الولايات المتحدة لم تترك المنطقة، ولا هي بصدد ذلك. الحديث عن 'فراغ قوة' متوقع بعد خروجها من العراق اواخرَ العام القادم، ومن افغانستان في مدى سنتين من تاريخه سابق لأوانه. كذلك احتمال تخليها عن دورها في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية لا تسمح لها باستقالة مبكرة. في الساحات الثلاث ما زالت امريكا حاضرة وهي في صدد استثمار حضورها المتعدد المظاهر، من اجل إعادة تشكيل الشرق الاوسط بما يلائم مصالحها. اذ هي تشهد وتعاني انهيار مشروع 'الشرق الاوسط الجديد'، ثم مشروع 'الشرق الاوسط الكبير'، تنخرط في هذه الآونة في جهود موصولة لابتداع مقاربة جديدة لمواجهة التحديات الماثلة تُوقف مسار تدهور نفوذها وتستعيد بها زمام المبادرة.
غير ان ما فيه امريكا اليوم وما يمكن ان تكون عليه غداً، يجب ان يشكّل حافزاً لقوى المقاومة العربية والإسلامية، من اجل التحسب والتخطيط، في ضوء الصراع المحتدم، لما يمكن او يجب ان تكون عليه المنطقة عندما تبزغ مرحلة 'فراغ القوة'.
من المعطيات المتوافرة والاخرى المتنامية، يمكن رسم مشهد تقريبي لقابل التطورات والتحديات.
ثمة ثلاث قوى رئيسة في المنطقة تتصارع بأشكال متعددة. انها التحالف الاميركي ـ الصهيوني (الولايات المتحدة واسرائيل) والتحالف الاقليمي الحركي (ايران وسورية واستطراداً لبنان وتركيا)، والتحالف الاقليمي التقليدي (السعودية ومصر).
من الواضح ان التحالف الاميركي ـ الصهيوني متعثر ومرتبك ومتخبط في العراق وافغانستان وباكستان وفلسطين. فالولايات المتحدة قررت الخروج من العراق اواخر 2011، من دون ان تتمكن حتى الآن من اقامة حكومة موالية لها تحمي مؤخرة قواتها الآخذة بالانسحاب، ومجمل استثماراتها النفطية والاقتصادية التي استطاعت زرعها منذ احتلالها البلاد. الامر نفسه تقريباً ينطبق على وضعها في افغانستان، حيث الحرب تزداد تعقيداً وتكلفةً من دون تحقيق اختراق آمن يؤدي الى مفاوضات، وبالتالي الى اقامة حكومة ائتلافية مع طالبان تتقاسم واياها السلطة والمصالح.
في باكستان يزداد نزيف الدماء مقروناً بازدياد تعقيدات الوضع، اقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً، ما حمل واشنطن على مضاعفة مساعداتها بمليارات الدولارات. اما في فلسطين فإن الحراك الدبلوماسي وصل الى جمود لافت، من دون ان تلوح في الافق بوادر تحريك وشيك. لعل حكومة نتنياهو تنتظر نتائج الانتخابات الامريكية النصفية لتبني في ضوئها مع ادارة اوباما على الشيء مقتضاه.
التحالف الاقليمي الحركي يبدو في حراك مستمر ومتصاعد. زيارة الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد الاخيرة الى لبنان اكسبت التحالف زخماً وصدقية، في حين انها اضعفت القوى المحلية الموالية لامريكا، لدرجة حملت ادارة اوباما على ايفاد مساعد وزيرة الخارجية جيفري فيلتمان على عجل، من اجل شد أزر الحلفاء وكبح جماح الاعداء.
الى ذلك، يبدو ان ركني التحالف، ايران وسورية، توصلتا الى صيغة توافقية لإخراج الوضع العراقي من عنق الزجاجة، محورها تجديد ولاية نوري المالكي في رئاسة الحكومة على اساس تأليف وزارة ائتلافية تكون للقوى القومية المتعاطفة مع سورية حصة وازنة فيها. واذ تبدو الولايات المتحدة مضطرة الى الموافقة على الصيغة الجديدة، فإن السعودية ما زالت معارضة لها، رغم ضغوط الرئيس السوري خلال زيارته الاخيرة للرياض. فوق ذلك تحاول دمشق استدراج الجناحين الفلسطينيين المتنافسين، 'حمـاس' و'فتح'، الى توليف مصالحة بينهما تُخرج قضية فلسطين مرحلياً من وصاية التحالف الاقليمي التقليدي (مصر والسعودية) المتعاون مع التحالف الامريكي ـ الصهيوني.
التحالف الاقليمي التقليدي في وضع سياسي شديد الارتباك حتى حدود الشلل. فمصر تفتقر الى رصيد سياسي كافٍ لممارسة دور مؤثر على الصعيد العربي، بسبب مشاركتها، مداورةً، في الحصار الإسرائيلي المضروب على قطاع غزة. والسعودية تعتبر الخطر الاول الذي يواجهها مرحلياً ينبع من ايران، لا من اسرائيل. الى ذلك، فقدت السعودية نفوذها لدى الكثير من القوى الاسلامية السلفية التي، انتقلت تدريجياًً، الى معسكر العداء للولايات المتحدة. اما القوى الاسلامية المحافظة على ولائها للرياض فهي محدودة الفعالية ولا تملك الرصيد والسمعة لتشكيل نموذجٍ سياسي منافسٍ للقوى الاسلامية الحركية. ومع ذلك تبقى السعودية الممول والداعم الرئيس للقوى التقليدية الموالية للغرب الاطلسي في المنطقة.
في ضوء المعطيات المتوافرة والمتنامية، ما عساه يكون مشهد المنطقة التقريبي في المستقبل المنظور، وما العوامل التي من شأنها تظهير صورة المشهد او تظليلها؟
ثمة واقع سياسي ـ اجتماعي يكتنف دول المنطقة افرزته الحروب التي شنها التحالف الامريكي ـ الصهيوني على مدى السنين الستين الماضية، انه تفكيك الشعب، او بالاحرى الاجتماع السياسي، في كلٍ من دول المنطقة الى عناصره الاولى (المتحدات الابتدائية) القبلية والطائفية والمذهبية والاثنية والعصبيات المحلية الضيفة. فالعراق جرى تفجيره بفعل الاحتلال الامريكي الى جناحين عربي وكردي، تمور في كل منهما عصبيات قبلية وطائفية ومذهبية شديدة الوطأة.
لبنان المطبوع اصلاً بتعددية متجذرة انشطر اجتماعياً الى جناحين: واحد متشرّب بثقافة الغرب ومتماهٍ مع قيمه وطريقة حياة مجتمعاته وسياساته في المنطقة بصورة عامة، وآخر وطني عروبي منفتح على الاسلام الحركي، معادٍ للغرب الاطلسي ومقاوم لاسرائيل. وتعصف بالجناحين عصبيات مذهبية تخترق نسيج المجتمع وآليات السلطة، الى درجة بات الوضع معها مشحوناً بتوترات وتشنجات مستعصية.
السودان المتكوّن اصلاً من شمال عربي مسلم متوزع بين طائفتين رئيستين، وغرب (دارفور) قبلي متعدد، وجنوب مسيحي ووثني الى جانب فئات وطوائف اخرى، بات اليوم امام مفترق مصيري يؤشر الى مزيد من الانقسام والتشظي.
فلسطين المبتلاة باستعمار سرطاني توسعي، يزداد الكيان الصهيوني المتجذر فيها عنصريةً وتطرفاً وتهديداً لاقلية عربية هي ما تبقّى من شعبها العربي المشرّد في اربع جهات الارض. ويزداد الوضع سوءا وتعقيداً بانقسام منظمة التحرير الى جناح تسووي مساوم وجناح رديكالي مقاوم، ما ادى الى قيام حكومتين، واحدة في رام الله واخرى في غزة.
ويعاني اليمن من اضطراباتٍ امنية متواصلة في شماله مع طائفة الحوثيين، وفي الجنوب مع قوى حراك سياسي لا ينكر غايته الانفصالية. باختصار، يبدو الوضع العربي، لاسيما في بلاد الشام وبلاد الرافدين واليمن ووادي النيل (بما في ذلك مصر حيث تتجدد النزاعات بين المسلمين والاقباط) في حال انقسام وفرقة وتفكك وفوضى شاملة تستثمرها القوى الخارجية للتدخل والتخريب.
هكذا تبدو الفرصة متاحة امام التحالف الامريكي ـ الصهيوني في ساحات اقليمية عدة لمحاولة تدويم الواقع الراهن المتفكك والمريض. صحيح ان التحالف المذكور عاجز عن الإمساك بنواصي الاوضاع في مختلف الساحات الاقليمية والسيطرة عليها، لكنه قادر بدرجات متفاوتة على اعادة انتاج عوامل التفرقة والتجزئة واستثمارها.
في المقابل، لا تألو القوى الحية في دول التحالف الاقليمي الحركي، وخصوصاً قوى المقاومة في لبنان وفلسطين وسورية وايران، جهداً في التصدي لإسرائيل وللقوى المحلية الموالية للولايات المتحدة. ولعلها نجحت في الساحة اللبنانية بمنعها قوى 14 آذار من احتكار السلطة وسَوق البلد الى حظيرة الغرب الاطلسي والى مهادنة اسرائيل، بل هي شاركت في السلطة بحصة وازنة مكّنتها من تحصين المقاومة ودعمها سياسياً واجتماعياً وتقريب لبنان الرسمي من سورية خصوصاً، ومن سائر اطراف التحالف الاقليمي الحركي عموماً. وفي فلسطين نجحت قوى المقاومة في الحد من هرولة قوى المساومة نحو تسوية تصفوية مذلة مع العدو الصهيوني.
وفي سورية وايران امكن احراز تقدم ملموس على صعيد التنسيق السياسي والعسكري بينهما والتكامل الاقتصادي الاقليمي مع تركيا.
هذه النجاحات النسبية على اهميتها، حصلت وتحصل على الصعيد السياسي الرسمي لكنها لا تتناول ولا تعالج الحالة الانقسامية والتجزيئية على الصعيد المجتمعي والشعبي. لعل مردّ القصور والتقصير غيابُ عامل توحيدي جامع ومؤثر بصيغة دعوة او تيار او حركة فاعلة في الحياة العامة. ففي خمسينات وستينات القرن الماضي صعدت الحركة القومية العربية بفضل البعث وعبد الناصر، وشكّلت نذيراً وبشيراً ومحركاً وقاطرة للشعوب، كما للحكومات في المنطقة حتى هزيمة العام 1967. بعدها تصاعدت الحركة الإسلامية بروحية جهادية وبدت كأنها تسلّمت راية الكفاح لتحقق ما عجزت الحركة القومية عن انجازه عبرعقود ثلاثة.
لئن تمكّنت الحركة الإسلامية من احياء جذوة الجهاد والمقاومة، فإنها عجزت ايضا عن معالجة الحال الانقسامية والتجزيئية السائدة، بل لعلها زادتها سـوءا وتعقيداً، ذلك انها اعتمدت في مقاربتها السياسية للازمات والتحديات الراهنة فكراً ونهجاً قاصرين. فكرها تجلّى في اعتماد مفهوم سلفي ماضوي شعائري ضيق للإسلام تغيب في الممارسة مُثُلُه العليا وجوانبه العقلانية ومناهجه الحركية والتجديدية. اما نهجها فقد تبدّى في مخاطبة المشهد القطري وبالتالي في التعاون مع القوى القطرية ذات الافق الضيق والمصالح الاقتصادية المحلية المرتبطة بوكلاء الدول والمؤسسات والشركات الاوروبية والامريكية، وبالطبقة الاجتماعية المفتقرة الى اهتمامات تنموية.
واذ زاوجت الحركات الاسلامية بين عدائها للغرب، ثقافةً وسياسةً، وبين المسيحية بما هي دين شعوب الغرب عموما، فقد انعكس ذلك سلباً على المجتمعات العربية التعددية التي تحتضن اقليات مسيحية، كالعراق ولبنان وفلسطين ومصر والسودان. زادت الامر تعقيداً مبادرةُ اسرائيل واوساط موالية لها في الولايات المتحدة ودول اخرى اطلسية الى استثارة عصبيات طائفية ومذهبية لاغراض سياسية، ما ادى الى إلحاق بالغ الاذى بأقليات مسيحية في العراق والسودان، وعلى نطاق أضيق في لبنان. اكثر من ذلك، أسهم نهج الحركات الاسلامية السالف الذكر، اضافة الى دسائس اسرائيل وامريكا في تعزيز اسباب التجافي بين المذاهب الاسلامية، ولا سيما بين اهل السنّة واهل الشيعة، في اقطار عربية عدة، الامر الذي عمّق الحال الانقسامية والتجزيئية السائدة. باختصار، ليس ثمة جامع مشترك في الحياة السياسية العربية المعاصرة. فالحركة القومية العربية ضعيفة وشبه غائبة، والحركة الاسلامية متعثرة بمذاهبها ومذهبيتها وانشغالها بشواغل قطرية، وافتقارها الى ابعاد قومية على مستوى الامة.
هذا الواقع المأزوم والمغلق على امراضه الذاتية، لا يمكن تحريره من اغلاله واثقاله إلاّ بإعادة إحياء واطلاق جامع مشترك بين مكوّناته الاجتماعية والسياسية بصيغة دعوة او تيار او حركة سياسية واجتماعية فاعلة. الجامع المشترك هو العروبة، بما هي ثقافة وهوية وانتماء ورابطة سياسية اعلى من المكوّنات الاجتماعية وظروفها المحلية الضيقة، وافعل في ممارسة نهجها وأرحب في تطلعاتها وصبواتها .
الإسلام بلا عروبة مهدد دائما في بلادنا بالانزلاق الى مهاوي الطائفية والمذهبية. العروبة ثقافة وانتماء وهوية في آن. فهي ثقافة وعي الانتماء الى ما هو اعمّ واعلى حضارياً. وهي هوية الاجتماع السياسي الهادف للارتقاء الى ما هو ارحب واغنى وارقى سياسياً واقتصاديا واجتماعياً.
اذا كان خروج امريكا المرتقب من المنطقة سيؤدي الى نشوء 'فراغ قوة'، فإن العرب بوضعهم الانقسامي والفسيفسائي الحالي عاجزون عن ملئه.
ثمة حاجة الى تزويج الإسلام بالعروبة مجدداً لتمكين القوى الحية في الامة من الالتقاء والارتقاء بتوظيف الجامع المشترك ـ متحد العروبة والاسلام ـ في مجهود سياسي وحضاري متكامل.
وليس صحيحاً ان تطور وتكامل وارتقاء تيار او خط قومي ـ اسلامي او اسلامي عروبي من شأنه اعاقة مسيرة التحالف والتعاون الاقليمي المنطلقة حالياً بين سورية وايران وتركيا، ذلك ان النظام في كلٍ من الدول الثلاث هو في الواقع، نظام قومي اسلامي او اسلامي قومي، وان القومية متداخلة مع الاسلام في كل منها، الامر الذي جعل المتحد القومي ـ الاسلامي اعلى وارقى وافعل من مكوّناتها الاجتماعية المحلية.
آن اوان الالتقاء والارتقاء.
غير ان ما فيه امريكا اليوم وما يمكن ان تكون عليه غداً، يجب ان يشكّل حافزاً لقوى المقاومة العربية والإسلامية، من اجل التحسب والتخطيط، في ضوء الصراع المحتدم، لما يمكن او يجب ان تكون عليه المنطقة عندما تبزغ مرحلة 'فراغ القوة'.
من المعطيات المتوافرة والاخرى المتنامية، يمكن رسم مشهد تقريبي لقابل التطورات والتحديات.
ثمة ثلاث قوى رئيسة في المنطقة تتصارع بأشكال متعددة. انها التحالف الاميركي ـ الصهيوني (الولايات المتحدة واسرائيل) والتحالف الاقليمي الحركي (ايران وسورية واستطراداً لبنان وتركيا)، والتحالف الاقليمي التقليدي (السعودية ومصر).
من الواضح ان التحالف الاميركي ـ الصهيوني متعثر ومرتبك ومتخبط في العراق وافغانستان وباكستان وفلسطين. فالولايات المتحدة قررت الخروج من العراق اواخر 2011، من دون ان تتمكن حتى الآن من اقامة حكومة موالية لها تحمي مؤخرة قواتها الآخذة بالانسحاب، ومجمل استثماراتها النفطية والاقتصادية التي استطاعت زرعها منذ احتلالها البلاد. الامر نفسه تقريباً ينطبق على وضعها في افغانستان، حيث الحرب تزداد تعقيداً وتكلفةً من دون تحقيق اختراق آمن يؤدي الى مفاوضات، وبالتالي الى اقامة حكومة ائتلافية مع طالبان تتقاسم واياها السلطة والمصالح.
في باكستان يزداد نزيف الدماء مقروناً بازدياد تعقيدات الوضع، اقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً، ما حمل واشنطن على مضاعفة مساعداتها بمليارات الدولارات. اما في فلسطين فإن الحراك الدبلوماسي وصل الى جمود لافت، من دون ان تلوح في الافق بوادر تحريك وشيك. لعل حكومة نتنياهو تنتظر نتائج الانتخابات الامريكية النصفية لتبني في ضوئها مع ادارة اوباما على الشيء مقتضاه.
التحالف الاقليمي الحركي يبدو في حراك مستمر ومتصاعد. زيارة الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد الاخيرة الى لبنان اكسبت التحالف زخماً وصدقية، في حين انها اضعفت القوى المحلية الموالية لامريكا، لدرجة حملت ادارة اوباما على ايفاد مساعد وزيرة الخارجية جيفري فيلتمان على عجل، من اجل شد أزر الحلفاء وكبح جماح الاعداء.
الى ذلك، يبدو ان ركني التحالف، ايران وسورية، توصلتا الى صيغة توافقية لإخراج الوضع العراقي من عنق الزجاجة، محورها تجديد ولاية نوري المالكي في رئاسة الحكومة على اساس تأليف وزارة ائتلافية تكون للقوى القومية المتعاطفة مع سورية حصة وازنة فيها. واذ تبدو الولايات المتحدة مضطرة الى الموافقة على الصيغة الجديدة، فإن السعودية ما زالت معارضة لها، رغم ضغوط الرئيس السوري خلال زيارته الاخيرة للرياض. فوق ذلك تحاول دمشق استدراج الجناحين الفلسطينيين المتنافسين، 'حمـاس' و'فتح'، الى توليف مصالحة بينهما تُخرج قضية فلسطين مرحلياً من وصاية التحالف الاقليمي التقليدي (مصر والسعودية) المتعاون مع التحالف الامريكي ـ الصهيوني.
التحالف الاقليمي التقليدي في وضع سياسي شديد الارتباك حتى حدود الشلل. فمصر تفتقر الى رصيد سياسي كافٍ لممارسة دور مؤثر على الصعيد العربي، بسبب مشاركتها، مداورةً، في الحصار الإسرائيلي المضروب على قطاع غزة. والسعودية تعتبر الخطر الاول الذي يواجهها مرحلياً ينبع من ايران، لا من اسرائيل. الى ذلك، فقدت السعودية نفوذها لدى الكثير من القوى الاسلامية السلفية التي، انتقلت تدريجياًً، الى معسكر العداء للولايات المتحدة. اما القوى الاسلامية المحافظة على ولائها للرياض فهي محدودة الفعالية ولا تملك الرصيد والسمعة لتشكيل نموذجٍ سياسي منافسٍ للقوى الاسلامية الحركية. ومع ذلك تبقى السعودية الممول والداعم الرئيس للقوى التقليدية الموالية للغرب الاطلسي في المنطقة.
في ضوء المعطيات المتوافرة والمتنامية، ما عساه يكون مشهد المنطقة التقريبي في المستقبل المنظور، وما العوامل التي من شأنها تظهير صورة المشهد او تظليلها؟
ثمة واقع سياسي ـ اجتماعي يكتنف دول المنطقة افرزته الحروب التي شنها التحالف الامريكي ـ الصهيوني على مدى السنين الستين الماضية، انه تفكيك الشعب، او بالاحرى الاجتماع السياسي، في كلٍ من دول المنطقة الى عناصره الاولى (المتحدات الابتدائية) القبلية والطائفية والمذهبية والاثنية والعصبيات المحلية الضيفة. فالعراق جرى تفجيره بفعل الاحتلال الامريكي الى جناحين عربي وكردي، تمور في كل منهما عصبيات قبلية وطائفية ومذهبية شديدة الوطأة.
لبنان المطبوع اصلاً بتعددية متجذرة انشطر اجتماعياً الى جناحين: واحد متشرّب بثقافة الغرب ومتماهٍ مع قيمه وطريقة حياة مجتمعاته وسياساته في المنطقة بصورة عامة، وآخر وطني عروبي منفتح على الاسلام الحركي، معادٍ للغرب الاطلسي ومقاوم لاسرائيل. وتعصف بالجناحين عصبيات مذهبية تخترق نسيج المجتمع وآليات السلطة، الى درجة بات الوضع معها مشحوناً بتوترات وتشنجات مستعصية.
السودان المتكوّن اصلاً من شمال عربي مسلم متوزع بين طائفتين رئيستين، وغرب (دارفور) قبلي متعدد، وجنوب مسيحي ووثني الى جانب فئات وطوائف اخرى، بات اليوم امام مفترق مصيري يؤشر الى مزيد من الانقسام والتشظي.
فلسطين المبتلاة باستعمار سرطاني توسعي، يزداد الكيان الصهيوني المتجذر فيها عنصريةً وتطرفاً وتهديداً لاقلية عربية هي ما تبقّى من شعبها العربي المشرّد في اربع جهات الارض. ويزداد الوضع سوءا وتعقيداً بانقسام منظمة التحرير الى جناح تسووي مساوم وجناح رديكالي مقاوم، ما ادى الى قيام حكومتين، واحدة في رام الله واخرى في غزة.
ويعاني اليمن من اضطراباتٍ امنية متواصلة في شماله مع طائفة الحوثيين، وفي الجنوب مع قوى حراك سياسي لا ينكر غايته الانفصالية. باختصار، يبدو الوضع العربي، لاسيما في بلاد الشام وبلاد الرافدين واليمن ووادي النيل (بما في ذلك مصر حيث تتجدد النزاعات بين المسلمين والاقباط) في حال انقسام وفرقة وتفكك وفوضى شاملة تستثمرها القوى الخارجية للتدخل والتخريب.
هكذا تبدو الفرصة متاحة امام التحالف الامريكي ـ الصهيوني في ساحات اقليمية عدة لمحاولة تدويم الواقع الراهن المتفكك والمريض. صحيح ان التحالف المذكور عاجز عن الإمساك بنواصي الاوضاع في مختلف الساحات الاقليمية والسيطرة عليها، لكنه قادر بدرجات متفاوتة على اعادة انتاج عوامل التفرقة والتجزئة واستثمارها.
في المقابل، لا تألو القوى الحية في دول التحالف الاقليمي الحركي، وخصوصاً قوى المقاومة في لبنان وفلسطين وسورية وايران، جهداً في التصدي لإسرائيل وللقوى المحلية الموالية للولايات المتحدة. ولعلها نجحت في الساحة اللبنانية بمنعها قوى 14 آذار من احتكار السلطة وسَوق البلد الى حظيرة الغرب الاطلسي والى مهادنة اسرائيل، بل هي شاركت في السلطة بحصة وازنة مكّنتها من تحصين المقاومة ودعمها سياسياً واجتماعياً وتقريب لبنان الرسمي من سورية خصوصاً، ومن سائر اطراف التحالف الاقليمي الحركي عموماً. وفي فلسطين نجحت قوى المقاومة في الحد من هرولة قوى المساومة نحو تسوية تصفوية مذلة مع العدو الصهيوني.
وفي سورية وايران امكن احراز تقدم ملموس على صعيد التنسيق السياسي والعسكري بينهما والتكامل الاقتصادي الاقليمي مع تركيا.
هذه النجاحات النسبية على اهميتها، حصلت وتحصل على الصعيد السياسي الرسمي لكنها لا تتناول ولا تعالج الحالة الانقسامية والتجزيئية على الصعيد المجتمعي والشعبي. لعل مردّ القصور والتقصير غيابُ عامل توحيدي جامع ومؤثر بصيغة دعوة او تيار او حركة فاعلة في الحياة العامة. ففي خمسينات وستينات القرن الماضي صعدت الحركة القومية العربية بفضل البعث وعبد الناصر، وشكّلت نذيراً وبشيراً ومحركاً وقاطرة للشعوب، كما للحكومات في المنطقة حتى هزيمة العام 1967. بعدها تصاعدت الحركة الإسلامية بروحية جهادية وبدت كأنها تسلّمت راية الكفاح لتحقق ما عجزت الحركة القومية عن انجازه عبرعقود ثلاثة.
لئن تمكّنت الحركة الإسلامية من احياء جذوة الجهاد والمقاومة، فإنها عجزت ايضا عن معالجة الحال الانقسامية والتجزيئية السائدة، بل لعلها زادتها سـوءا وتعقيداً، ذلك انها اعتمدت في مقاربتها السياسية للازمات والتحديات الراهنة فكراً ونهجاً قاصرين. فكرها تجلّى في اعتماد مفهوم سلفي ماضوي شعائري ضيق للإسلام تغيب في الممارسة مُثُلُه العليا وجوانبه العقلانية ومناهجه الحركية والتجديدية. اما نهجها فقد تبدّى في مخاطبة المشهد القطري وبالتالي في التعاون مع القوى القطرية ذات الافق الضيق والمصالح الاقتصادية المحلية المرتبطة بوكلاء الدول والمؤسسات والشركات الاوروبية والامريكية، وبالطبقة الاجتماعية المفتقرة الى اهتمامات تنموية.
واذ زاوجت الحركات الاسلامية بين عدائها للغرب، ثقافةً وسياسةً، وبين المسيحية بما هي دين شعوب الغرب عموما، فقد انعكس ذلك سلباً على المجتمعات العربية التعددية التي تحتضن اقليات مسيحية، كالعراق ولبنان وفلسطين ومصر والسودان. زادت الامر تعقيداً مبادرةُ اسرائيل واوساط موالية لها في الولايات المتحدة ودول اخرى اطلسية الى استثارة عصبيات طائفية ومذهبية لاغراض سياسية، ما ادى الى إلحاق بالغ الاذى بأقليات مسيحية في العراق والسودان، وعلى نطاق أضيق في لبنان. اكثر من ذلك، أسهم نهج الحركات الاسلامية السالف الذكر، اضافة الى دسائس اسرائيل وامريكا في تعزيز اسباب التجافي بين المذاهب الاسلامية، ولا سيما بين اهل السنّة واهل الشيعة، في اقطار عربية عدة، الامر الذي عمّق الحال الانقسامية والتجزيئية السائدة. باختصار، ليس ثمة جامع مشترك في الحياة السياسية العربية المعاصرة. فالحركة القومية العربية ضعيفة وشبه غائبة، والحركة الاسلامية متعثرة بمذاهبها ومذهبيتها وانشغالها بشواغل قطرية، وافتقارها الى ابعاد قومية على مستوى الامة.
هذا الواقع المأزوم والمغلق على امراضه الذاتية، لا يمكن تحريره من اغلاله واثقاله إلاّ بإعادة إحياء واطلاق جامع مشترك بين مكوّناته الاجتماعية والسياسية بصيغة دعوة او تيار او حركة سياسية واجتماعية فاعلة. الجامع المشترك هو العروبة، بما هي ثقافة وهوية وانتماء ورابطة سياسية اعلى من المكوّنات الاجتماعية وظروفها المحلية الضيقة، وافعل في ممارسة نهجها وأرحب في تطلعاتها وصبواتها .
الإسلام بلا عروبة مهدد دائما في بلادنا بالانزلاق الى مهاوي الطائفية والمذهبية. العروبة ثقافة وانتماء وهوية في آن. فهي ثقافة وعي الانتماء الى ما هو اعمّ واعلى حضارياً. وهي هوية الاجتماع السياسي الهادف للارتقاء الى ما هو ارحب واغنى وارقى سياسياً واقتصاديا واجتماعياً.
اذا كان خروج امريكا المرتقب من المنطقة سيؤدي الى نشوء 'فراغ قوة'، فإن العرب بوضعهم الانقسامي والفسيفسائي الحالي عاجزون عن ملئه.
ثمة حاجة الى تزويج الإسلام بالعروبة مجدداً لتمكين القوى الحية في الامة من الالتقاء والارتقاء بتوظيف الجامع المشترك ـ متحد العروبة والاسلام ـ في مجهود سياسي وحضاري متكامل.
وليس صحيحاً ان تطور وتكامل وارتقاء تيار او خط قومي ـ اسلامي او اسلامي عروبي من شأنه اعاقة مسيرة التحالف والتعاون الاقليمي المنطلقة حالياً بين سورية وايران وتركيا، ذلك ان النظام في كلٍ من الدول الثلاث هو في الواقع، نظام قومي اسلامي او اسلامي قومي، وان القومية متداخلة مع الاسلام في كل منها، الامر الذي جعل المتحد القومي ـ الاسلامي اعلى وارقى وافعل من مكوّناتها الاجتماعية المحلية.
آن اوان الالتقاء والارتقاء.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر