شغل موقع التحكيم في قريته وسوّى العديد من النزاعات المحلية وفقاً لمبادئ الشريعة الإسلامية. قبل عدة أشهر كان لقائي بالحاج عبد الرحيم مشعل «أبو خالد»، وهو لقاء اكتسب أهمية مضافة لكون الحاج أبو خالد شاهداً مهماً من شهود النكبة، عايش صفحات مهمة من تاريخ شعبه وشارك فيها بفعالية، علاوة على أنه والد أحد كبار قادة المقاومة الفلسطينية، خالد مشعل.
عُرف الحاج أبو خالد بشغفه بتلاوة القرآن وتعلقه به حتى إن آثار بصمات إبهامه لا تزال على مصحفه الخاص الذي تضاعفت سماكته لكثرة ما قُلّبت صفحاتُه، وهو أمر غير مستغرب، ولا سيما إذا علمنا أن الحاج أبو خالد هو من أبناء قرية سلواد المعروفة بأنها «قرية الشيوخ» بسبب تقليد موغل في القدم يتجلى بقيام رجالها المحليين بدراسة علوم أصول الدين في الأزهر الشريف في القاهرة.
لقد علمتُ بوجود الحاج أبو خالد في منزل نجله بدمشق، وأنه لا مانع لديه من تقديم شهادته على أحداث مفصلية وتاريخية مرت بها القضية الفلسطينية، لم أتردد في القيام بزيارته التي حدد لها موعداً هو مساء الأحد 29/3/2009. ومع غروب ذلك اليوم وصلت إلى المنزل الذي استقبلني فيه حفيده بلال بابتسامة وادعة، واستمهلني في غرفة الجلوس ريثما ينهي الحاج أبو خالد أداء صلاة المغرب.
ما هي إلا دقائق حتى دخل عليّ الحاج أبو خالد متكئاً على عكازه، صافحني مبتسماً وطلب مني الجلوس وقد بدت عليه علامات التعب والإنهاك، وعلمت من حفيده حينها أنه متوعكٌ صحياً، لكنه أصر على أن يحدثني بما لديه، على مدار ساعة من الزمن.
بدأ الحاج أبو خالد حديثه عن فلسطين شعراً فأنشد يقول:
فلسطين العزيزة لي وطن وهي الحمى وهي السكن
وهي الفريدة في الزمن وجميع ما فيها حسن
لسمائها الصيت البعيد وبأرضها الخصب المزيد
ولشبابها الباء السعيد كل الأيادي والمنن
ذكريات القرية
ومن الكلّ إلى الجزء، انتقل بنا الحاج أبو خالد من فلسطين إلى سلواد؛ مسقط رأسه، حيث سرد لنا بعضاً من ذكريات طفولته في القرية، متناولاً ألعاب الطفولة فقال: «كانت ألعاب القرية عامل أُلفةٍ كبيراً، حيث كان الفتيةُ يصنعون طائراتٍ ورقية، ويلعبون بكرات الزجاج الصغيرة، ويبتكرون ألعابهم الخاصة لكشف المهارة والحظ، وكانوا يقضون معظم وقتهم في ظل صخرة عملاقة تشبه القلعة على الحافة العليا لـ«رأس علي»، التي كان الأولاد قد أطلقوا عليها اسم صخرة الخروف. وعندما كانوا يسقطون في أثناء اللعب، كان يطلب منهم النهوض فوراً.
ومضى الحاج أبو خالد يرسم لنا حدود القرية ذاكراً بعض القرى التي تحيط بها كالمزرعة الشرقية وعين يبرود وعصارة وبيرزيت، حيث تقع سلواد في منطقة غنية بالكلس في قلب الضفة الغربية. وفي نهاية الطريق إلى هناك، على بعد ستة عشر ميلاً إلى الشمال من القدس، كان حوالى ثمانية آلاف شخص يعيشون في منطقة ريفية على سفح تلة، ميزتهم كقرويين، وعلاقتهم مع الأرض، وليس عددهم، هو الذي يحدد ذلك.
وصف القرية
كانت بيوت القرية تنتشر متباعدة على طول سلسلة صخرية تمتد باتجاه جنوبي الشمال. كان أمام قاطنيها منظر شامل رائع للسهول الساحلية من يافا إلى حيفا. ويبرز خلفهم جبل العاصور الشامخ، الذي يرتفع 3370 قدماً، ويعدّ ثاني أعلى قمة في الضفة الغربية.
وكانت سلواد قرية معزولة من دون كهرباء. لم يكن فيها سوى هاتف واحد، وكانت المياه تجلب من الآبار، وكانت وسيلة نقل كل عائلة حماراً واحداً في العادة. كان البعض هناك أكثر يسراً من آخرين، لكن الجميع كانوا سواسية، فالجميع كانوا يخبزون أرغفتهم على صاج فولاذي حار، ويضعون عليها بعض أقراص البندورة المزروعة محلياً، والجبن منزلي الصنع، وزيت الزيتون للغداء.
كانت تلك هي حياة الفلاح الفلسطيني.
لفت انتباهي قدرة الحاج أبو خالد على حفظ الأسماء، فقد ذكر لي عدداً من أسماء أبناء قريته بطريقة توحي بأنه يعرفهم معرفة دقيقة، ولم تستطع سنوات عمره التسعون أن تمحوهم من ذاكرته، بينهم مخاتير القرية وحلاقها وحدادها وأصحاب الدكاكين فيها ومجبّر القرية وحتى الداية في القرية وخياطة القرية.
في الثورة
وعن مشاركة أهل القرية في ثورة 1936، قال الحاج أبو خالد: «أذكر أنه كان في البلد في رجل اسمه محمد خلف، وكان ضابطاً في الحكومة التركية، ومن ثم أصبح قائداً للثورة والتفّ حوله أهل القرية متأثرين بخطب القسّام الحماسية في مسجد الاستقلال في حيفا، المدينة التي كان يذهب إليها أبناء القرية بحثاً عن عمل، وقد كنت أحد الذين انضموا للثورة وكان عمري وقتها 18 سنة.
لقد اعتقلت لمدة شهر واحد بتهمة الانتماء للثورة ومساندة الثوار، وتم إرسالي إلى رام الله مع مجموعة من المعتقلين، وقد شارك أبناء القرية في معارك مهمة أبرزها وادي الجوز ووادي البلاط، ومنهم من استشهد كمحمد أبو رية ومحمد عبد القادر وجرح البعض الآخر.
وبعد الثورة زادت حدة العنف بيننا وبين اليهود، وشعرنا بأن بريطانيا تعمل على منح فلسطين لليهود أمام أعيننا جزءاً إثر آخر».
بعد الثورة
في عام 1939 عدت إلى سلواد من حيفا، حيث أصبحت في ما بعد محكِّماً للنزاعات المحلية بين أبناء القرية وفقاً للشريعة الإسلامية، وفي عام 1946 انضممت إلى الإخوان المسلمين متاثراً بخطيب إسلامي جاء إلى سلواد من القاهرة.
وعندما لاحت نكبة عام 1948 حملت السلاح مجدداً، واخترت أن أكون إلى جانب عبد القادر الحسيني رحمه الله، الذي استشهد في معركة القسطل، ولدى ذكر الحاج أبو خالد لعبد القادر الحسيني حشرج صوته واغرورقت عيناه بالدموع.
تحدث الحاج أبو خالد بأسى بالغ عن نكبة عام 1948، وما تركته من صدمة كبيرة في نفوس أبناء الشعب الفلسطيني، وشرح لنا كيف استقبل أبناء قرية سلواد إخوتهم اللاجئين من أبناء 48.
سلواد بعد النكبة
هنا كان لا بد من توجيه سؤال إلى الحاج عن قريته سلواد التي احتلت في ما بعد نتيجة لنكسة 67 وهل إذا ما أتيحت له العودة سيعود أم لا؟ فأجابني بلا تردد: «لقد زرت سلواد مرة واحدة بعد أن أخرجنا منها، ولكن بتصريح. وآمل أن أعود لها بدون تصريح. فقلت له مقاطعاً: وكيف يتم ذلك؟ فقال: «بالمقاومة وحدها وما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة»، فسألته عن رأيه بالمفاوضات فقال لي: «اليهودي يأخذ ولا يعطي، لدرجة أنه يحكى أن يهودياً كاد أن يغرق في نهر ولما طلب منه أحد المارة أن يمد له يده لينقذه من الغرق رفض اليهودي مدّ يدِه وطلب من ذلك الشخص أن يمد هو يده لينقذ اليهودي لذلك فاليهودي يأخذ ولا يعطي».
بقي أن نقول: رحم الله الحاج أبو خالد الذي وافته المنية في صباح يوم الجمعة 28 آب 2009 الموافق 7 رمضان 1430هجري، وبوفاة هذا الرجل تكون قد طويت صفحة العمر الحيوي للرجل الذي عايش صفحات مفصلية من تاريخ شعبه على مدار تسعين سنة، وشارك فيها بفعالية.
لقد علمتُ بوجود الحاج أبو خالد في منزل نجله بدمشق، وأنه لا مانع لديه من تقديم شهادته على أحداث مفصلية وتاريخية مرت بها القضية الفلسطينية، لم أتردد في القيام بزيارته التي حدد لها موعداً هو مساء الأحد 29/3/2009. ومع غروب ذلك اليوم وصلت إلى المنزل الذي استقبلني فيه حفيده بلال بابتسامة وادعة، واستمهلني في غرفة الجلوس ريثما ينهي الحاج أبو خالد أداء صلاة المغرب.
ما هي إلا دقائق حتى دخل عليّ الحاج أبو خالد متكئاً على عكازه، صافحني مبتسماً وطلب مني الجلوس وقد بدت عليه علامات التعب والإنهاك، وعلمت من حفيده حينها أنه متوعكٌ صحياً، لكنه أصر على أن يحدثني بما لديه، على مدار ساعة من الزمن.
بدأ الحاج أبو خالد حديثه عن فلسطين شعراً فأنشد يقول:
فلسطين العزيزة لي وطن وهي الحمى وهي السكن
وهي الفريدة في الزمن وجميع ما فيها حسن
لسمائها الصيت البعيد وبأرضها الخصب المزيد
ولشبابها الباء السعيد كل الأيادي والمنن
ذكريات القرية
ومن الكلّ إلى الجزء، انتقل بنا الحاج أبو خالد من فلسطين إلى سلواد؛ مسقط رأسه، حيث سرد لنا بعضاً من ذكريات طفولته في القرية، متناولاً ألعاب الطفولة فقال: «كانت ألعاب القرية عامل أُلفةٍ كبيراً، حيث كان الفتيةُ يصنعون طائراتٍ ورقية، ويلعبون بكرات الزجاج الصغيرة، ويبتكرون ألعابهم الخاصة لكشف المهارة والحظ، وكانوا يقضون معظم وقتهم في ظل صخرة عملاقة تشبه القلعة على الحافة العليا لـ«رأس علي»، التي كان الأولاد قد أطلقوا عليها اسم صخرة الخروف. وعندما كانوا يسقطون في أثناء اللعب، كان يطلب منهم النهوض فوراً.
ومضى الحاج أبو خالد يرسم لنا حدود القرية ذاكراً بعض القرى التي تحيط بها كالمزرعة الشرقية وعين يبرود وعصارة وبيرزيت، حيث تقع سلواد في منطقة غنية بالكلس في قلب الضفة الغربية. وفي نهاية الطريق إلى هناك، على بعد ستة عشر ميلاً إلى الشمال من القدس، كان حوالى ثمانية آلاف شخص يعيشون في منطقة ريفية على سفح تلة، ميزتهم كقرويين، وعلاقتهم مع الأرض، وليس عددهم، هو الذي يحدد ذلك.
وصف القرية
كانت بيوت القرية تنتشر متباعدة على طول سلسلة صخرية تمتد باتجاه جنوبي الشمال. كان أمام قاطنيها منظر شامل رائع للسهول الساحلية من يافا إلى حيفا. ويبرز خلفهم جبل العاصور الشامخ، الذي يرتفع 3370 قدماً، ويعدّ ثاني أعلى قمة في الضفة الغربية.
وكانت سلواد قرية معزولة من دون كهرباء. لم يكن فيها سوى هاتف واحد، وكانت المياه تجلب من الآبار، وكانت وسيلة نقل كل عائلة حماراً واحداً في العادة. كان البعض هناك أكثر يسراً من آخرين، لكن الجميع كانوا سواسية، فالجميع كانوا يخبزون أرغفتهم على صاج فولاذي حار، ويضعون عليها بعض أقراص البندورة المزروعة محلياً، والجبن منزلي الصنع، وزيت الزيتون للغداء.
كانت تلك هي حياة الفلاح الفلسطيني.
لفت انتباهي قدرة الحاج أبو خالد على حفظ الأسماء، فقد ذكر لي عدداً من أسماء أبناء قريته بطريقة توحي بأنه يعرفهم معرفة دقيقة، ولم تستطع سنوات عمره التسعون أن تمحوهم من ذاكرته، بينهم مخاتير القرية وحلاقها وحدادها وأصحاب الدكاكين فيها ومجبّر القرية وحتى الداية في القرية وخياطة القرية.
في الثورة
وعن مشاركة أهل القرية في ثورة 1936، قال الحاج أبو خالد: «أذكر أنه كان في البلد في رجل اسمه محمد خلف، وكان ضابطاً في الحكومة التركية، ومن ثم أصبح قائداً للثورة والتفّ حوله أهل القرية متأثرين بخطب القسّام الحماسية في مسجد الاستقلال في حيفا، المدينة التي كان يذهب إليها أبناء القرية بحثاً عن عمل، وقد كنت أحد الذين انضموا للثورة وكان عمري وقتها 18 سنة.
لقد اعتقلت لمدة شهر واحد بتهمة الانتماء للثورة ومساندة الثوار، وتم إرسالي إلى رام الله مع مجموعة من المعتقلين، وقد شارك أبناء القرية في معارك مهمة أبرزها وادي الجوز ووادي البلاط، ومنهم من استشهد كمحمد أبو رية ومحمد عبد القادر وجرح البعض الآخر.
وبعد الثورة زادت حدة العنف بيننا وبين اليهود، وشعرنا بأن بريطانيا تعمل على منح فلسطين لليهود أمام أعيننا جزءاً إثر آخر».
بعد الثورة
في عام 1939 عدت إلى سلواد من حيفا، حيث أصبحت في ما بعد محكِّماً للنزاعات المحلية بين أبناء القرية وفقاً للشريعة الإسلامية، وفي عام 1946 انضممت إلى الإخوان المسلمين متاثراً بخطيب إسلامي جاء إلى سلواد من القاهرة.
وعندما لاحت نكبة عام 1948 حملت السلاح مجدداً، واخترت أن أكون إلى جانب عبد القادر الحسيني رحمه الله، الذي استشهد في معركة القسطل، ولدى ذكر الحاج أبو خالد لعبد القادر الحسيني حشرج صوته واغرورقت عيناه بالدموع.
تحدث الحاج أبو خالد بأسى بالغ عن نكبة عام 1948، وما تركته من صدمة كبيرة في نفوس أبناء الشعب الفلسطيني، وشرح لنا كيف استقبل أبناء قرية سلواد إخوتهم اللاجئين من أبناء 48.
سلواد بعد النكبة
هنا كان لا بد من توجيه سؤال إلى الحاج عن قريته سلواد التي احتلت في ما بعد نتيجة لنكسة 67 وهل إذا ما أتيحت له العودة سيعود أم لا؟ فأجابني بلا تردد: «لقد زرت سلواد مرة واحدة بعد أن أخرجنا منها، ولكن بتصريح. وآمل أن أعود لها بدون تصريح. فقلت له مقاطعاً: وكيف يتم ذلك؟ فقال: «بالمقاومة وحدها وما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة»، فسألته عن رأيه بالمفاوضات فقال لي: «اليهودي يأخذ ولا يعطي، لدرجة أنه يحكى أن يهودياً كاد أن يغرق في نهر ولما طلب منه أحد المارة أن يمد له يده لينقذه من الغرق رفض اليهودي مدّ يدِه وطلب من ذلك الشخص أن يمد هو يده لينقذ اليهودي لذلك فاليهودي يأخذ ولا يعطي».
بقي أن نقول: رحم الله الحاج أبو خالد الذي وافته المنية في صباح يوم الجمعة 28 آب 2009 الموافق 7 رمضان 1430هجري، وبوفاة هذا الرجل تكون قد طويت صفحة العمر الحيوي للرجل الذي عايش صفحات مفصلية من تاريخ شعبه على مدار تسعين سنة، وشارك فيها بفعالية.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر