تأتي ذكرى الوحدة المصرية السورية وإعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة في 22 شباط/فبراير 1958 والأوضاع العربية غير تلك التي كانت عليه قبل نصف قرن من الزمان . حين كان جيل الرواد يكافح ويعمل بدأب ويقدم التضحيات من أجل التحرير والتقدم والوحدة، وذكرى هذا العام تشهد على ما وصلت إليه ثقافة الفتنة والتقسيم والانعزالية . والتي أدى انتشارها إلى جعل الدعوة للتضامن أو الوحدة أحد المستحيلات التي تضاف إلى المستحيلات الثلاثة،
التي عبر عنها الشاعر العربي بقوله : ' وقد علمت أن المستحيل ثلاثة .. الغول والعنقاء والخل الوفي '. وليت الأمر توقف عند هذا الحد بل تجاوزه إلى شيوع الاحتفاء والاحتفال بمن ساهموا وشاركوا في إجهاض ووأد حلم التقدم والوحدة العربية وعملوا على ترسيخ واقع الانفصال والتجزئة، ورد الاعتبار إلى من انقلبوا على أول دولة وحدوية في التاريخ الحديث . وتحل ذكرى قيام الجمهورية العربية المتحدة . وهناك إعلاميون عرب ما زالوا يناصرون الانفصال والتجزئة، وانحرفوا بالإعلام بعيدا عن وظيفته ومهمته الحقيقية، وبدلا من كشف الجرائم ودرء المفاسد وتقصي الحقائق والرجوع إلى الوثائق تبيانا لما وقع، بما فيها الوثائق الغربية والصهيونية، ومساعدة في التعرف على صحة وسلامة الوقائع والتصرفات وتقييمها موضوعيا، والاستفادة من دروسها وعبرها، ولأن ذلك ليس في وارد هؤلاء لم يكفهم ما قاموا به في الماضي، وما زالوا يضيفون إلى ركام الزيف والتضليل المستمر على مدى نصف قرن زيفا وتضليلا جديدا، يغطون به على خطايا وجرائم تبرئ الخطائين وترد اعتبار المتواطئين .
تولت برامج تخصصت في تصفية الحساب مع كامل حقبة التحرر والمد الوحدوي. و لم يقنع أصحاب هذه البرامج برد الاعتبار لمن نفذوا المجازر والمذابح للفلسطينيين العزل في صبرا وشاتيلا وغيرهما، ولم يكن الاحتفاء بقائد انقلاب الانفصال السابقة الأولى في مسلسل رد اعتبار هؤلاء ، فكم من المساحات الزمنية توفرت لبث أكاذيبهم والدفاع عن جرائمهم، وكانت النتيجة أن استقر في وعي كثيرين عدم جدوى الضغط من أجل تغيير توجهات هؤلاء الإْعلاميين ومقدمي البرامج الفضائية العربية . فما يقدمونه ليس سوى ترجمة لعقيدة رسخت في أذهان وبين أوساط المتعصبين ومدعي المعرفة والنزاهة والعصمة، وهي عقيدة تعادي كل ملمح للتماسك والتآلف والتضامن في أي بقعة من بقاع الوطن العربي . ولا يتوانون عن بذل أي نشاط وجهد يجهض أي معلم من معالم القوة فيه .
وهذا الحالة المزمنة من قِبَل هؤلاء تفرض على الذين يرفضون هذا التواطؤ ويناهضون هذه العقيدة، ويسعون لتزكية عوامل النهوض والتقدم واليقظة في الأمة أن يغوصوا إلى عمق ما جرى ويجري، بالبحث عن الأسباب التي تجعل من بين النخب العربية من يفضل العمل الانفصالي والانعزالي ويرضى به . ويمكن استخلاصها من متابعة التداعيات التي أعقبت قيام الوحدة، حين تحرك حلف بغداد، وأعلنت الطوارئ في القواعد البريطانية في قبرص، وعندما تحرك الأسطول السادس الأمريكي في البحر المتوسط، وقيام الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن للتصدي لهذا الحدث التاريخي . ( وهو اتحاد لم يستمر سوى شهور وأسقطته ثورة 14 تموز 1958 في العراق ) ، بجانب تحركات أخرى شاركت فيها الدولة الصهيونية مع عديد من دول المنطقة.
هذه التداعيات كشفت خطورة الوحدة على مستقبل الاحتلال والقواعد العسكرية والسيطرة الاستعمارية على المنطقة . ودللت على أن جهود ضرب الوحدة وإجهاض مشروعها الواعد بدأ مبكرا ومنذ ما قبل الولادة، ولم يكن في حاجة إلى أسباب.. كان في حاجة إلى ذرائع ومبررات تمكن الطابور الخامس المستعد للانقضاض عليها. ويعبر هذا الإعلام المتواطئ عن هذا التربص بأثر رجعي، ويتحدث عن ذرائع تتراوح بين عدم الاستعداد والفشل، بعيدا عن الواقع الحقيقي لما حدث، فالوحدة أجهضت وقتلت ولم تفشل، وشتان بين التآمر على إجهاض شيء وقتله، ثم يتم اتهام من عبروا عنه وتولوا رعايته بالفشل. وإرجاع هذه الجريمة لتصرفات فردية لقيادة الجمهورية العربية المتحدة أو لهذا الضابط أو ذاك المسؤول، التزاما بنهج اعتمدته وتأخذ به الدعاية الاستعمارية وتزكيه الثقافة الصهيو غربية . وتتبناه الأوساط الانفصالية والانعزالية في المنطقة . فتختزل القضايا الوطنية والقومية والمشروعات الاستراتيجية الكبرى لتبدو رغبات فرد ومطامع شخص، فتفقد بريقها وجاذبيتها . ومن أهم القضايا التي تعرضت لـ'الشخصنة' كانت قضية الوحدة العربية، وأكبر شخصية عانت من ضغط الشخصنة كان جمال عبد الناصر، وأكبر بلد وقع أهله تحت ذلك الضغط كانت مصر، فتأثر به حكامها ومسؤولوها وأنصارهم، وسقطوا في شراكه، واستفحل الوضع مع تقلد مبارك الابن لمقاليد القرار السياسي والمصيري، فتولى طمس وشطب أي مَعْلم من معالم القوة، وأصبح النزوع حتى على مستوى الوحدة الوطنية في الداخل مرفوضا من قبله وقبل شركته وشركائه حكام مصر، وصار المشروع الصهيوني أقرب إليهم من حبل الوريد . ومع هذا فليست مصر الرسمية التي يقع على كاهلها وحدها كل العبء الانفصالي والانعزالي. وهنا تعود بي الذاكرة إلى مطلع ثمانينات القرن الماضي لتكشف مستوى سفور ثقافة النفط في الإعلان عن العداء للوحدة ومناصرة التوجهات الانفصالية والانعزالية. كنت وقتها شريكا في دار للطباعة والنشر في لندن، وطُلب من هذه الدار تصميم وطباعة مجلة طلابية سعودية .. تصدر للمرة الأولى، وحين اكتمل التصميم والإخراج طلبت من المشرف على المجلة أن يوافيني باسم الجهة التي تصدرها لطباعته على الغلاف.
قال أترك هذا الأمر لك، وتصورنا.. زملائي وأنا .. أن المجلة ما دامت طلابية فهي تصدر عن اتحاد أو رابطة للطلاب، وكتبنا على الغلاف أنها تصدر عن اتحاد الطلبة السعوديين في المملكة المتحدة، وفور خروج العدد إلى النور قامت الدنيا ولم تقعد، وطُلب من الدار إعدام كل النسخ وطبع العدد من جديد . ولم تكن التكلفة مهمة مع أن الطباعة في ذلك الوقت كانت مكلفة . فلم تكن التطورات التقنية قد وصلت إلى ما وصلت إليه الآن . وحين لمح أحد الشباب السعودي فينا الاستغراب انتحى بي جانبا، قائلا عليك أن تعلم أن فعل وَحَّد ومشتقاته مشطوب من القاموس السعودي . وعلى الدار ألا تستخدم تعبير وحدة ولا توحيد ولا اتحاد ولا موحد في أي مطبوعة سعودية!. وقتها سألت نفسي لماذا يصل العداء للوحدة هذا المستوى المَرَضي؟ وصدرت المجلة عن جهة أُطلِق عليها صندوق الطلاب السعودي، هذا يبين عمق العداء لفعل الوحدة حتى على مستوى التعبير واللفظ، فما بالنا إذا ما تجسد في فعل وقام له كيان مثل الجمهورية العربية المتحدة .
والشاهد أن المتربصين كانوا من القوة التي تمكنهم من إجهاض تجربة الوحدة الوليدة بالانفصال، وكان رأس الحربة في الانفصال من ملاك الثروة ومترفي الأعراب وسفهائهم، الذين انحازوا مبكرا للمشروع الصهيو غربي، وأثبتت الأيام خطر هذا الانحياز . ولم يكن الانفصال إلا مقدمة لهزيمة 1967.. وكانت ضربة قاصمة للمشروع الوطني الوحدوي، ومع ذلك عمل على النهوض من كبوته، لكن سرعان ما جاءت تداعيات حرب 1973، وانتهت بتخلي مصر الرسمية عنه، وتحولت إلى حصان طروادة لكل المشروعات المضادة له . ووصل الأمر في ظل الإدارة المصرية الحالية، إلى قيام حالة توحد غير مسبوقة في التاريخ العربي .. جمعت مصر الرسمية في مخدع واحد مع قادة ومنفذي المشروع الصهيوني . نقيض المشروع الوطني الوحدوي . وأضحت مصر الرسمية القوة الضاربة للتفكيك والتقسيم وبث الفتن وتزكية النزاعات والحروب ، وانتقلت من معسكر الثورة والوحدة إلى معسكر الثروة والانفصال . وحتى بعض النظم العربية التي ملكت الثروة، وعبرت في فترات عن انحيازها للمشروع الوطني الوحدوي كالعراق وليبيا تراجعت .. فالأول أعطى الأولوية لمواجهة الثورة الإيرانية على الوحدة مع سورية وتطبيق الميثاق القومي. الموقع بين البلدين في 1979. وكان هدفه تعويض الانسحاب المصري بعد كامب ديفيد، والثاني انتهى به الأمر غاضبا ومبتعدا ، معطيا ظهره للعرب متجها جنوبا سابحا في الفضاء الافريقي .
ما زال دعاة الانفصال والانعزالية يزينون خطابهم المضلل . ويدعون أن عصر العولمة جاء ليتجاوز مطلب الوحدة، وهم يعلمون أن ذلك العصر قبل أن يولي لم يمنع من بروز كتل وقوى موحدة فيه، متغافلين عن رؤية جحافل الغزاة والمحتلين تحيطهم من كل جانب . تؤكد لهم عودة الاستعمار بشكله وصيغته العسكرية التقليدية، وهذه العودة تعني التخلي عن العولمة، وتعيد الغرب إلى سيرته الأولى، وبعد أن كانت العولمة أعلى مراحل الامبريالية، وتعتمد في تسللها على إعادة هيكلة اقتصاديات العالم بما يتوافق مع قانون السوق، بعشوائيته وتوحشه، وعلى تمويل وتأسيس منظمات أهلية، باسم منظمات مجتمع مدني، هدفها إضعاف السلطة المركزية في البلدان غير الغربية، لتفكيكها وتقسيمها، وأوكلت مهمة غسيل المخ إلى امبراطوريات إعلامية احتكارية، من خلال نشر قيم التفتيت والانقسام والفتنة. وهذا فتح الطريق أمام المحافظين الجدد وتوابعهم من الليبراليين الجدد والانعزاليين والانفصاليين في بلادنا، فاستقروا في مراكز القرار، ونحوا من طريقهم كل ادعاء وزعم يتعلق بالحريات والديمقراطية والمساواة أمام القانون . اتخذوا الغزو والعمل العسكري، والتبشير الديني، والتفرقة العنصرية بديلا للأدوات والوسائل التي اتبعت إبان عصر العولمة القصير . واتسع العنف في عالم ما بعد العولمة، وانتشرت وراجت قيم الفتنة والفرقة والتقسيم .
وكانت النتيجة أن استقر نهج التعامل مع الأحداث وطرق علاج المشاكل وسار في اتجاه معاكس، واستقال العرب من التأثير والدور والفعل . وسلموا زمام أمرهم لأعدائهم وأوكلوا إليهم مهمة التعامل مع مشاكلهم وقضاياهم، وقبلوا أن يكونوا مجرد صدى ووكلاء لمشروعات الأعداء وخططهم، وذلك أحدث فراغا غير مسبوق .. أضحت المنطقة مستباحة . تنادي من يغتصبها ويأتي إليها. فيحصل على نصيبه من لحمها الطري وجسدها النازف. وصناع ذلك الفراغ يشكون من أدوار إقليمية لكل من تركيا وإيران . أقلقتهم عودة تركيا إلى المنطقة، وأرعبتهم قوة إيران، وبدلا من تقليدهما والبحث عن مكامن القوة لديهما يتناولون الأنخاب مع المستوطنين والعنصريين الصهاينة ويستقبلونهم ويشاركونهم جرائمهم، ويدقون طبول الحرب، ويستعدون لتقديم مجهودهم السياسي والعسكري والاقتصادي لحصار إيران وسورية وغزة، وتصفية المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعراقية، هذا هو عطاء الانفصال والانعزالية . أليس هو العار بعينه؟
التي عبر عنها الشاعر العربي بقوله : ' وقد علمت أن المستحيل ثلاثة .. الغول والعنقاء والخل الوفي '. وليت الأمر توقف عند هذا الحد بل تجاوزه إلى شيوع الاحتفاء والاحتفال بمن ساهموا وشاركوا في إجهاض ووأد حلم التقدم والوحدة العربية وعملوا على ترسيخ واقع الانفصال والتجزئة، ورد الاعتبار إلى من انقلبوا على أول دولة وحدوية في التاريخ الحديث . وتحل ذكرى قيام الجمهورية العربية المتحدة . وهناك إعلاميون عرب ما زالوا يناصرون الانفصال والتجزئة، وانحرفوا بالإعلام بعيدا عن وظيفته ومهمته الحقيقية، وبدلا من كشف الجرائم ودرء المفاسد وتقصي الحقائق والرجوع إلى الوثائق تبيانا لما وقع، بما فيها الوثائق الغربية والصهيونية، ومساعدة في التعرف على صحة وسلامة الوقائع والتصرفات وتقييمها موضوعيا، والاستفادة من دروسها وعبرها، ولأن ذلك ليس في وارد هؤلاء لم يكفهم ما قاموا به في الماضي، وما زالوا يضيفون إلى ركام الزيف والتضليل المستمر على مدى نصف قرن زيفا وتضليلا جديدا، يغطون به على خطايا وجرائم تبرئ الخطائين وترد اعتبار المتواطئين .
تولت برامج تخصصت في تصفية الحساب مع كامل حقبة التحرر والمد الوحدوي. و لم يقنع أصحاب هذه البرامج برد الاعتبار لمن نفذوا المجازر والمذابح للفلسطينيين العزل في صبرا وشاتيلا وغيرهما، ولم يكن الاحتفاء بقائد انقلاب الانفصال السابقة الأولى في مسلسل رد اعتبار هؤلاء ، فكم من المساحات الزمنية توفرت لبث أكاذيبهم والدفاع عن جرائمهم، وكانت النتيجة أن استقر في وعي كثيرين عدم جدوى الضغط من أجل تغيير توجهات هؤلاء الإْعلاميين ومقدمي البرامج الفضائية العربية . فما يقدمونه ليس سوى ترجمة لعقيدة رسخت في أذهان وبين أوساط المتعصبين ومدعي المعرفة والنزاهة والعصمة، وهي عقيدة تعادي كل ملمح للتماسك والتآلف والتضامن في أي بقعة من بقاع الوطن العربي . ولا يتوانون عن بذل أي نشاط وجهد يجهض أي معلم من معالم القوة فيه .
وهذا الحالة المزمنة من قِبَل هؤلاء تفرض على الذين يرفضون هذا التواطؤ ويناهضون هذه العقيدة، ويسعون لتزكية عوامل النهوض والتقدم واليقظة في الأمة أن يغوصوا إلى عمق ما جرى ويجري، بالبحث عن الأسباب التي تجعل من بين النخب العربية من يفضل العمل الانفصالي والانعزالي ويرضى به . ويمكن استخلاصها من متابعة التداعيات التي أعقبت قيام الوحدة، حين تحرك حلف بغداد، وأعلنت الطوارئ في القواعد البريطانية في قبرص، وعندما تحرك الأسطول السادس الأمريكي في البحر المتوسط، وقيام الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن للتصدي لهذا الحدث التاريخي . ( وهو اتحاد لم يستمر سوى شهور وأسقطته ثورة 14 تموز 1958 في العراق ) ، بجانب تحركات أخرى شاركت فيها الدولة الصهيونية مع عديد من دول المنطقة.
هذه التداعيات كشفت خطورة الوحدة على مستقبل الاحتلال والقواعد العسكرية والسيطرة الاستعمارية على المنطقة . ودللت على أن جهود ضرب الوحدة وإجهاض مشروعها الواعد بدأ مبكرا ومنذ ما قبل الولادة، ولم يكن في حاجة إلى أسباب.. كان في حاجة إلى ذرائع ومبررات تمكن الطابور الخامس المستعد للانقضاض عليها. ويعبر هذا الإعلام المتواطئ عن هذا التربص بأثر رجعي، ويتحدث عن ذرائع تتراوح بين عدم الاستعداد والفشل، بعيدا عن الواقع الحقيقي لما حدث، فالوحدة أجهضت وقتلت ولم تفشل، وشتان بين التآمر على إجهاض شيء وقتله، ثم يتم اتهام من عبروا عنه وتولوا رعايته بالفشل. وإرجاع هذه الجريمة لتصرفات فردية لقيادة الجمهورية العربية المتحدة أو لهذا الضابط أو ذاك المسؤول، التزاما بنهج اعتمدته وتأخذ به الدعاية الاستعمارية وتزكيه الثقافة الصهيو غربية . وتتبناه الأوساط الانفصالية والانعزالية في المنطقة . فتختزل القضايا الوطنية والقومية والمشروعات الاستراتيجية الكبرى لتبدو رغبات فرد ومطامع شخص، فتفقد بريقها وجاذبيتها . ومن أهم القضايا التي تعرضت لـ'الشخصنة' كانت قضية الوحدة العربية، وأكبر شخصية عانت من ضغط الشخصنة كان جمال عبد الناصر، وأكبر بلد وقع أهله تحت ذلك الضغط كانت مصر، فتأثر به حكامها ومسؤولوها وأنصارهم، وسقطوا في شراكه، واستفحل الوضع مع تقلد مبارك الابن لمقاليد القرار السياسي والمصيري، فتولى طمس وشطب أي مَعْلم من معالم القوة، وأصبح النزوع حتى على مستوى الوحدة الوطنية في الداخل مرفوضا من قبله وقبل شركته وشركائه حكام مصر، وصار المشروع الصهيوني أقرب إليهم من حبل الوريد . ومع هذا فليست مصر الرسمية التي يقع على كاهلها وحدها كل العبء الانفصالي والانعزالي. وهنا تعود بي الذاكرة إلى مطلع ثمانينات القرن الماضي لتكشف مستوى سفور ثقافة النفط في الإعلان عن العداء للوحدة ومناصرة التوجهات الانفصالية والانعزالية. كنت وقتها شريكا في دار للطباعة والنشر في لندن، وطُلب من هذه الدار تصميم وطباعة مجلة طلابية سعودية .. تصدر للمرة الأولى، وحين اكتمل التصميم والإخراج طلبت من المشرف على المجلة أن يوافيني باسم الجهة التي تصدرها لطباعته على الغلاف.
قال أترك هذا الأمر لك، وتصورنا.. زملائي وأنا .. أن المجلة ما دامت طلابية فهي تصدر عن اتحاد أو رابطة للطلاب، وكتبنا على الغلاف أنها تصدر عن اتحاد الطلبة السعوديين في المملكة المتحدة، وفور خروج العدد إلى النور قامت الدنيا ولم تقعد، وطُلب من الدار إعدام كل النسخ وطبع العدد من جديد . ولم تكن التكلفة مهمة مع أن الطباعة في ذلك الوقت كانت مكلفة . فلم تكن التطورات التقنية قد وصلت إلى ما وصلت إليه الآن . وحين لمح أحد الشباب السعودي فينا الاستغراب انتحى بي جانبا، قائلا عليك أن تعلم أن فعل وَحَّد ومشتقاته مشطوب من القاموس السعودي . وعلى الدار ألا تستخدم تعبير وحدة ولا توحيد ولا اتحاد ولا موحد في أي مطبوعة سعودية!. وقتها سألت نفسي لماذا يصل العداء للوحدة هذا المستوى المَرَضي؟ وصدرت المجلة عن جهة أُطلِق عليها صندوق الطلاب السعودي، هذا يبين عمق العداء لفعل الوحدة حتى على مستوى التعبير واللفظ، فما بالنا إذا ما تجسد في فعل وقام له كيان مثل الجمهورية العربية المتحدة .
والشاهد أن المتربصين كانوا من القوة التي تمكنهم من إجهاض تجربة الوحدة الوليدة بالانفصال، وكان رأس الحربة في الانفصال من ملاك الثروة ومترفي الأعراب وسفهائهم، الذين انحازوا مبكرا للمشروع الصهيو غربي، وأثبتت الأيام خطر هذا الانحياز . ولم يكن الانفصال إلا مقدمة لهزيمة 1967.. وكانت ضربة قاصمة للمشروع الوطني الوحدوي، ومع ذلك عمل على النهوض من كبوته، لكن سرعان ما جاءت تداعيات حرب 1973، وانتهت بتخلي مصر الرسمية عنه، وتحولت إلى حصان طروادة لكل المشروعات المضادة له . ووصل الأمر في ظل الإدارة المصرية الحالية، إلى قيام حالة توحد غير مسبوقة في التاريخ العربي .. جمعت مصر الرسمية في مخدع واحد مع قادة ومنفذي المشروع الصهيوني . نقيض المشروع الوطني الوحدوي . وأضحت مصر الرسمية القوة الضاربة للتفكيك والتقسيم وبث الفتن وتزكية النزاعات والحروب ، وانتقلت من معسكر الثورة والوحدة إلى معسكر الثروة والانفصال . وحتى بعض النظم العربية التي ملكت الثروة، وعبرت في فترات عن انحيازها للمشروع الوطني الوحدوي كالعراق وليبيا تراجعت .. فالأول أعطى الأولوية لمواجهة الثورة الإيرانية على الوحدة مع سورية وتطبيق الميثاق القومي. الموقع بين البلدين في 1979. وكان هدفه تعويض الانسحاب المصري بعد كامب ديفيد، والثاني انتهى به الأمر غاضبا ومبتعدا ، معطيا ظهره للعرب متجها جنوبا سابحا في الفضاء الافريقي .
ما زال دعاة الانفصال والانعزالية يزينون خطابهم المضلل . ويدعون أن عصر العولمة جاء ليتجاوز مطلب الوحدة، وهم يعلمون أن ذلك العصر قبل أن يولي لم يمنع من بروز كتل وقوى موحدة فيه، متغافلين عن رؤية جحافل الغزاة والمحتلين تحيطهم من كل جانب . تؤكد لهم عودة الاستعمار بشكله وصيغته العسكرية التقليدية، وهذه العودة تعني التخلي عن العولمة، وتعيد الغرب إلى سيرته الأولى، وبعد أن كانت العولمة أعلى مراحل الامبريالية، وتعتمد في تسللها على إعادة هيكلة اقتصاديات العالم بما يتوافق مع قانون السوق، بعشوائيته وتوحشه، وعلى تمويل وتأسيس منظمات أهلية، باسم منظمات مجتمع مدني، هدفها إضعاف السلطة المركزية في البلدان غير الغربية، لتفكيكها وتقسيمها، وأوكلت مهمة غسيل المخ إلى امبراطوريات إعلامية احتكارية، من خلال نشر قيم التفتيت والانقسام والفتنة. وهذا فتح الطريق أمام المحافظين الجدد وتوابعهم من الليبراليين الجدد والانعزاليين والانفصاليين في بلادنا، فاستقروا في مراكز القرار، ونحوا من طريقهم كل ادعاء وزعم يتعلق بالحريات والديمقراطية والمساواة أمام القانون . اتخذوا الغزو والعمل العسكري، والتبشير الديني، والتفرقة العنصرية بديلا للأدوات والوسائل التي اتبعت إبان عصر العولمة القصير . واتسع العنف في عالم ما بعد العولمة، وانتشرت وراجت قيم الفتنة والفرقة والتقسيم .
وكانت النتيجة أن استقر نهج التعامل مع الأحداث وطرق علاج المشاكل وسار في اتجاه معاكس، واستقال العرب من التأثير والدور والفعل . وسلموا زمام أمرهم لأعدائهم وأوكلوا إليهم مهمة التعامل مع مشاكلهم وقضاياهم، وقبلوا أن يكونوا مجرد صدى ووكلاء لمشروعات الأعداء وخططهم، وذلك أحدث فراغا غير مسبوق .. أضحت المنطقة مستباحة . تنادي من يغتصبها ويأتي إليها. فيحصل على نصيبه من لحمها الطري وجسدها النازف. وصناع ذلك الفراغ يشكون من أدوار إقليمية لكل من تركيا وإيران . أقلقتهم عودة تركيا إلى المنطقة، وأرعبتهم قوة إيران، وبدلا من تقليدهما والبحث عن مكامن القوة لديهما يتناولون الأنخاب مع المستوطنين والعنصريين الصهاينة ويستقبلونهم ويشاركونهم جرائمهم، ويدقون طبول الحرب، ويستعدون لتقديم مجهودهم السياسي والعسكري والاقتصادي لحصار إيران وسورية وغزة، وتصفية المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعراقية، هذا هو عطاء الانفصال والانعزالية . أليس هو العار بعينه؟
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر