروج بني إسرائيل من مصر تحتّم عليهم تقديم خمسة سلعيم للكاهن فدية للأبكار (عد ٣: ١٣؛ ٨: ١٧). لفريضة فدية البكر أبعاد معينة مثل، قدسية لأبكار إسرائيل المولودين طبيعيا وبغية الانخراط في الحياة العادية العامّة ينبغي على البكر نقل هذه القدسية للكاهن بواسطة فدية الابن. في الواقع الابن البكر مُلك للخالق وفريضة الفدية تشهد على ذلك. وفي الفريضة هذه تتجلى فريضة وجبة الشكر لله الذي حافظ على أبكار إسرائيل وقتل أبكار المصريين من البشر والحيوانات. والفريضة تسبغ على البكر حياة موفقّة في المستقبل كما ورد في كتاب الزوهر ورقة ١٤. وقد حددت التوراة (عد ١٨: ١٥-١٦) ثمن فدية البكر بوزن خمسة شواقل من الفضة الصافية، ما يعادل ٩٦ غراما تقريبا من الفضة النقية أي ما يعادل المائتين دولار أمريكي اليوم، وكل إضافة في المقدار مرحّب بها. كما ويمكن دفع مقدار الفدية بتقديم شمعدانات وكؤوس فضية وحتى فواكه وملابس وما شابه ذلك. مع هذا لا بد من الإشارة إلى عدم صلاحية إجراء الفدية عن طريق ثلاث وسائل: الأرض، العبيد وسندات مالية (أنظر سفر بخوروت في التلمود ٥١، ١؛ موسى بن ميمون، مشنيه توراه، شقليم ١، ٣). ويُذكر أن الشركة الحكومية الإسرائيلية للمسكوكات قد سكّت قطعا نقدية خاصة للفدية البكرية
تتم فريضة “فدية الابن البكر” بالنسبة لابن بكر وُلد بطريقة طبيعية ولم يكن إجهاضا قبل ذلك ولا صلة لوالديه لا بالكهانة ولا بآل لاوي. وتدلّ هذه الفريضة على أن هذا الابن هو للخالق أي عليه عبادة الله في الهيكل (خر ٤: ٢٣) وتحريره من هذه المهمّة يتمّ في طقس سيُشرح لاحقا. هدف هذه الفريضة تذكير الإنسان كثير النسيان أن كل خير من عند الله. ولذلك على الإنسان التعبير عن الامتنان والتسبيح لباريه وفق ما يرد في الفرائض العديدة. ومن المعروف أن اليهودية تعارض فكرة الخطية الأصلية جملة وتفصيلا. تقدر نسبة الآباء المفروض عليهم القيام بهذه الفريضة بقرابة ٤٠٪.
يعتبر عيد الفسح اليهودي من أهم الأعياد كما ورد في سفر الخروج الإصحاح ١٢ ومعناه المعجمي العبور والتخطي، أي أن ملاك الهلاك سيتخطّى بيوتَ بني إسرائيل إذ أنها كانت مميّزة عن غيرها بعلامة الدم على أبوابها. حدث هذا العيد عندما أراد الله أن يعبر بنو إسرائيل الصحراء من مصر إلى أرض كنعان لئلا يتعرضوا لضرباته العشر المبينة في السفر المذكور. والضربة العاشرة كانت، كما أسلفنا، القضاء على أبكار البشر والبهائم، أي الابن البكر من ناحية الأب وله الضعف في الميراث ويحمل اسم الجدّ وهو الأعز من كلا الصنفين وينظر في تك ٢٥: ٣١، ٤٨: ١٦، خر ١٣: ٢، ١٥، ٤: ٢٢؛ تث ٢١: ١٧. وعلامة الدم هذه كانت من دم خروف الفسح السليم، ابن السنة، المسفوك للتكفير عن خطايا بني إسرائيل. وهذا العمل يمثل عملية فدية جلية، موت الخروف بدلا من وفاة البكر.
ومن المعروف أن ظاهرة هذه الفدية كانت موجودة قبل بزوغ الديانات السماوية الثلاث، ففي قصة ابني آدم، قايين وهابيل، كما ورد في سفر التكوين، إشارة واضحة لتقديم التقدمة للباري. قدم الابن الأول لله من ثمار الأرض أما الثاني فقدم من أفضل غنمه وقبل الله تقدمة الثاني الحيوانية. وذكر الفدية، موت الكبش أو الخروف، نيابة عن الإنسان معروف في الديانات الثلاث بتفاصيلَ معينة مختلفة بالطبع، إسحق في اليهودية، إسماعيل في الإسلام ويسوع المسيح في المسيحية. وجوهر الأمر أن فدية النفس لا يتم إلا بسفك دم حيوان آخرَ لا عيب به البتة وهنا وجه الشبه بين هذا الخروف ويسوع فهو. كما يقال، وجيه الدنيا والآخرة، دون أية ذرة من عيب أو شائبة، إنه ضحّى بنفسه للتكفير عن خطايا الجنس البشري بأكمله.
ويُذكر أن فكرة الفدية والخطيئة الأولى هي في الأساس وثنية صرف تعود جذورها إلى قرون عديدة قبل ميلاد يسوع المسيح. إسماعيل وعيسو لم يحظيا بمكانة البكر كما حدث لإسحق ويعقوب غير البكريين. إن الإيمان بالخلاص عن طريق تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدية عن الخطيئة موغل في القدم حقا. كان المصريون القدماء يعتقدون أن أوزريس هو مخلص البشر وكانوا يقدمون الابن البكر من الأسر الأتاتانية ذبيحة في الهيكل إرضاء للآلهة. هناك أيضا كرشنا الذي صُلب في الهند سنة ١٢٠٠ق.م.، ومثرا الذي ولد في كهف في ٢٥ كانون الأول وصلب في فارس حوالي عام ٦٠٠ ق.م. لنفس الغاية. ويذكر أن هناك بعض أوجه الشبه بين مثرا هذا والمسيح، الولادة من عذراء؛ الحصول على تمجيد الرعاة والحصول على الفواكه؛ عقيدة الكلمة والثالوث. وبوذا سيكا تم صلبه في الهند عام ٦٠٠ ق.م. وقد أطلقت عليه بعض الأسماء مثل نور العالم، مخلص العالم، ينبوع الحياة. وكانت والدته تدعى العذراء القديسة وملكة السماء. وكان كوجزا لكوت قد صلب في المكسيك سنة ٥٨٧ق.م. وقد أرخت عملية الصلب هذه على صفائح معدنية، يظهر فيها مرة مصلوبا على جبل ومرة ثانية في السماء وثالثة بين لصّين. وهناك أيضا في هذه السلسلة من الأمثلة التاريخية برومثيوس الذي ضحّى بروحه خدمة للبشر في القوقاز عام ٥٤٧ق.م. وكيرينوس المصلوب في روما عام ٥٠٦ق.م.
وقد حدّدت التوراة موعد إجراء الفريضة في اليوم الواحد والثلاثين (على ألا يكون يوم سبت لوجود دفع مبلغ الفدية وعليه فيؤجل لليوم التالي) من ميلاد الابن البكر كما جاء في سفر العدد ١٨: ١٥-١٦ وفي التلمود الفلسطيني، يڤموت ٦٥. ويقوم بالفريضة الوالد وإلا فعلى الابن عندما يصبح ابن ثلاث عشرة سنة، بار متسڤاه، ولا دور للأم في ذلك. وقبيل القيام بالفريضة يتأكد الكاهن من توفر شروط القيام بالفريضة؛ يغسل الكاهن يديه ويكسر الخبز ويتناول القليل منه، يتلو بعض الآيات من سفر المزامير لا سيما “مبارك الآتي باسم الله”، ثم يصرح الوالد: زوجتي الإسرائيلية ولدت لي هذا الابن البكر لأمه الإسرائيلية والله تبارك اسمه أمر بفدائه كما ورد في سفري العدد ١٨: ١٥ والخروج ١٣: ٢. يقدّم الوالد بِكره للكاهن (في الماضي كان يوضع الطفل على صينية فضية ووسادة مطرزة) بعد أن تكون أمّه قد ألبسته بأفخر الأردية البيضاء ووضعت حليها الذهبي عليه ذكرى اثم صناعة العجل. يسأل الكاهن إما بالآرامية أو العبرية: מאי בעית טפי, ברך בוכרך, או ה סלעים דמחייבת למפרקיה בהו? ما اختيارك، بابنك البكر هذا أم بخمسة سلعيم التي عليك دفعها للفدية؟ ويجيبه الأب بما معناه: أريد ابني البكر، وعندها يتلو بركتين، على فدية الابن وعلى بركة “الذي أحيانا وأبقانا وأوصلنا إلى هذا الزمن” وفور ذلك يدفع الأب الفدية للكاهن. وبعدها يتناول الكاهن كأس نبيذ ويتلو بركة “خالق ثمرة الكرمة” ويشربه ثم يمسك (الكاهن السفاردي لا الإشكنازي) بفرع هداس ويتلو التبريك “خالق أشجار العطور” ويشمّه وأخيرا يبارك الكاهن الطفل ببركة الكهنة بكلتا يديه على الرأس ويعيده للوالد. وقد يرتل الكاهن في نهاية هذا الطقس المزمور ١٢٨. ومن المعاني المترتبة على سؤال الكاهن الساذج التركيز على دور الوالد في تنشئة الابن كما يجب وعدم التهافت وراء الماديات. ومن المستحسن جدا في أيامنا البحث عن كاهن ورع وفقير لإجراء فدية البكر ليتسلم المبلغ المدفوع هدية صدقة. يذكر أن الهلاخاه، الشريعة اليهودية، تجيز للكاهن إرجاع المبلغ للوالد أو الاحتفاظ به. ويذكر أن هناك بعض الاختلافات الطفيفة في إجراء طقوس هذه الفدية لدى الطوائف المتباينة، الإشكناز والسفارديم واليمنيين. هناك بعض المصادر اليهودية الربانية التي تجيز للمرأة، ابنة الكاهن، القيام بهذا الاحتفال الديني.
نشير باختصار شديد لاحتفال مشابه لدى طائفتين صغيرتين في الديار المقدسة، الدروز والسامريين. يختن الابن الدرزي خلال أول أسبوعين من حياته وفي يوم الأربعين يأتي الضيوف للزيارة والتبريك، يشربون الشاي أو المغلي ويضعون بعض النقود تحت فنجان الشاي. يمسح جسم المولود بمستحضر نبات بري عطري وتكحّل عيناه بدوائر سوداء ويرتدي بذلة جديدة. وعلى الوالدة البقاء في البيت طيلة هذا الطقس. ويتم هذا الاحتفال لدى أصغر طائفة في العالم، السامريين في نابلس وحولون، في بيت الوالد في اليوم الواحد والثلاثين من عمر البكر. يدعى الكاهن الأكبر، الكهنة والوجهاء إلى هذا الاحتفال السارّ ويقرأ الكاهن الأكبر الفقرة الخاصة من سفر الخروج ١٣ ويعطي والدُ البكر مبلغا للكاهن الأكبر، بضع مئات من الشواقل ويتمتع الحاضرون بما تيسّر من مأكل ومشرب. ويذكر أن السامري البكر يضع منذ بداية القرن الماضي نقطة من دم قربان الفسح على جبينه وكانت العادة قبل ذلك التاريخ وضع علامة الدم على أبواب البيوت كما ورد في التوراة. وفي الإسلام هناك ما يدعى بسنّة العقيقة/النسيكة وهي لغة الشق والقطع وشرعا الذبح عن المولود وهي عبارة عن تزكية للمولود وامتنان للخالق الوهّاب. وتوزّع العقيقة ثلاثا، ثلث لأهل المولود وثلث للصدقة والثالث هدية. وتجري ذبيحة المولود في يومه السابع أو الرابع عشر أو الواحد والعشرين ويطلق عليه اسمه ويحلق شعر رأسه وينبغي التصدق بمقدار وزن الشعر فضة. وتنحر شاتان سليمتان عن الذكر عمر كل منهما عام كامل وهنا تقديم الفدية هذه أولا للتعبير عن الشكر العظيم للباري على هذه النعمة وثانيا درء للمصائب والمتاعب.
يذكر أن شعيرة الختانة (تك ١٧: ١٠-١٤، لا ١٢: ٣) قد مرت بمراحل معينة لدى بني إسرائيل ففي المراحل الأولى كانت الختانة تتم قبل الزواج أي في السنة الثالثة عشرة، كما حدث لإسماعيل (تك ١٧: ٢٥) وبعد حقبة المنفى أجريت الختانة في اليوم الثامن كما يعرفها القاصي والداني اليوم. وفي الكنيسة كانت هناك عادة لإجراء المعمودية في اليوم الثامن.
عصارة مغزى فدية البكر هي أن يعترف الإنسان أن كل ما لديه من خير ونعمة كفلذات كبده الأعزاء الأبكار، هو من عند الله والطقس المذكور علامة وذكرى اتعاظ لسائر الأولاد.
بروفيسور حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
جاء في سفر الخروج ١٣: ٢ “قدّس لي كل بِكر فاتح رحم من بني إسرائيل من الناس ومن البهائم إنه لي” (وينظر أيضا في: خر ١٣: ١٢-١٥، ٢٢: ٢٩، ٣٤: ٢٠؛ لا ١: ٢-٤؛ عد ٣: ٤٥، ٨: ١٧، ١٨: ١٦؛ لو ٢: ٢٢-٢٤). يعود مصدر القيام بهذه الفريضة إلى قبيل خروج بني إسرئيل من مصر وقبيل إعطاء التوراة وبُعيد الضربة العاشرة، ضربة البواكير (أنظر خر ١٣:٢، ١٥). في العام الثاني للخروج المذكور اتّضحت معالم هذه الفريضة. وسبب هذه الفريضة مذكور في سفر العدد ٣: ١٣ “لأن كل بِكر من شعب إسرائيل هو لي. فقد أفرزت لي كل بكر في إسرائيل من الناس والبهائم منذ أن أهلكت كل بكر في ديار مصر. لي يكونون أنا الربّ” (أنظر عد ٨: ١٧). كان الأبكار في البداية هم الكهنة الأوائل في “الهيكل/المسكن” في الصحراء إلى أن بدّلوا باللاويين (عد ٣: ١٢). كما أن بواكير الأحياء والنبات كانت مكرّسة لله وأعطيت للكهنة (تث ١٥: ١٩-٢٣) وهكذا كانت أبكار الإنسان ملكا للخالق أيضا ولتحريرهم لا بدّ من دفع فدية للكاهن وهي خمسة شواقل. قد يعكس هذا الفرض النهج الكنعاني أي تقديم البكور لمولخ الإله. ويذكر أن الكهنة واللاويين وكذلك بناتهم معفيون من هذه الفريضة. ويعود أصل طقس تقديم الفدية المذكورة والمتبعة في أيامنا هذه إلى حقبة الچئونيم.
في العقيدة اليهودية كل الأمم هي أبناء الله إلا أن بني إسرائيل مفضّلون عند الله فهم بمثابة الابن البكر (خر ٤: ٢٢-٢٣) وفيه مسحة من القدسية. للابن البكر مكانة مركزية في المجتمعات الإنسانية المختلفة، فقد ورد مثلا في سفر الخروج منذ أكثر من ثلاثةآلاف عام، أن إسرائيل هو الابن البكر بالنسبة لله، ٤: ٢٢. وينبغي أن يكون الآبن البكر مستحقا لتسلّم دور أبيه بعد وفاته وأن يتحلى بالسمات الروحانية المطلوبة وإلا فبكوريته تبقى مجرّد اسم فقط، كما حدث لإسماعيل وعيسو ورئوڤين. ولا يسع البكر أن يحيا حياة عادية بدون الفدية المذكورة التي يتمخّض عنها نقل قدسية البكر للكاهن. وكل شيء أولي يشبه، لحد ما الخالق، سبحانه وتعالى، إذ أنه بداية الوجود. في الماضي كرّس اليهودي ابنه البكر لخدمة الله إلى أن تم إعفاؤه من ذلك إثر قيام اللاويين بمهام الكهانة مقابل فدية يدفعها الأب للكاهن بعد ولادة البكر بشهر من الزمان.
عبد بنو إسرائيل العِجل في التيه ومن ضمن ذلك الأبكار، وعندها نزع الله الحليّ عنهم وتخلّى عن خدماتهم (أنظر هو ٤: ٦، تث ١٠: ٨) مستبدلا إياهم ببني ليڤي/لاوي لأنهم لم يشتركوا في معمعة صبّ العجل الذهبي (تث١٠: ٨؛ عد، ٣). ومن سبط ليڤي اختار الله أهرون وبنيه للكهانة مانحا إياهم أربعا وعشرين هدية كهنوتية، منها فدية الابن البكر بخمسة سلعيم وذلك تكفيرا عن اثم بيع يوسف بكر راحيل (عد ٣: ٤٦). لاوي لم يكن بكر يعقوب بل الابن الثالث ومع هذا اختاره الله ليُري شعبَه أن البكورية ليست قائمة جسديا بل معنوبا، وهكذا كما تخطّى ليڤي أخويه، رئوڤين وشمعون، هكذا حدث بالنسبة ليسوع المسيح وآدم. ونذكر هنا بكورية يعقوب (تك ٢٧: ١١) وليس عيسو البكر. بكورية المسيح تختلف عن باقي أخواتها، إنها فتحت الباب على مصراعيه أمام البشرية جمعاء لتتعم بالبكورية من خلاله. وقد كفّر لاوي عن اثمه في المشاركة في بيع أخيه يوسف عندما لم يشترك في صنع العجل المذهّب.
وعندها، أي في السنة الثانية لخروج بني إسرائيل من مصر تحتّم عليهم تقديم خمسة سلعيم للكاهن فدية للأبكار (عد ٣: ١٣؛ ٨: ١٧). لفريضة فدية البكر أبعاد معينة مثل، قدسية لأبكار إسرائيل المولودين طبيعيا وبغية الانخراط في الحياة العادية العامّة ينبغي على البكر نقل هذه القدسية للكاهن بواسطة فدية الابن. في الواقع الابن البكر مُلك للخالق وفريضة الفدية تشهد على ذلك. وفي الفريضة هذه تتجلى فريضة وجبة الشكر لله الذي حافظ على أبكار إسرائيل وقتل أبكار المصريين من البشر والحيوانات. والفريضة تسبغ على البكر حياة موفقّة في المستقبل كما ورد في كتاب الزوهر ورقة ١٤. وقد حددت التوراة (عد ١٨: ١٥-١٦) ثمن فدية البكر بوزن خمسة شواقل من الفضة الصافية، ما يعادل ٩٦ غراما تقريبا من الفضة النقية أي ما يعادل المائتين دولار أمريكي اليوم، وكل إضافة في المقدار مرحّب بها. كما ويمكن دفع مقدار الفدية بتقديم شمعدانات وكؤوس فضية وحتى فواكه وملابس وما شابه ذلك. مع هذا لا بد من الإشارة إلى عدم صلاحية إجراء الفدية عن طريق ثلاث وسائل: الأرض، العبيد وسندات مالية (أنظر سفر بخوروت في التلمود ٥١، ١؛ موسى بن ميمون، مشنيه توراه، شقليم ١، ٣). ويُذكر أن الشركة الحكومية الإسرائيلية للمسكوكات قد سكّت قطعا نقدية خاصة للفدية البكرية
تتم فريضة “فدية الابن البكر” بالنسبة لابن بكر وُلد بطريقة طبيعية ولم يكن إجهاضا قبل ذلك ولا صلة لوالديه لا بالكهانة ولا بآل لاوي. وتدلّ هذه الفريضة على أن هذا الابن هو للخالق أي عليه عبادة الله في الهيكل (خر ٤: ٢٣) وتحريره من هذه المهمّة يتمّ في طقس سيُشرح لاحقا. هدف هذه الفريضة تذكير الإنسان كثير النسيان أن كل خير من عند الله. ولذلك على الإنسان التعبير عن الامتنان والتسبيح لباريه وفق ما يرد في الفرائض العديدة. ومن المعروف أن اليهودية تعارض فكرة الخطية الأصلية جملة وتفصيلا. تقدر نسبة الآباء المفروض عليهم القيام بهذه الفريضة بقرابة ٤٠٪.
يعتبر عيد الفسح اليهودي من أهم الأعياد كما ورد في سفر الخروج الإصحاح ١٢ ومعناه المعجمي العبور والتخطي، أي أن ملاك الهلاك سيتخطّى بيوتَ بني إسرائيل إذ أنها كانت مميّزة عن غيرها بعلامة الدم على أبوابها. حدث هذا العيد عندما أراد الله أن يعبر بنو إسرائيل الصحراء من مصر إلى أرض كنعان لئلا يتعرضوا لضرباته العشر المبينة في السفر المذكور. والضربة العاشرة كانت، كما أسلفنا، القضاء على أبكار البشر والبهائم، أي الابن البكر من ناحية الأب وله الضعف في الميراث ويحمل اسم الجدّ وهو الأعز من كلا الصنفين وينظر في تك ٢٥: ٣١، ٤٨: ١٦، خر ١٣: ٢، ١٥، ٤: ٢٢؛ تث ٢١: ١٧. وعلامة الدم هذه كانت من دم خروف الفسح السليم، ابن السنة، المسفوك للتكفير عن خطايا بني إسرائيل. وهذا العمل يمثل عملية فدية جلية، موت الخروف بدلا من وفاة البكر.
ومن المعروف أن ظاهرة هذه الفدية كانت موجودة قبل بزوغ الديانات السماوية الثلاث، ففي قصة ابني آدم، قايين وهابيل، كما ورد في سفر التكوين، إشارة واضحة لتقديم التقدمة للباري. قدم الابن الأول لله من ثمار الأرض أما الثاني فقدم من أفضل غنمه وقبل الله تقدمة الثاني الحيوانية. وذكر الفدية، موت الكبش أو الخروف، نيابة عن الإنسان معروف في الديانات الثلاث بتفاصيلَ معينة مختلفة بالطبع، إسحق في اليهودية، إسماعيل في الإسلام ويسوع المسيح في المسيحية. وجوهر الأمر أن فدية النفس لا يتم إلا بسفك دم حيوان آخرَ لا عيب به البتة وهنا وجه الشبه بين هذا الخروف ويسوع فهو. كما يقال، وجيه الدنيا والآخرة، دون أية ذرة من عيب أو شائبة، إنه ضحّى بنفسه للتكفير عن خطايا الجنس البشري بأكمله.
ويُذكر أن فكرة الفدية والخطيئة الأولى هي في الأساس وثنية صرف تعود جذورها إلى قرون عديدة قبل ميلاد يسوع المسيح. إسماعيل وعيسو لم يحظيا بمكانة البكر كما حدث لإسحق ويعقوب غير البكريين. إن الإيمان بالخلاص عن طريق تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدية عن الخطيئة موغل في القدم حقا. كان المصريون القدماء يعتقدون أن أوزريس هو مخلص البشر وكانوا يقدمون الابن البكر من الأسر الأتاتانية ذبيحة في الهيكل إرضاء للآلهة. هناك أيضا كرشنا الذي صُلب في الهند سنة ١٢٠٠ق.م.، ومثرا الذي ولد في كهف في ٢٥ كانون الأول وصلب في فارس حوالي عام ٦٠٠ ق.م. لنفس الغاية. ويذكر أن هناك بعض أوجه الشبه بين مثرا هذا والمسيح، الولادة من عذراء؛ الحصول على تمجيد الرعاة والحصول على الفواكه؛ عقيدة الكلمة والثالوث. وبوذا سيكا تم صلبه في الهند عام ٦٠٠ ق.م. وقد أطلقت عليه بعض الأسماء مثل نور العالم، مخلص العالم، ينبوع الحياة. وكانت والدته تدعى العذراء القديسة وملكة السماء. وكان كوجزا لكوت قد صلب في المكسيك سنة ٥٨٧ق.م. وقد أرخت عملية الصلب هذه على صفائح معدنية، يظهر فيها مرة مصلوبا على جبل ومرة ثانية في السماء وثالثة بين لصّين. وهناك أيضا في هذه السلسلة من الأمثلة التاريخية برومثيوس الذي ضحّى بروحه خدمة للبشر في القوقاز عام ٥٤٧ق.م. وكيرينوس المصلوب في روما عام ٥٠٦ق.م.
وقد حدّدت التوراة موعد إجراء الفريضة في اليوم الواحد والثلاثين (على ألا يكون يوم سبت لوجود دفع مبلغ الفدية وعليه فيؤجل لليوم التالي) من ميلاد الابن البكر كما جاء في سفر العدد ١٨: ١٥-١٦ وفي التلمود الفلسطيني، يڤموت ٦٥. ويقوم بالفريضة الوالد وإلا فعلى الابن عندما يصبح ابن ثلاث عشرة سنة، بار متسڤاه، ولا دور للأم في ذلك. وقبيل القيام بالفريضة يتأكد الكاهن من توفر شروط القيام بالفريضة؛ يغسل الكاهن يديه ويكسر الخبز ويتناول القليل منه، يتلو بعض الآيات من سفر المزامير لا سيما “مبارك الآتي باسم الله”، ثم يصرح الوالد: زوجتي الإسرائيلية ولدت لي هذا الابن البكر لأمه الإسرائيلية والله تبارك اسمه أمر بفدائه كما ورد في سفري العدد ١٨: ١٥ والخروج ١٣: ٢. يقدّم الوالد بِكره للكاهن (في الماضي كان يوضع الطفل على صينية فضية ووسادة مطرزة) بعد أن تكون أمّه قد ألبسته بأفخر الأردية البيضاء ووضعت حليها الذهبي عليه ذكرى اثم صناعة العجل. يسأل الكاهن إما بالآرامية أو العبرية: מאי בעית טפי, ברך בוכרך, או ה סלעים דמחייבת למפרקיה בהו? ما اختيارك، بابنك البكر هذا أم بخمسة سلعيم التي عليك دفعها للفدية؟ ويجيبه الأب بما معناه: أريد ابني البكر، وعندها يتلو بركتين، على فدية الابن وعلى بركة “الذي أحيانا وأبقانا وأوصلنا إلى هذا الزمن” وفور ذلك يدفع الأب الفدية للكاهن. وبعدها يتناول الكاهن كأس نبيذ ويتلو بركة “خالق ثمرة الكرمة” ويشربه ثم يمسك (الكاهن السفاردي لا الإشكنازي) بفرع هداس ويتلو التبريك “خالق أشجار العطور” ويشمّه وأخيرا يبارك الكاهن الطفل ببركة الكهنة بكلتا يديه على الرأس ويعيده للوالد. وقد يرتل الكاهن في نهاية هذا الطقس المزمور ١٢٨. ومن المعاني المترتبة على سؤال الكاهن الساذج التركيز على دور الوالد في تنشئة الابن كما يجب وعدم التهافت وراء الماديات. ومن المستحسن جدا في أيامنا البحث عن كاهن ورع وفقير لإجراء فدية البكر ليتسلم المبلغ المدفوع هدية صدقة. يذكر أن الهلاخاه، الشريعة اليهودية، تجيز للكاهن إرجاع المبلغ للوالد أو الاحتفاظ به. ويذكر أن هناك بعض الاختلافات الطفيفة في إجراء طقوس هذه الفدية لدى الطوائف المتباينة، الإشكناز والسفارديم واليمنيين. هناك بعض المصادر اليهودية الربانية التي تجيز للمرأة، ابنة الكاهن، القيام بهذا الاحتفال الديني.
نشير باختصار شديد لاحتفال مشابه لدى طائفتين صغيرتين في الديار المقدسة، الدروز والسامريين. يختن الابن الدرزي خلال أول أسبوعين من حياته وفي يوم الأربعين يأتي الضيوف للزيارة والتبريك، يشربون الشاي أو المغلي ويضعون بعض النقود تحت فنجان الشاي. يمسح جسم المولود بمستحضر نبات بري عطري وتكحّل عيناه بدوائر سوداء ويرتدي بذلة جديدة. وعلى الوالدة البقاء في البيت طيلة هذا الطقس. ويتم هذا الاحتفال لدى أصغر طائفة في العالم، السامريين في نابلس وحولون، في بيت الوالد في اليوم الواحد والثلاثين من عمر البكر. يدعى الكاهن الأكبر، الكهنة والوجهاء إلى هذا الاحتفال السارّ ويقرأ الكاهن الأكبر الفقرة الخاصة من سفر الخروج ١٣ ويعطي والدُ البكر مبلغا للكاهن الأكبر، بضع مئات من الشواقل ويتمتع الحاضرون بما تيسّر من مأكل ومشرب. ويذكر أن السامري البكر يضع منذ بداية القرن الماضي نقطة من دم قربان الفسح على جبينه وكانت العادة قبل ذلك التاريخ وضع علامة الدم على أبواب البيوت كما ورد في التوراة. وفي الإسلام هناك ما يدعى بسنّة العقيقة/النسيكة وهي لغة الشق والقطع وشرعا الذبح عن المولود وهي عبارة عن تزكية للمولود وامتنان للخالق الوهّاب. وتوزّع العقيقة ثلاثا، ثلث لأهل المولود وثلث للصدقة والثالث هدية. وتجري ذبيحة المولود في يومه السابع أو الرابع عشر أو الواحد والعشرين ويطلق عليه اسمه ويحلق شعر رأسه وينبغي التصدق بمقدار وزن الشعر فضة. وتنحر شاتان سليمتان عن الذكر عمر كل منهما عام كامل وهنا تقديم الفدية هذه أولا للتعبير عن الشكر العظيم للباري على هذه النعمة وثانيا درء للمصائب والمتاعب.
يذكر أن شعيرة الختانة (تك ١٧: ١٠-١٤، لا ١٢: ٣) قد مرت بمراحل معينة لدى بني إسرائيل ففي المراحل الأولى كانت الختانة تتم قبل الزواج أي في السنة الثالثة عشرة، كما حدث لإسماعيل (تك ١٧: ٢٥) وبعد حقبة المنفى أجريت الختانة في اليوم الثامن كما يعرفها القاصي والداني اليوم. وفي الكنيسة كانت هناك عادة لإجراء المعمودية في اليوم الثامن.
عصارة مغزى فدية البكر هي أن يعترف الإنسان أن كل ما لديه من خير ونعمة كفلذات كبده الأعزاء الأبكار، هو من عند الله والطقس المذكور علامة وذكرى اتعاظ لسائر الأولاد.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر