تعيش مصر حالة صراع واستقطاب حاد بين حكم يفرض عليها التخلف عنوة، وبين قوى حية تتصدى وتقاوم لكسره والخروج من أسره. وكثيرا ما نتحدث عن التخلف السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والعلمي، وقليلا ما نتناول التخلف في جانبه العقلي، وهو علة إذا ما أصابت الفرد قضت عليه وحولت حياة من يحيطون به إلى جحيم، ومع ذلك يبقى ضرره محصورا في حدود الشخص والمحيطين به، أما إذا أصيب العقل السياسي بذلك الداء، لنا أن نتخيل حجم الأضرار والكوارث التي تحل بالوطن والمواطنين. يعم الأذى، وينعدم الأمان، ويسود الضعف، وتنتهك الأعراض، وتمتهن الكرامات، وإن كان المرض العقلي يخضع للعلاج فإن التخلف العقلي لا علاج له، يولد مع صاحبه. ينطبق عليه قول الشاعر: لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها. والتخلف صفة تلازم العقل السياسي المصري، وأضحى علامة مسجلة تطبع تصرفات القائمين على شؤونها. ومن سماته فقدان الإحساس بمعاناة الغير أو بالبيئة المحيطة، وانعدام الصلة بها ودوام العزلة والابتعاد عنها، ومن يعاني من هذا الداء يرى العالم من أضيق زواياه، ولا يستوعب شيئا أبعد من أرنبة أنفه. لا مصلحة عامة، ولا مثل عليا، ولا قيمة لغير القوة، وهذا النوع إذا ما ملك القوة من أي نوع يكون غاشما وغشوما. وطقوسه في التعامل مع الأقوياء تشبه الطقوس الدينية، يُستذل للأقوى. يطيعه ويلبي أوامره. يطلب غفرانه ويقدم له النذور والقرابين، نفطا وغازا ومالا وأرضا وبشرا. لعله يرضى ويعفو، ومن الصعب هنا استثناء أحد في رأس الحكم.
المسؤول المصري يصادق عدو بلاده ويذوب فيه حبا. يفتقد الذكاء والمنطق، فتجد من يصرح بأن انتشار القمامة (الزبالة) مظهر من مظاهر الرخاء والغنى، وكأن النظافة من علامات الضنك والفقر. وأولئك المسؤولون الذين ابتليت بهم مصر لا يفرقون بين الفساد والنزاهة، ولا بين الوطنية والخيانة، ولا بين المال العام والخاص، ولا بين شؤون الحكم ومصالح العائلة، ولا بين مسؤولية الفرد ومسؤولية الحكم. فتختلط الأوراق، وتتداخل الألوان، وتضيع الضوابط. وبسببها استباحت العائلة الحاكمة لنفسها حق التصرف في البر والبحر والفضاء. توزع منها على الأقارب والأصهار والخلان بالمجان أو بما يشبه المجان، وتركت العقارات والمساكن للمزادات والمضاربات. هذه هي حدود الذكاء وآفاق التفكير. والنجاح لديهم يقاس بحرمان الفقراء ومحدودية الدخل، أصحاب الحق في سكن إنساني توفره لهم الدولة، وتقاس القدرة بطرد الطبقات والشرائح الدنيا والوسطى من سوق الإسكان، وقصر القوة الشرائية على رجال الأعمال والمضاربين والسماسرة وتجار المخدرات وأباطرة غسيل الأموال، وقد صدمت مما اطلعت عليه مؤخرا عن حجم أراضي الدولة التي منحت لرجال المال والأعمال والسياسة، وتصل إلى خمسة عشر مليون فدان، وهي مساحة تزيد عن ضعف مساحة الوادي والدلتا، أي المساحة المسكونة، ويعيش عليها أكثر من تسعين في المئة من المصريين، ومع ذلك لم تزد رقعة الأرض الزراعية، وتم التصريح بالبناء على ما هو موجود منها. تحولت إلى عشوائيات جديدة، وأرض الأغنياء صارت مستوطنات ومنتجعات يسكنها حيتان السياسة والمال، ومنحهم وزير الزراعة فتوى تيسر القضاء على الزراعة، ولا ننسى أنه من رجال الأعمال أيضا. تقول الفتوى ان عائد استثمار الأرض في المباني والمساكن أعلى من الاستثمار في الزراعة. هل هناك تخلف عقلي أكثر من هذا؟
المسؤول المتخلف عقليا يبقى أسير الفكرة الواحدة، وسجين الحل الوحيد، فلا حل لدى المسـؤول المصري إلا الحل الأمني (البوليسي). في التعليم والجامعات والصحة والزراعة والثقافة والإعلام والمحليات والإسكان والخارجية. يتساوى في ذلك التعامل مع المواطن أو مع دول الجوار الإقليمي وحوض النيل وفلسطين. لا شيء هناك غير القوة الخشنة ولا مكان لقوة ناعمة. كانت هي قوة مصر الحقيقية التي صنعت لها دورها على مر العصور. والعقل المتخلف بغشمه وغشوميته فرض تعديلات دستورية في 2007 للمواد المتعلقة بالانتخابات التشريعية والرئاسية. وهي تعديلات بوليسية.. منحت وزارة الداخلية سلطة مطلقة في اختيار أعضاء المجالس المحلية والنيابية واختيار رئيس الجمهورية، وبذلك ألغيت الانتخابات عمليا، وإن أبقت على بعض طقوسها شكليا. وكان الإشراف القضائي الكامل قد فضح ما جرى من تزوير في انتخابات 2005، بشهادات قضاة رفضوا أن يكونوا شهود زور، وجاءت التعديلات البوليسية لتزيحهم وتلغي الوجود الفعلي للانتخابات، وقصر الإشراف القضائي على اللجان العامة بعيدا عن الدوائر.
هذا يوضح خلفية ظهور جماعات الاحتجاج الجديدة تباعا. لم تسلك طريق المعارضة التقليدية. أقرب ما تكون إلى جماعات التغيير. على عكس المعارضة التقليدية، التي هي جزء من نظام سياسي حولته عائلة مبارك إلى مخفر. قنعت فيه أغلب أحزاب المعارضة بدور الحراس والعسس. بدأت مصر تشهد حراكا تقوده جماعات التغيير. جاءت ولادتها من خارج الدولة الغائبة، ووسط أنقاض نظام منهار، وكرد فعل على الكفر بالحكم والمعارضة على حد سواء. وصارت جماعات التغيير الخيار الثالث والأمثل لأوضاع مصر المأزومة. وهي جماعات تنتمي للطبقة الوسطى، العائدة بعد طول غياب. منها من لم يشعر بحاجته لنيل ترخيص من حكم تراه فاقدا للشرعية، وأمثلتها حركة كفاية وأخواتها وجماعة 6 نيسان /ابريل. ومنها من تغاضى عن ذلك وسعى إليه حرصا على الشكل القانوني ولم ينله، ومثاله حركة الكرامة العربية وحزب الوسط الإسلامي، ومنها ما هو محظور كجماعات الإسلام السياسي، وأبرزها جماعة الإخوان المسلمين، وإن كانت من وجهة نظري ما زالت غير محسوبة على جماعات التغيير. تترقب، أو تتربص بلغة الأشقاء التوانسة. وضمت هذه الجماعات أحزابا كانت مرخصة وجُمدت، مثل حزب العمل، وأخرى شُقت مثل حزب الغد. المهم أنها فرضت نفسها بقوة الأمر الواقع والقبول العام والاستجابة الجماهيرية. فأصبحت قادرة على التحدي، وساعدها التخلف العقلي للمسؤولين وتوحش طبائعهم وتصرفاتهم، فطعمها وقوى لديها جهاز المناعة السياسي والنفسي، وتمكنت بذلك من قطع شوط طويل على طريق العصيان المدني. وعليه انتقلت العائلة الحاكمة من وضع الهجوم إلى مواقع الدفاع، وبدأت قبضة أحمد عز وكيلها التجاري (السياسي) ترتخي، وكانت قد مكنته من شراء الحزب الحاكم بالمال والهبات والنفوذ لحساب مشروع التوريث، الذي يحتضر، ويسرت له اختراق المعارضة وحصار ما تبقى منها.
نفذ حسني مبارك قراره، الذي منع بموجبه الإخوان المسلمين والمستقلين من الاقتراب من مجلس الشورى، عن طريق مباحث أمن الدولة، فتولت اختيار الذين شغلوا المقاعد الأربعة لأحزاب التجمع والغد والناصري والجيل، على قاعدة 'المساواة في التزوير عدل'!!. وكانت الطامة الكبرى فيما حدث للحزب الناصري، وجلب العار لأكثر القوى السياسية راديكالية. وقبول ضم عضوين منه إلى المجلس. أحدهما بالمشاركة في مسرحية الانتخابات، وقبول التزوير لصالحه، والثاني بقرار حسني مبارك، الذي عين بمقتضاه الأمين العام للحزب في المجلس سيئ الذكر، ضمن حصة الأربعة والأربعين المقررة له.
وفي وقت يُجمع فيه الناصريون والعروبيون على انحراف الحكم وفساد النظام الانتخابي ويرون أن الحل في مقاطعة الانتخابات، في وقت كهذا يتم شراء اثنين من قياداته بثمن بخس. وفي ظروف تبوأت فيها القوى الناصرية والعروبية موقعا متقدما ومؤثرا بين جماعات التغيير وقوى الممانعة والمقاومة. ويسقط الحزب الناصري المصري بإغراءات سماسرة النخاسة ومقاولي السياسة، مؤكدا ما استقر عليه رأينا منذ تسعينات القرن الماضي، وهو أن ظهور الحزب الناصري كان عبئا ولم يكن انفراجا. وذلك التصرف غير المسؤول حشر الحزب في زمرة المتخلفين عقليا ومن تماهوا في منظومة الاستبداد والفساد والتبعية والصهينة، الراعية للحكم والمتحكمة في بوصلته، والقبول بدخول المجلس يساوي بالضبط تعاون السياسيين العراقيين مع الاحتلال بدلا من مقاومته.
مشكلة الحزب الناصري بدأت مع نشأته الأولى. فالملابسات التي أحاطت بالموافقة الأمنية والرسمية على قيامه كان هدفها قطع الطريق على تأسيس الحزب الاشتراكي العربي الناصري، بقيادة الراحل فريد عبد الكريم، ومع ذلك ساد اعتقاد وقتها بإمكانية التغلب على نفوذ وتأثير مندوبي وزارة الداخلية داخله، اعتمادا على الأوزان الثقيلة التي التحقت به وقتها، وحدث العكس. نجح المندوبون، ومن لف لفهم، وبعضهم ورطه الحماس وحسن النية. نجحوا في تجفيف منابع التطوير في الحزب، وإفراغه من قيادييه ورجاله الأقوياء، وكان آخر المنسحبين في السنوات الأخيرة أستاذ القانون المعروف حسام عيسى، ولم يبق من رموزه المعدودين غير الكاتب أحمد الجمال ورئيس اتحاد المحامين العرب السابق سامح عاشور. ويبدو أن الجمال اكتفى بالكتابة والتدوين وصام عن العمل العام، أما جهود سامح عاشور بدت مشتتة بين القبائل السياسية والنقابية، ولم يحل وجودهما بين الحزب وبين أن يصير خرابة تنعي ساكنيها. وها هي الصورة النهائية لمجلس الشورى. ثمانون عضوا حصة جمال مبارك وأحمد عز وحبيب العادلي وصفوت الشريف، وأربعة أعضاء حصة أحزاب المعارضة المسماة بالمؤتلفة، و44 عضوا حصة حسني مبارك، يعينون بقرار منه، بينهم الأمين العام للحزب الناصري.
وكثيرا ما أجدني مضطرا للنبش في الذاكرة التاريخية، لمقارنة ما جرى بالأمس بما يحدث اليوم. فمحمد علي والي مصر أنشأ المجلس العالي عام 1824، من مئة وست وثمانين سنة، وقبل ثمانية وخمسين عاما من الاحتلال البريطاني، كمجلس نيابي حرص فيه على تمثيل نخب وأعيان ذلك الزمان، وكان من بين أعضائه عدد بالانتخاب. ولم تمر عليه سوى شهور معدودة حتى صدر نظامه الأساسي في كانون الثاني/يناير 1825 باختصاصات تمنحه حق مناقشة ما يراه أو يقترحه الوالي بشأن السياسة الداخلية، ولم يكتف محمد علي بذلك حتى بادر وأسس مجلس المشورة سنة 1829، ويتكون من 156 عضوا.. 33 منهم يمثلون كبار الموظفين وعلماء الأزهر، و24 يمثلون مأموري المديريات ومسؤولي الأقاليم، و99 من الأعيان يختارون بطريق الانتخاب، ومقارنته بمجلس الشورى الحالي نجد أن مجلس محمد علي كان الأكثر توازنا وتمثيلا، فنسبة المنتخبين فيه بلغت الثلثين، دون تزوير ولا أمن دولة ولا إلغاء فعليا للانتخابات. ومن بعده عمل الخديوي اسماعيل على تطوير الحياة النيابية وأنشأ مجلس شورى النواب 1866 بسلطات تشريعية ورقابية أوسع، ولم تكن استشارية كما كان عليه الحال السابق. وسبقت مصر دول أوروبية عدة في هذا المضمار. وهل يمكن مقارنة ذلك بحالها الآن؟
المسؤول المصري يصادق عدو بلاده ويذوب فيه حبا. يفتقد الذكاء والمنطق، فتجد من يصرح بأن انتشار القمامة (الزبالة) مظهر من مظاهر الرخاء والغنى، وكأن النظافة من علامات الضنك والفقر. وأولئك المسؤولون الذين ابتليت بهم مصر لا يفرقون بين الفساد والنزاهة، ولا بين الوطنية والخيانة، ولا بين المال العام والخاص، ولا بين شؤون الحكم ومصالح العائلة، ولا بين مسؤولية الفرد ومسؤولية الحكم. فتختلط الأوراق، وتتداخل الألوان، وتضيع الضوابط. وبسببها استباحت العائلة الحاكمة لنفسها حق التصرف في البر والبحر والفضاء. توزع منها على الأقارب والأصهار والخلان بالمجان أو بما يشبه المجان، وتركت العقارات والمساكن للمزادات والمضاربات. هذه هي حدود الذكاء وآفاق التفكير. والنجاح لديهم يقاس بحرمان الفقراء ومحدودية الدخل، أصحاب الحق في سكن إنساني توفره لهم الدولة، وتقاس القدرة بطرد الطبقات والشرائح الدنيا والوسطى من سوق الإسكان، وقصر القوة الشرائية على رجال الأعمال والمضاربين والسماسرة وتجار المخدرات وأباطرة غسيل الأموال، وقد صدمت مما اطلعت عليه مؤخرا عن حجم أراضي الدولة التي منحت لرجال المال والأعمال والسياسة، وتصل إلى خمسة عشر مليون فدان، وهي مساحة تزيد عن ضعف مساحة الوادي والدلتا، أي المساحة المسكونة، ويعيش عليها أكثر من تسعين في المئة من المصريين، ومع ذلك لم تزد رقعة الأرض الزراعية، وتم التصريح بالبناء على ما هو موجود منها. تحولت إلى عشوائيات جديدة، وأرض الأغنياء صارت مستوطنات ومنتجعات يسكنها حيتان السياسة والمال، ومنحهم وزير الزراعة فتوى تيسر القضاء على الزراعة، ولا ننسى أنه من رجال الأعمال أيضا. تقول الفتوى ان عائد استثمار الأرض في المباني والمساكن أعلى من الاستثمار في الزراعة. هل هناك تخلف عقلي أكثر من هذا؟
المسؤول المتخلف عقليا يبقى أسير الفكرة الواحدة، وسجين الحل الوحيد، فلا حل لدى المسـؤول المصري إلا الحل الأمني (البوليسي). في التعليم والجامعات والصحة والزراعة والثقافة والإعلام والمحليات والإسكان والخارجية. يتساوى في ذلك التعامل مع المواطن أو مع دول الجوار الإقليمي وحوض النيل وفلسطين. لا شيء هناك غير القوة الخشنة ولا مكان لقوة ناعمة. كانت هي قوة مصر الحقيقية التي صنعت لها دورها على مر العصور. والعقل المتخلف بغشمه وغشوميته فرض تعديلات دستورية في 2007 للمواد المتعلقة بالانتخابات التشريعية والرئاسية. وهي تعديلات بوليسية.. منحت وزارة الداخلية سلطة مطلقة في اختيار أعضاء المجالس المحلية والنيابية واختيار رئيس الجمهورية، وبذلك ألغيت الانتخابات عمليا، وإن أبقت على بعض طقوسها شكليا. وكان الإشراف القضائي الكامل قد فضح ما جرى من تزوير في انتخابات 2005، بشهادات قضاة رفضوا أن يكونوا شهود زور، وجاءت التعديلات البوليسية لتزيحهم وتلغي الوجود الفعلي للانتخابات، وقصر الإشراف القضائي على اللجان العامة بعيدا عن الدوائر.
هذا يوضح خلفية ظهور جماعات الاحتجاج الجديدة تباعا. لم تسلك طريق المعارضة التقليدية. أقرب ما تكون إلى جماعات التغيير. على عكس المعارضة التقليدية، التي هي جزء من نظام سياسي حولته عائلة مبارك إلى مخفر. قنعت فيه أغلب أحزاب المعارضة بدور الحراس والعسس. بدأت مصر تشهد حراكا تقوده جماعات التغيير. جاءت ولادتها من خارج الدولة الغائبة، ووسط أنقاض نظام منهار، وكرد فعل على الكفر بالحكم والمعارضة على حد سواء. وصارت جماعات التغيير الخيار الثالث والأمثل لأوضاع مصر المأزومة. وهي جماعات تنتمي للطبقة الوسطى، العائدة بعد طول غياب. منها من لم يشعر بحاجته لنيل ترخيص من حكم تراه فاقدا للشرعية، وأمثلتها حركة كفاية وأخواتها وجماعة 6 نيسان /ابريل. ومنها من تغاضى عن ذلك وسعى إليه حرصا على الشكل القانوني ولم ينله، ومثاله حركة الكرامة العربية وحزب الوسط الإسلامي، ومنها ما هو محظور كجماعات الإسلام السياسي، وأبرزها جماعة الإخوان المسلمين، وإن كانت من وجهة نظري ما زالت غير محسوبة على جماعات التغيير. تترقب، أو تتربص بلغة الأشقاء التوانسة. وضمت هذه الجماعات أحزابا كانت مرخصة وجُمدت، مثل حزب العمل، وأخرى شُقت مثل حزب الغد. المهم أنها فرضت نفسها بقوة الأمر الواقع والقبول العام والاستجابة الجماهيرية. فأصبحت قادرة على التحدي، وساعدها التخلف العقلي للمسؤولين وتوحش طبائعهم وتصرفاتهم، فطعمها وقوى لديها جهاز المناعة السياسي والنفسي، وتمكنت بذلك من قطع شوط طويل على طريق العصيان المدني. وعليه انتقلت العائلة الحاكمة من وضع الهجوم إلى مواقع الدفاع، وبدأت قبضة أحمد عز وكيلها التجاري (السياسي) ترتخي، وكانت قد مكنته من شراء الحزب الحاكم بالمال والهبات والنفوذ لحساب مشروع التوريث، الذي يحتضر، ويسرت له اختراق المعارضة وحصار ما تبقى منها.
نفذ حسني مبارك قراره، الذي منع بموجبه الإخوان المسلمين والمستقلين من الاقتراب من مجلس الشورى، عن طريق مباحث أمن الدولة، فتولت اختيار الذين شغلوا المقاعد الأربعة لأحزاب التجمع والغد والناصري والجيل، على قاعدة 'المساواة في التزوير عدل'!!. وكانت الطامة الكبرى فيما حدث للحزب الناصري، وجلب العار لأكثر القوى السياسية راديكالية. وقبول ضم عضوين منه إلى المجلس. أحدهما بالمشاركة في مسرحية الانتخابات، وقبول التزوير لصالحه، والثاني بقرار حسني مبارك، الذي عين بمقتضاه الأمين العام للحزب في المجلس سيئ الذكر، ضمن حصة الأربعة والأربعين المقررة له.
وفي وقت يُجمع فيه الناصريون والعروبيون على انحراف الحكم وفساد النظام الانتخابي ويرون أن الحل في مقاطعة الانتخابات، في وقت كهذا يتم شراء اثنين من قياداته بثمن بخس. وفي ظروف تبوأت فيها القوى الناصرية والعروبية موقعا متقدما ومؤثرا بين جماعات التغيير وقوى الممانعة والمقاومة. ويسقط الحزب الناصري المصري بإغراءات سماسرة النخاسة ومقاولي السياسة، مؤكدا ما استقر عليه رأينا منذ تسعينات القرن الماضي، وهو أن ظهور الحزب الناصري كان عبئا ولم يكن انفراجا. وذلك التصرف غير المسؤول حشر الحزب في زمرة المتخلفين عقليا ومن تماهوا في منظومة الاستبداد والفساد والتبعية والصهينة، الراعية للحكم والمتحكمة في بوصلته، والقبول بدخول المجلس يساوي بالضبط تعاون السياسيين العراقيين مع الاحتلال بدلا من مقاومته.
مشكلة الحزب الناصري بدأت مع نشأته الأولى. فالملابسات التي أحاطت بالموافقة الأمنية والرسمية على قيامه كان هدفها قطع الطريق على تأسيس الحزب الاشتراكي العربي الناصري، بقيادة الراحل فريد عبد الكريم، ومع ذلك ساد اعتقاد وقتها بإمكانية التغلب على نفوذ وتأثير مندوبي وزارة الداخلية داخله، اعتمادا على الأوزان الثقيلة التي التحقت به وقتها، وحدث العكس. نجح المندوبون، ومن لف لفهم، وبعضهم ورطه الحماس وحسن النية. نجحوا في تجفيف منابع التطوير في الحزب، وإفراغه من قيادييه ورجاله الأقوياء، وكان آخر المنسحبين في السنوات الأخيرة أستاذ القانون المعروف حسام عيسى، ولم يبق من رموزه المعدودين غير الكاتب أحمد الجمال ورئيس اتحاد المحامين العرب السابق سامح عاشور. ويبدو أن الجمال اكتفى بالكتابة والتدوين وصام عن العمل العام، أما جهود سامح عاشور بدت مشتتة بين القبائل السياسية والنقابية، ولم يحل وجودهما بين الحزب وبين أن يصير خرابة تنعي ساكنيها. وها هي الصورة النهائية لمجلس الشورى. ثمانون عضوا حصة جمال مبارك وأحمد عز وحبيب العادلي وصفوت الشريف، وأربعة أعضاء حصة أحزاب المعارضة المسماة بالمؤتلفة، و44 عضوا حصة حسني مبارك، يعينون بقرار منه، بينهم الأمين العام للحزب الناصري.
وكثيرا ما أجدني مضطرا للنبش في الذاكرة التاريخية، لمقارنة ما جرى بالأمس بما يحدث اليوم. فمحمد علي والي مصر أنشأ المجلس العالي عام 1824، من مئة وست وثمانين سنة، وقبل ثمانية وخمسين عاما من الاحتلال البريطاني، كمجلس نيابي حرص فيه على تمثيل نخب وأعيان ذلك الزمان، وكان من بين أعضائه عدد بالانتخاب. ولم تمر عليه سوى شهور معدودة حتى صدر نظامه الأساسي في كانون الثاني/يناير 1825 باختصاصات تمنحه حق مناقشة ما يراه أو يقترحه الوالي بشأن السياسة الداخلية، ولم يكتف محمد علي بذلك حتى بادر وأسس مجلس المشورة سنة 1829، ويتكون من 156 عضوا.. 33 منهم يمثلون كبار الموظفين وعلماء الأزهر، و24 يمثلون مأموري المديريات ومسؤولي الأقاليم، و99 من الأعيان يختارون بطريق الانتخاب، ومقارنته بمجلس الشورى الحالي نجد أن مجلس محمد علي كان الأكثر توازنا وتمثيلا، فنسبة المنتخبين فيه بلغت الثلثين، دون تزوير ولا أمن دولة ولا إلغاء فعليا للانتخابات. ومن بعده عمل الخديوي اسماعيل على تطوير الحياة النيابية وأنشأ مجلس شورى النواب 1866 بسلطات تشريعية ورقابية أوسع، ولم تكن استشارية كما كان عليه الحال السابق. وسبقت مصر دول أوروبية عدة في هذا المضمار. وهل يمكن مقارنة ذلك بحالها الآن؟
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر