وصمت يلف أرجاء قرية بلعين غرب رام الله، يقطعه صوت طَرقات عامل بناء، وثرثرة عجوز تحرس نار بلعين المتقدة، وصراخ رضيع، وقلق فلاح يعمل في أرضه الواقعة خلف جدار الفصل العنصري، ولا تغفل عينيه عن الشارع الرئيسي للقرية.
الحياة في بلعين تسير بوتائر روتينها اليومي، وهو حال أيامها على مدار الأسبوع، باستثناء يوم الجمعة.
بلعين يلفها صمت غامض تستشعره كلما تعمقت في طرقاتها الداخلية، كما تلتف حولها المستوطنات وجدار الفصل العنصري، وصمتها ليس كصمت كل القرى الهادئة والوادعة، بل هو الصمت الذي يسبق العاصفة قبل كل يوم جمعة.
وتظل بلعين بالنموذج الذي خلقته للمقاومة الشعبية والسلمية، ردا على مصادرة 58% من أراضيها لصالح جدار الفصل العنصري ومستوطنة 'عيليت موديعين' شوكة في حلق غول الاستيطان، والذي يمتد يوميا حولها وفي كافة الاتجاهات.
ويعزز هذا الصمود، انتصارات أبناءئها في استصدار قرارات من المحكمة العليا الإسرائيلية، بتحريك مسار الجدار، وإعادة جزء من أراضيهم المصادرة وإيمانهم بالحق وقدسية الدفاع عنه.
وتدفع بلعين من حياة أبنائها اليومية ثمنا لنضالها، فالمرصود منها شهيد و1300 جريح و6 إعاقات دائمة، واعتقالات لم تنته، والمخفى من نتائج لهذه التضحيات أعظم، من أمراض صحية، ونفسية، وبطالة، وقلق، وتوتر يأكل منهم يوميا.
ونجحت بلعين القرية الصغيرة التي لا يتجاوز عدد سكانها 1800 نسمة، في تحويل احتجاجاتها إلى طقس أسبوعي، تتفاوت فيه حجم مشاركة أهلها حسب الفعالية والجو السياسي، وفيه تبتدع أنماطا جديدة في الاحتجاج، والنضال الشعبي، وواءمت مناسباتها الاجتماعية، من زواج وغيره مع فعاليات الجمعة، لتعزيز طقسها الأسبوعي وعدم التشويش عليه.
ونجاح بلعين في تشكيل نموذج للمقاومة الشعبية بتضامن دولي ومحلي، لم يقنع كل أبنائها بفعالية هذا النوع من المقاومة، وما زال البعض منهم، يشكك بفعاليته، ويرفضه، احتجاجا على وجود متضامنين إسرائيليين وأجانب، واعتبار هذا الشكل يتعارض مع العادات والتقاليد.
أم محمد كانت فاتحة لقاءاتنا مع أهل القرية.. بشوشة متفائلة، كلماتها تطلقها من أعماق نفسها وبصدق شديد، فتصلك كالسهم، لا تتخلف عن أية فعالية من الفعاليات، التي تشارك فيها نساء القرية، حدثتنا عن حياة قريتها والتغيرات التي طرأت عليها على مدار ست سنوات من النضال، والمشاكل التي تعانيها.
أم محمد، نموذج حي لمعاناة أهل هذه القرية، اعتقل زوجها في بداية فعاليات القرية ضد الجدار، وبعدها حرم من الحصول على تصريح عمل داخل أراضي العام 48، وهو عاطل عن العمل منذ 6 سنوات، وغدت أمام هموم وأعباء جديدة للعناية بأطفالها الثلاثة، أثناء اعتقال زوجها وبعد تحريره، ووجدت في التطريز وبيع إنتاجها في رام الله ضالتها ومنقذا لها من الحاجة ومد اليد طلبا للمساعدة، والوفاء بالاحتياجات الأساسية لأسرتها.
أم محمد، تقول صحيح، الهدوء يلف القرية في النهار، وتبدو حياة القرية كغيرها من القرى، ولكن يقطعه بصورة شبه يومية مرور السيارات العسكرية الإسرائيلية، وسط القرية، ومع مرورها ترتفع وتيرة الحركة في القرية، ويسود القلق والتوتر أهالي القرية، خوفا على الأبناء في المدارس، حيث تتوقف دائما بجانب مدرسة القرية للذكور بهدف الاستفزاز للطلبة والأهل معا.
وتضيف 'لكن ليل بلعين ليس كنهارها، فجميع أبنائها جربوا النوم في الجبال، والابتعاد عن أسرهم خوفا من الاعتقال، وهروبا من ملاحقة قوات الاحتلال لهم، وما زال هذا حالهم منذ سنوات.
وتوضح أم محمد أن مسيرة يوم الجمعة، غيرت في عادات أهلها بعض الشيء، فأصبحوا اليوم على المستوى الاجتماعي أكثر انفتاحا، خاصة النساء، وأكثر تقبلا للغريب، ورغم وجود من يعارض هذا الانفتاح، لكنهم لا يقفون له بالمرصاد، ولا يعكسون أفكارهم هذه إلى مواقف، وهناك حوالي 20 عائلة تستضيف متضامنين في بيوتها، أثناء انعقاد المؤتمر الدولي للتضامن مع بلعين.
وتضيف 'تتم استضافة المتضامنين بناء على رغبتهم في التعايش مع أهل القرية، ويتم تدريب أهالي القرية على التعامل معهم، وكذلك يتم تدريب المتضامنين على السير في شوارع القرية، وكيف يتحركون فيها، وكيف يتعاملون مع قوات الاحتلال.
وتشير أم محمد لوجود بيت خاص في القرية لاستضافة المتضامنين الأجانب، فمنهم من لا يرغب بالسكن مع أهل القرية.
وتجهز نساء القرية يوم الجمعة أنفسهن للتعامل مع مستجدات يوم الجمعة المختلفة، وتظل بيوتها مفتوحة أمام الجميع، تحسبا لأي طارئ، وتقوم البيوت المجاورة للجدار، بإغلاق أبوابها ونوافذها بإحكام حتى لا يتسرب الغاز إليها، وأحيانا يغادر أصحابها إلى بيوت الأقارب خوفا على الأطفال حسب طبيعة فعالية ذلك اليوم.
كذلك تعد النساء طعام الغداء بكميات أكبر من المعتادة، لأن صاحب البيت يعود إلى البيت ومعه رجال ضيوف بالعادة، وحل هؤلاء بدلا من العم أو الخال كما كانت تجري العادة، ورحل موعد الغداء لما بعد الساعة الثالثة ظهرا، في حين كان في السابق بعد صلاة الظهر.
وتنوه أم محمد إلى التغيرات التي طالت تعامل أهل القرية مع مناسباتها الاجتماعية، وتقول 'أصبحنا نحيي أعراسنا في القري يوم السبت، بدلا من الجمعة، بعد مداهمة قوات الاحتلال لعدد من الأعراس وقت تقديم الطعام لمدعوين'.
ومثلما تحولت الأعراس ليوم السبت، تحولت أيضا مراسم طلب العروس من أهلها والمعروفة 'بالجاهة'، ومن يرغب أن يتمم مراسم عرسه يوم الجمعة، يقوم بإحيائه في قاعة قرية كفر نعمة المجاورة لبلعين. ويحرم من يحيي عرسه يوم الجمعة من زفة العريس، التي ما زالت طقسا يحرص عليه أهل القرية.
ويشارك سمير برناط عضو اللجنة الشعبية لمقاومة الجدار، الذي صحبنا في رحلتنا للقرية، مع أم محمد وغيرها من شخصيات القرية، في استعراض نتائج مقاومة الجدار على القرية المختلفة.
ويبدو أن الانتفاضة بنتائجها المختلفة حدث ما زال متواصلا في بلعين، بانعكاساتها النفسية والاجتماعية، واقتصادية تعيد إلى الأذهان حكايا الانتفاضة.. فالطفلة رولا الخطيب ابنة الست سنوات ظلت مصدومة على مدار ثلاثة أيام لا تتكلم ولا تلعب ولا تأكل، بعد أن استيقظت ليلا على صورة جنود الاحتلال المدطليه وجوههم باللون الأسود، تصرخ وهي تحيط بها.
ومثلها الطفل محمد ابن الـ8 سنوات الذي ظل يصرخ على مدار ثلاث أيام، رافضا الطعام بعد اعتقال والده وضربه أمام أطفاله.
والكثير من أطفال بلعين يعانون من التبول اللاإرادي، وفعاليات التخفيف عنهم محدودة، ولا تجدي نفعا، وهناك حاجة للتدخل مع الأطفال.
ويقول مدير مدرسة بلعين محمد ناصر، إن وضع التعليم سيء، ودائما نلحظ القلق والخوف والتحدي، عند مرور دوريات جيش الاحتلال بالقرب من المدرسة، والتوتر ومداهمة الاحتلال للقرية، يحرم الأطفال من مساحات هدوء تتيح لهم الدراسة في البيت.
ويضيف هناك التزام في الصف، لكن حالات الشرود كثيرة، والقلق والخوف من فكرة الاعتقال تؤرقهم وهناك 50 طالبا اعتقلوا من المدرسة.
ويضيف 'لكن المشكلة الأعقد التي تواجهنا، التحدي الذي يظهره الطلبة لمعلميهم في الصف، فمن يضبط طالبا يتحدى جندي الاحتلال، ما يعكس نفسه بصورة سلبية على العملية التعليمية.
من جهتها، أكدت مديرة مدرسة إناث بلعين عبير موسى مثل هذه الملاحظات، لكنها ترى أن التأثيرات النفسية للجدار على البنات أقل، مشيرة إلى انتشار ظاهرة الزواج المبكر في القرية، وإلى انعدام الالتزام والانضباط للنظام، والتعليم لا يأخذ حيزا كبيرا من تفكير الطالبات، ولا تعكس المقاومة للجدار نفسها على اهتمامهن بتفاصيلها، ويعطين جل وقتهن للاهتمام بتفاصيل الحياة اليومية البسيطة.
وبلعين لها حكايتها مع الغاز المستخدم لتفريق مسيراتها، حتى أنه تخلل وعشعش في بيوتها وشوارعها وصخورها وحجارتها، ويتساءلون وهم يضحكون، هل اعتدنا على الغاز، ولم نعد نتأثر به مثل الآخرين؟.
ويقول برناط 'في يوم الجمعة الأخير لاحظنا انتشار حالة من الهستيريا، والتشنج بين متضامنين من جنين، بينما لم يتأثر أي منا، وأثار الموضوع انتباهنا، لافتا لزيادة عدد المصابين بأمراض تنفس وتحسس في الصدر، واستخدام عبوات الأكسجين البخاخ، وهي ظاهرة تنتشر بصورة كبيرة بين الشباب دون العشرين عاما.
وكان رئيس مجلس قروي بلعين أحمد ياسين (52 عاما) واحدا من ضحايا الغاز في القرية، الذي صار ينام في أي وقت وفي أي مكان، ولم يتمكن الأطباء من علاجه، ولم يجدوا تفسيرا للحالة إلا بسبب الغاز الذي كان يستنشقه.. وفارق الحياة.
قصة بلعين مع الغاز لا تنتهي، رغم خبرات أهلها في الهروب منه، بل تتابع فصولها، وأصبح جزءا من الهواء الذي يتنفسه أبناؤها، وهم يعتقدون أنهم أصبحوا ميدانا لتجارب أسلحة جيش الاحتلال في هذا المجال، فمنهم من تحول جلده ليشبه حراشف السمكة، مع شعور قوي بالحكة، ولا يعالج إلا في مستشفى 'هداسا' الإسرائيلي.
وهناك غاز له رائحة شبيهة برائحة المياه العادمة، استخدمه جيش الاحتلال الشهر الماضي، ويحدث نوعا من الحكة بعد تبلل الجسد به مباشرة أو بعد فترة زمنية، ولا تزول رائحته بغسل الملابس، وظلت رائحته جاثمة على أنفاس أهل القرية لمدة أسبوعين، ولم تتطهر القرية منه إلا بعد أيام من الشتاء المتواصل.
وبلعين المحرومة من فرص العمل داخل أراضي 48، تبتز يوميا بموضوع العمل، ويحرم أبناؤها من الحصول على تصاريح عمل، وتعطى لهم بسخاء تصاريح للعمل داخل المستوطنة المبنية على أراضيهم، وهم يرفضون بالطبع.
ويبين المزارع عثمان منصور أبو أيمن (52 عاما)، أساليب الابتزاز التي يتعرض لها أهل القرية وخبرها بنفسه، وكيف يصارعون يوميا للحفاظ على حقهم في الوصول إلى أرضهم، وتمسكهم بالقانون، رغم قناعتهم بعدم عدالته، لأنه الوحيد الذي يمكن لهم الاتكاء عليه.
أبو أيمن واحد من مزارعي القرية المتضررين من الجدار، الذي جاء على معظم أرضه والبالغة نحو 114 دونما، ولم تسلم من المصادرة سوى بضع دونمات داخل القرية.
ويشير لمكانة الغرفة التي بناها أهل القرية خلف الجدار، والتي يعتبرونها مقرا لها، وقاموا ببنائها بعد معرفتهم ببناء بيوت داخل المستوطنة دون ترخيص، وشكل بناؤها رمزا للصراع على الحق، واكتسبت هذه الغرفة التي تم انجازها خلال 3 ساعات في ليل ماطر، رمزية عالية جدا، وأصبح أهل القرية يعملون على الوصول إليها وكأنهم يحجون لها، ولا يمكن لقوات الاحتلال إزالتها إلا بقرار من محكمة 'العدل' العليا.
ولضمان استمرار وصول أهل القرية إلى الأراضي المصادرة، التي تذهب لها نساء في رحلات تنزه جماعية مع أطفالهن، قام المزارعون هذا العام، بزراعة مساحات من الأرض بالبازيلاء، لتشجيع أهل القرية للتنزه فيها، وأخذ بعض من ثمارها.
ويشير أبو أيمن لحرص أهل قريته على المقاومة بزراعة أرضهم الواقعة خلف الجدار، ويقوم هو بحراثة أرضه وحراثة أراضي أهل القرية الراغبين، وبناء بعض الآبار لتجميع المياه فيها، ولا يعدمون الوسائل للاحتيال على جيش الاحتلال وحمل 'الإسمنت لقصارتها'.
ويؤكد وجود تأثير للغاز على إنتاج الأرض بصورة سلبية، موضحا أن الأرض التي تقع بجوار الجدار، والأرض التي أصبحت ميدانا للمواجهات، أحرقت أكثر من مرة بفعل الغاز، ولم يسمح لأهل القرية ولا لسيارات الإطفاء بإخمادها، حتى قضت على كل الأرض، ومن الصعب إعادة استصلاحها، وتحتاج لجهد كبير.
ويبدو أن أشكال المقاومة الشعبية، تتعدى الحجر والصمود على الأرض، وتصل للدعاية لهذه الأفكار السلمية التي تحمل القرية رسالتها بإصرارها على المقاومة الشعبية.
عبد الفتاح برناط (أبو راني)، يحمل رسالة قريته مسافرا بها إلى الكثير من دول العالم، وكيف لواحد مثله ألا يكون مقنعا ونموذجا لإيمان الفلسطينيين بالسلام، وابنه البكر راني، أصيب بشلل في الأطراف السفلى، نتيجة إصابته برصاصة في أول يوم لانتفاضة الأقصى، وله ابن اعتقل قبل انتهاء علاجه من رصاصة اخترقت ساقه، دفاعا عن أرضه بجوار الجدار، ودمرت العضلات والأعصاب، ما أدى إلى إصابته أيضا بإعاقة دائمة، وما زال يقبع في سجون الاحتلال.
ويقول 'الرسالة التي نحملها معنا إلى الخارج، أن الشعب الفلسطيني ليس شعبا إرهابيا كما تدعي إسرائيل وإعلامها، ونحن شعب نطالب بحقوقنا ونرغب أن نعيش بحرية، ونحن من دعاة السلام، وإن المسيرات التي تقمع في بلعين بقوة، هي المسيرات التي يشارك فيها متضامنون أجانب وإسرائيليون، ويتم توثيق ذلك بالصور، كما نعمل على نقل تأثير الجدار على حياتنا، من زوايا اقتصادية وصحية وبيئية.
وعن الفعاليات وكيفية ترتيبها يشير كل من شاركونا الحديث على أن فكرة الفعالية، قد تنبع من أهل القرية، أو من المتضامنين، أو من خارج القرية.
ويحجم أهل القرية عن التفاعل مع بعض الفعاليات الغريبة عنهم خجلا، مثلما حصل مع فعالية تجسيد شخصيات فيلم 'افتار'، ولكن جو المرح الذي أضفته الفعالية، وتفهم مضامينها، حمست الكثير في الأسبوع التالي على تجسيدها.
والفعالية الأكثر حضورا في ذهن أهل القرية، هي فعاليات الأعياد، وفيها تنصب ألعاب بالقرب من الجدار، ويجتمع كل أهل القرية صباح العيد عندها، وتخلق هذه الفعالية جوا من المرح والالتصاق بالأرض، ما زال أهل القرية يتحسسونه.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر