فاروق يوسف
نكتب عن الشعر نثرا. يحدث ذلك عادة. أما أن نكتب شعرا عن الشعر، فذلك ما لم نألفه إلا فيما ندر. كتاب الشاعر اللبناني شربل داغر (القصيدة لمن يشتهيها) الصادر مؤخرا عن دار النهضة العربية ينضوي تحت مظلة الكتابة الشعرية عن الشعر، به ومن خلاله وإليه. اسئلة كثيرة تبدو ساذجة غالبا ما نقف أمامها مكممي الأفواه: لمَ نكتب الشعر ولمَ نقرأه؟ مَن يكتب الشعر ومَن يقرأه؟ ما الذي يحدث للكلمة وهي تغادر مكانها في الكلام لتكون جزءاً من قصيدة؟ كيف يمكننا أن نعيد كلمة ما إلى سيرتها الأولى بعد أن تخضبت بماء الشعر؟ ولكن قبل هذا وذاك يظل سؤال من نوع: ما هو الشعر؟ سنقرأ كلاما ملغزا ومحيرا ومفتوحا على أخيلة غالبا ما تقود إلى اللامعنى والى اللافهم. وليس مؤكدا أن الشعراء هم الأكثر معرفة بالشعر. من يتذوق الكلمة بطريقة تفصح عن لذة عميقة قد لا يكون عارفا بشؤونها، وبالأخص أسباب لذتها. لدى شاعر من نوع شربل تمتزج تلك اللذة الحسية بالمعنى من جهة وبالصورة من جهة أخرى. معنى الكلمة وصورتها مكتوبة. خياله ينفتح بطريقة هذيانية على مسالك خفية مشى فيها من قبل اللغويون والخطاطون معا. ولأن شربل قد اشتغل أثناء بحوثه الجمالية على اصول المفردة المشتقة فقد صار يسحره القبض على الكلمة العارية، الحافية، التي هي عبارة عن عضلة متوترة في فضاء لا يتكرر. لقد قضى الشاعر زمنا طويلا وهو يبحث في جذور الكلمات من أجل أن يصل إلى معنى بعينه، معنى يعينه على الفهم ويفتح أمامه أبواب التفسير. سيقال دائما أن الصدفة تلعب دورا كبيرا في اختيار الكلمات. ولكن في حالات كثيرة علينا أن لا نصدق ذلك. صنع السرياليون مزحتهم عميقة الدلالة في زمانها، غير أن كل شيء عاد في ما بعد إلى القاعدة الغامضة: الشعر عذاب كما قال الشاعر العراقي الراحل يوسف الصائغ. 2 ثمة في الشعر ما يستحق عناء البحث عنه: واقعة غيابه المؤكدة يقابلها توقع حضوره المفاجئ. الشعراء لا يمنكهم تفسير كل شيء. أحيانا يكون ما نفعله محط استغرابنا. من فعل ذلك؟ نتساءل. فضائل وصفات ومآثر القصيدة. (قد تأسف القصيدة لما لم يحدث لها) يقول داغر ليشير إلى القصيدة كونها وجودا لما يكتمل بعد، ولن يكتمل أبداً، ذلك لأن القوس يظل مفتوحا لأن ما لا يحدث لا يمكن حصره أبدا. وهو ما يدفع الشاعر إلى الاحساس بأن ما يقبض عليه ليس صورة عن القصيدة وليس القصيدة التي حلم بكتابتها باعتبارها طيفا (القصيدة تفسد الأصابع التي تكتبها / والمطبعة التي تفرغ منها / والقراء الذين يقبلون عليها / لأنها من أخيلة صنعت / بينما يمسكها الآخرون بأصابع مسبوقة)، فالقصيدة ليست ما نعرفه من الشعر. كيان يحضر مفاجئا وحاذقا حين يعيدنا إلى شهوات منسية يمليها علينا شعور بالغيرة إزاء ما يكتبه الآخرون من الشعر الذي لن يكون لنا (أكتب إذ أقرأ / بشهوة السارق في مشغل غيره). وهو شعر يراوغ ويخادع وينوء بعيدا عن كل مطلب أو استحقاق. ولا تستثني القصيدة الشاعر نفسه من مكيدتها. فهي تمسك به مثل رهينة لتسلمه في آخر المطاف إلى فكرته عن وهم لا يمكن العثور عليه (وهذا الذي يمضي بها الى الشجرة / أو الحمام او القطار/ أو مخدتها / كسول وتستبد به، على الرغم من ذلك، هيئة الواصلين). وسط كل ذلك التيه لا يسعى الشاعر إلى اداء دور من يعرف، بل يعترف بان ما فقده هو أكثر مما عثر عليه. غيابها يعني موته وحضوره يعني فقدانها. تناقض بين عدوين يقعان مثل نغمة يمحو بعضها البعض الآخر (لا تحتفظ القصيدة بسير رحلتها / بما أنها غابة ملتمة على خطوات غائبيها / الواقفين أمام أغصانها / رافعين اصبعا امام لوح مدرسي / بحجة أنهم أضاعوا في المنام صنادلهم / فطاروا من غير أجنحة / وكتبوا من دون طبشور/ عن طفولة سبقتهم إلى مخابئ الغياب). علاقة غيرية تنشأ بين الشاعر والقصيدة لأسباب هي مصدر كل هذا الأسى الذي يحيلنا إلى الشاعر مثلما يفتح أمامنا أبوابا لقصيدة ربما ستكتب يوما ما (ما لم أعشه تقيمه أمامي / ما لم أسعد به تشرك الغير به معي/ ما أكتبه يعرفني أفضل مني). الآخر هنا هو القارئ شاعرا أو الشاعر قارئا، لا فرق. فمن يقبض على مفاتيح القصيدة هو المؤهل للتلذذ بطعمها الغامض (القصيدة لا تنام ولا تواعد أحدا / تتمشى أمام مرآتها / من دون أن تمسك بضفيرتها / لعوب وجسورة / تعطي قبلتها لمن يشتهيها). 3 يصنع شربل داغر صورا غامضة، صورا هي اقرب إلى التصوير التجريدي منها إلى التركيب الذهني. وهو في ذلك انما يعبر عن اخلاصه التلقائي لهاجسه الجمالي: (أكتب إذ أرى). يقول الجمالي بلغة الشاعر. يعترف أن فعل النظر لديه يسبق فعل الكتابة. يتساءل: (أللتصوير أن يكون مثل شعر صامت والقصيدة مثل لوحة ناطقة؟) هذا التساؤل يكشف عن منطق آخر للصورة الشعرية، يتبناه الشاعر وهو الذي درس الشعر اكاديميا في مرحلة مبكرة من حياته. في الجزء الأخير من الكتاب يسهب الشاعر في رسم خرائط لعالمه الشعري، ما قبل وما بعد كتابة القصيدة وأثناءها. طيات وثنيات ومنعطفات وطرق لا تنتهي. وهو لا يدور حول هدفه، بل يمضي إليه مدفوعا برغبة التعرف لا بابتهاج من يقول الحقيقة. في كل ما يقوله نتبين خسارة فادحة تقع في المسافة ما بين الكلام والكتابة، ما بين النظر والصورة، ما بين اللغة وبلاغتها. هناك الصورة التي يجترحها خيال الواقع مثل معجزة، لتذكرنا دائما بمرئيات سيزان التي هي من الواقع وليست منه في الوقت نفسه. يستعير شربل صوره من الواقع. غير أن تلك الصور حين تمر بمرجله الارتجالي لا يمكنها الالتفات إلى الواقع أو العودة إليه مرة أخرى. تأخذنا الصور بعيدا حيث المشاهد التي لم يعشها أحد من قبل. يقول الشاعر: (ارضي مروية / من دون شجرتها / وغصني يستطيل لتفاحة فوق طبقها الأسود). هنا تعصف بنا اللغة، لتأخذنا بعيدا عن كل معنى، بل يمكنني أن أزعم أن ليس هناك معنى متاح. تقول الصورة ما يتوجب قوله بعد النظر. ولن يكون على القصيدة سوى أن تنتظر ما يسفر عنه صراع القارىء مع كلمات هي جوهر الأغنية. بعد أكثر من عشرة كتب شعرية يحق لشربل داغر أن يهدي قصيدته لمن يشتهيها. |
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر