كشفت وكالة فلسطين اليوم الإخبارية اليوم الأحد، تفاصيل تنشرها لأول مرة عن كيفية قصف الاحتلال الإسرائيلي للمفاعل السوري.
فحسب دراسة خاصة، فعملية تجسس على موظف سوري كبير في فندق كينستنغتون في لندن حيث تمكن جاسوسان من اقتحام غرفته وزَرْع برنامج تجسس في حاسوبه جعل للحاسوب "بوابة خلفية"، يمكن عبرها المتابعة عن بعد ونسخ كل المادة المحفوظة فيه هي بداية قصة المفاعل السوري.
وأضافت الدراسة الخاصة بـ"فلسطين اليوم"، أن مادة استخباراتية لا تقدر بالذهب وصلت للموساد عبر هذا الحاسوب، كشفت النقاب للمرة الأولى عن البرنامج الذري السري لسوريا.
وكانت المكتشفات في هذه المادة مذهلة أظهرت مخططات البناء للمفاعل الذري في منطقة دير الزور، والمراسلات مع محافل في الحكم لسوريا الشمالية، وصور بدا فيها المفاعل مغطى بالاسمنت، وفي صور أخرى ظهر شخصان: واحد آسيوي شخص كأحد قادة البرنامج النووي في كوريا الشمالية والآخر عربي شخص لاحقاً بأنه إبراهيم عثمان، رئيس لجنة الطاقة الذرية في سوريا.
ولم تكن هذه المادة وحدها التي استند عليها الموساد، بل انضمت إلى معلومات أخرى أخذت في التجمع، على مدى عامي 2006 و 2007، لدى قادة أسرة الاستخبارات الإسرائيلية. "وحسب هذه المعلومات فقد بنت الحكومة السورية بسرية تامة مفاعلاً نووياً في المنطقة الصحراوية في دير الزور، في الشمال الشرقي من الدولة، الموقع المعزول يقع على مقربة من الحدود التركية وعلى مسافة 160كم عن الحدود العراقية – السورية"، هي إحدى التفاصيل الأكثر مفاجئة المتعلقة بالمفاعل كانت انه بني بتمويل ايراني وبمساعدة خبراء من كوريا الشمالية.
قصة غرام
وحسب الدراسة، فـ"قصة الغرام" بين سوريا وكوريا الشمالية بدأت بزيارة رئيس وزراء كوريا الشمالية إلى سوريا، تلبية لدعوة من الرئيس حافظ الأسد، قبل اندلاع حرب الخليج، وفي حينه وقع اتفاق للتعاون العسكري والتكنولوجي بين الدولتين.
ومع أن الموضوع النووي طرح، إلا أن الأسد قرر أن يضعه جانبا وأن يكتفي بتطوير سلاح كيماوي وبيولوجي، وجمد الخطة لشراء مفاعلات من روسيا.
وفي شباط 1991، في أثناء حرب الخليج، وصلت إرسالية صواريخ أولى من كوريا الشمالية إلى سوريا، ووقتها وزير الحرب الإسرائيلي موشيه آرنس رد اقتراحا للقيام بعملية توقف الارسالية، كي لا يؤدي ذلك إلى اشتعال في المنطقة.
وفي جنازة أبيه، في حزيران 2000 التقى بشار الأسد بأعضاء الوفد الكوري الشمالي. وبشكل سري بدأ في حينه يتدحرج موضوع بناء المفاعل في سوريا، من خلال "الوكالة السورية للبحوث العلمية".
وفي تموز 2002 عقد لقاء سري للغاية في دمشق بين مندوبين سوريين، إيرانيين ومن كوريا الشمالية، وفي أثناء اللقاء أجملت الصفقة الثلاثية التي التزم فيها المندوب الإيراني بتمويل كلفة إقامة المفاعل التي بلغت نحو ملياري دولار، وينشأ أنه على مدى خمس سنوات لم تعرف أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية بأن السوريين يبنون سرا المفاعل النووي.
وبينت الدراسة، أنه على مدى هذه السنين أشعلت بعض أضواء التحذير، ولكن أحدا لم يلاحظها، فالأجهزة الأمريكية لم تفسر على نحو سليم المعلومات التي وصلت إليها؛ إما في الموساد وفي أمان (شعبة الاستخبارات العسكرية) فساد التقدير بان ليس للسوريين اهتماما أو قدرة على تحقيق سلاح نووي.
وعليه فإن أحداً لم يكلف نفسه عناء البحث عن معلومات تحطم "المفهوم السائد". إضافة إلى ذلك، فإن المؤشرات كانت بارزة على نحو خاص: في 2005 غرقت سفينة "اندورا" أمام شواطىء نهاريا، بينما كانت تشق طريقها من كوريا الشمالية إلى سوريا، وهي تقل شحنة "اسمنت" ورجال الطاقم السوريين والمصريين. في 2006 وضعت اليد في قبرص على سفينة شحن من كوريا الشمالية، تحمل علم بنما، كانت تشق طريقها إلى سوريا وعلى متنها "اسمنت" آخر إلى جانب منظومة رادار متحرك. في نهاية 2006 زار دمشق خبراء نووي إيرانيون وصلوا ليفحصوا عن كثب التقدم في بناء المفاعل. الإسرائيليون والأمريكيون رأوا كل المؤشرات ولكنهم لم يفهموا بان الحديث يدور عن عملية بناء للمفاعل.
اتخذ السوريون نهجا آخر يرمي إلى "تنويم" إسرائيل والولايات المتحدة: فقد فرضوا صمتا إعلامياً على كل العاملين والخبراء الذين كانوا في الموقع. منعوا الجميع من حمل هواتف نقالة، كما منعوا استخدام الهاتف المتصل بالقمر الصناعي، وكل اتصال تم من خلال مبعوثين نقلوا البلاغات والرسائل اللازمة. النشاط في الموقع لم ينكشف رغم أن أقمار التجسس الصناعية الأمريكية والإسرائيلية صورته دون انقطاع.
المفاجأة المذهلة
وأوضحت الدارسة، أن فجأة وقع حدث دراماتيكي أذهل إسرائيل والولايات المتحدة معاً، ففي 7 شباط 2007 وصل من طهران إلى دمشق الجنرال الإيراني علي رضا عسكري، أحد قادة الحرس الثوري ونائب وزير الدفاع الإيراني سابقا.
وقد توقف في العاصمة السورية فقط إلى أن تأكد من أن عائلته باتت في طريقها إلى خارج إيران؛ وعندها واصل رحلته إلى تركيا.
وفي اسطنبول اختفت آثاره، بعد نحو شهر فقط تبين أن عسكري فر إلى الغرب، في حملة خططتها وكالة الاستخبارات المركزية بالتعاون مع إسرائيل، وقد حقق معه في قاعدة أمريكية في أوروبا – على ما يبدو في ألمانيا – وكشف لمضيفيه أحد الإسرار الأكثر كتمانا لطهران ودمشق. فقد كشف عسكري النقاب عن العلاقة الثلاثية بين سوريا، كوريا الشمالية وإيران. وقالت الدراسة، أن العسكري روى لمحققيه بأن إيران تحث وتمول إقامة المفاعل النووي في دير الزور، بل انه قدم تفاصيل أخرى عن حالة المفاعل وعن المسئولين الإيرانيين الذين يساعدون ويقدمون المشورة للسوريين.
هذه المعلومات الجديدة أدخلت إسرائيل في حالة تأهب عملياتي، والموساد خصصت قوات ومقدرات للتأكد من التفاصيل التي قدمها الجنرال الإيراني.
أما رئيس الوزراء ايهود ولمرت جمع قادة أذرع الحرب في بحث خاص، في أثنائه تبلور إجماع بضرورة العمل على عجل على تحقيق إثباتات موثوقة ومسنودة عن المفاعل. كان واضحا للجميع أن إسرائيل لا يمكنها أن تسلم بتحول سوريا، العدو اللدود والعدواني إلى قوة عظمى نووية.
وفي غضون عدة أشهر نجح قادة الموساد وأمان في أن يضعوا على طاولة رئيس الوزراء مادة الإدانة التي بحث عنها.
بعد خمسة أشهر من فرار عسكري وقعت الانعطافة التالية في التحقيق: اكتشاف المادة في حاسوب المسئول السوري الذي زار لندن.
تجنيد سري
ولكن الموساد حققت نجاحا آخر حيث جندت بطرق ملتوية أحد العاملين في المفاعل، الذي التقط صورا عديدة بل وشريط فيديو في داخل المبنى الذي كان اخذ في الاكتمال، وتضمنت المادة صورا للمشروع التقطت من الأرض، كان يمكن فيها الرؤية بوضوح لمبنى دائري كبير ذي جدران رقيقة ومعززة جيدا. كما كان يمكن ملاحظة الدعامات التي أقيمت لتعزيز جدران المبنى. وأظهرت صور أخرى مبنى آخر، اصغر، وفيه ناهلات وقود عديدة وحولها شاحنات. بجوارها كان أيضاً مبنى ثالث، وحسب تقدير الخبراء كان هذا هو المبنى الذي وفر المياه اللازمة لتشغيل المفاعل النووي.
وحرصت إسرائيل على أن تضع في الزمن الحقيقي الأمريكيين في صورة كل المادة التي نجحت في تحقيقها، بما في ذلك صورة حديثة العهد التقطتها الأقمار الصناعية والتنصات التي أجريت على المكالمات بين كوريا الشمالية ودمشق.
وبضغط من إسرائيل استخدمت الولايات المتحدة أقمار التجسس الخاصة بها. وسرعان ما تجمعت مادة حديثة تضمنت أيضاً صوراً من تصوير الأقمار الصناعية الأمريكية المتطورة ومواد جمعت بوسائل الكترونية، أظهرت أن السوريين يواصلون بناء المفاعل بوتيرة سريعة.
في تموز 2007 سافر رئيس الوزراء أولمرت إلى واشنطن مع كل المادة الحديثة التي كانت بحوزة إسرائيل، وفي ختام حديث طويل مع الرئيس بوش أبلغه بأنه قرر مهاجمة المفاعل السوري، حيث كان الأمريكيون لا يزالون يترددون.
إسرائيل أوصتهم بأن يوجهوا ضربة عسكرية للمفاعل ولكن الأمريكيين رفضوا، وحسب مصادر أمريكية مطلعة، قرر البيت الأبيض في النهاية بان "الولايات المتحدة تفضل ألا تهاجم".
وحسب الدراسة الخاصة بـ"فلسطين اليوم"، وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس ووزير الدفاع روبرت غيتس حاولا حتى إقناع إسرائيل "الاصطدام (مع السوريين) ولكن عدم الهجوم". الرئيس ومستشار الأمن القومي ستيف هيدلي أعربا عن تأييد مبدئي لعملية عسكرية، ولكنهما طلبا تأجيل العملية لإجراء فحوصات إضافية.
جولات فوق المفاعل
في أثناء شهر تموز 2007، أجرت إسرائيل جولات فوق الموقع، وبواسطة القمر الصناعي "أوفيك 7" حصلت على صور عن النشاط في المفاعل. وحلل الصور خبراء أمريكيون وإسرائيليون، قرروا بان سوريا تبني مفاعلا نوويا حسب نموذج المفاعل الكوري الشمالي في يونغ – بيونغ. عمليا توصل الخبراء إلى الاستنتاج بان المفاعلين متشابهين حقا. كما أن صور الفيديو التي نقلتها إسرائيل إلى الأمريكيين قدمت التشابه الكامل بين لباب المفاعلين، بما في ذلك خطة وضع قضبان اليورانيوم في الثقوب التي في قلب المفاعل. أفلام الفيديو القصيرة أظهرت أيضاً وجوه الكوريين الشماليين الذين كانوا يعملون في المفاعل. وبالتوازي، فان وحدة الاستخبارات 8.200 وفرت محاضر محادثات بين علماء سوريين وبين خبراء من كوريا الشمالية.
هذه المادة أيضا نقلت إلى واشنطن، ولكن الأمريكيين كانوا لا يزالون يرغبون ببراهين قاطعة بان المبنى سيستخدم كمفاعل نووي وان المواد النووية باتت موجودة في المكان.
إسرائيل قررت أن توفر هذه المعلومات أيضاً وعندها، في آب 2007 وجد "المسدس المدخن"، ذاك البرهان الدراماتيكي الذي لم يترك مجالا للشك في أن السوريين بالفعل يبنون مفاعلا نوويا في دير الزور. البرهان جلبه جنود سييرت متكال (الوحدة الخاصة التابعة لهيئة الأركان)، والذين انطلقوا في إحدى ليالي آب في مروحيتين، في منطقة المفاعل. أحد لم يحس بهم حين نزلوا على مقربة من دير الزور. ومن خلال أجهزة ثقيلة، اخذوا عدة عينات للتربة كان فيها مادة مشعة.
دليل لا لبس فيه
كان هذا برهان لا لبس فيه على أنه في المكان باتت توجد مواد نووية، ترمي إلى غرض واحد ووحيد.
المادة الجديدة نقلت على عجل إلى رئيس مجلس الأمن القومي الأمريكي ستيف هيدلي، الذي رد بدهشة تامة؛ فقد سارع إلى استدعاء أفضل الخبراء كي يستخلص النتائج ويبلغ بذلك الرئيس بوش في جلسة الصباح التي يعقداها كل يوم. بعد فحص الخبراء اقتنع هيدلي بان الموضوع جدي جدا. كما أنه أجرى حديثاً طويلاً مع رئيس أمان ورئيس الموساد، وفي أعقاب ذلك اتخذ قرارا بان المفاعل يشكل تهديدا حقيقيا. الولايات المتحدة اقتنعت بأنه ينبغي بالفعل تدمير المفاعل. وأعطى الأمريكيون لمفهم عن دير الزور اسم "البستان".
وحسب "الصاندي تايمز"، عقد رئيس الوزراء أولمرت اجتماعا مع وزير الحرب الإسرائيلي ايهود باراك ووزيرة الخارجية تسيبي لفني، والثلاثة، إلى جانب قادة أجهزة الأمن، بحثوا في الحقائق، في المعطيات وفي الآثار المتوقعة لعملية عسكرية ضد سوريا. بعد ساعات من المداولات قرروا تدمير المفاعل.
وأطلع رئيس الوزراء رئيس المعارضة بيبي نتنياهو على تفاصيل القرار.
الهجوم
تقرر موعد الهجوم تقرر في 5 أيلول 2007، وفي 4 أيلول، حسب صحيفة "الصاندي تايمز" البريطانية، تسلل الى دير الزور مقاتلو وحدة شلداغ لتحديد الاهداف للطائرات بأشعة الليزر.
في 5 أيلول، في الساعة 23:00 انطلقت عشر طائرات من قاعدة سلاح الجو في رمات دافيد باتجاه البحر الأبيض المتوسط. بعد ثلاثين دقيقة من ذلك تلقت ثلاثة منها الأمر بالعودة إلى قواعدها. الطائرات القتالية السبع الأخرى، من طراز أف 15 تلقت أمرا بالطيران باتجاه الحدود السورية – التركية، وتسللت من هناك نحو المفاعل النووي. وفي الطريق قصفت رادارا كي تشوش القدرة السورية على التقاط تسلل الطائرات. بعد بضعة دقائق وصلت إلى منطقة دير الزور وعلى مسافة مخطط لها أطلقت نحو المفاعل صواريخ "مافريك" أرض – جو وكذا قنابل من نصف طن أصابت الهدف بدقة.
الدقائق المدمرة
في غضون دقائق دمر المفاعل النووي السوري الذي كان من شأنه أن ينتج، لاحقا، قنابل نووية كانت ستشكل تهديدا على وجود إسرائيل.
في إسرائيل تخوفوا من رد فعل سوري على قصف المفاعل. ولهذا سارع رئيس الوزراء أولمرت للاتصال برئيس الوزراء التركي اردوغان، وطلبه منه نقل رسالة إلى الرئيس الأسد تقضي بان الحرب ليست وجهة إسرائيل.
وفي غداة القصف انتشر حرج هائل في دمشق. في البداية رد السوريون بالصمت المطبق. وبلغوا عن الهجوم في الساعة الثالثة من بعد الظهر فقط، من خلال وكالة الأنباء "سانا".
وحسب الدراسة، تسللت طائرات حربية إسرائيلية في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل إلى المجال الجوي لسوريا. "سلاحنا الجوي اجبرها على التراجع بعد أن أسقطت ذخيرتها فوق الأرض الصحراوية. لم تقع أضرار للرجال والمعدات".
بعد القصف بدأت وسائل الاعلام في العالم تعنى بمسألة كيف نجحت الموساد في التسلل إلى داخل المفاعل.
تساؤلات
شبكة التلفزيون الامريكية ABC أفادت بأنه "كان لإسرائيل عميل داخل المفاعل السوري أو كبديل، نجحت الموساد في تجنيد احد العاملين الذي نقل صورا حديثة للموقع".
في شهر نيسان 2008، نحو سبعة أشهر من الهجوم على المفاعل، أعلنت الإدارة الأمريكية بان المنشأة التي قصفت في سوريا كانت مفاعلا نوويا بني بمساعدة كوريا الشمالية وانه "لم يكن لأغراض سلمية"، وقدم قادة أذرع الاستخبارات على أعضاء الكونغرس عرضا تضمن صورا تشهد على وجه شبه شديد بين المنشأة السورية وبين المفاعل الكوري الشمالي في منطقة يونغ – بيونغ، وكذا صور لأقمار صناعية ومخططات للمفاعل. أعضاء الكونغرس شاهدوا أمرا مشوقا آخر، كما يتضح من التقارير التي وصلت من واشنطن: "شاهدوا شريط فيدو صوره عميل الموساد الاسرائيلي في المفاعل السوري".
نجحت إسرائيل في الحفاظ على الصمت على مدى أسبوعين في إثنائهما رفضت الاعتراف بأنها كانت هي التي هاجمت المفاعل، ولكن عندها جاء بيبي نتنياهو، الذي كان رئيس المعارضة، إلى أستوديو "مباط للأخبار". وردا على سؤال طرحه عليه حاييم يفين قال: "عندما تعمل الحكومة من أجل أمن إسرائيل – أنا أعطيها الاسناد... وهنا أيضا كنت شريكا في هذا الأمر من اللحظة الأولى وقدمت له الإسناد".
رجال أولمرت عقبوا بغضب: "نحن في صدمة تامة من هذا الرجل، فهو عديم المسؤولية والتفكر، هذا هو بيبي الحقيقي!".
الاخطبوط
العيارات النارية الأخيرة في قصف المفاعل السوري أعطت صداها بتأخير أحد عشرة شهرا، في 2 آب 2008، وفي مساء اليوم تمت وليمة بهيجة على شرفة منزل للاستجمام في الرمال الذهبية، شمالي مدينة طرطوس في سوريا. وكان منزل الاستجمام ملاصقا للشاطئ ويطل على مشهد طبيعي رائع. شرفة المنزل تلامس المياه وتشكل مخرجا للرطوبة العالية في شهر آب. الريح الليلية بردت الجو الحار لمنتصف الصيف. الضيوف كانوا الأصدقاء المقربين من صاحب المنزل، الجنرال محمد سليمان، الذي وصل إلى هنا في إجازة نهاية الأسبوع.
سليمان، كان المساعد الأكبر للرئيس الأسد لشؤون الجيش والأمن، كان مسئولاً عن إقامة المفاعل وعن حمايته، وفي دوائر الحكم العليا في سوريا وصفوه كرجل الظل للأسد. مكتبه كان في القصر الرئاسي، ملاصقا لمكتب الرئيس، وقلة فقط كانوا يعرفونه في سوريا وخارجها.
اسمه لم يذكر في وسائل الاعلام، ولكن الموساد ووكالات الاستخبارات في الغرب كانت تعرفه وتعرف أفعاله جيدا. محمد سليمان ابن السبعة والأربعين كان خريج جامعة دمشق في الهندسة؛ هناك تصادق مع باسل الأسد، نجل الرئيس حافظ الأسد والشقيق الأكبر لبشار، وبعد وفاة باسل في حادثة طرق، حرص حافظ الأسد على تقريب سليمان منه ومن خليفته، بشار، في العام 2000 توفي حافظ الأسد وانتخب نجله بشار رئيسا لسوريا، مع تسلمه الحكم، جعل الرئيس الشاب سليمان رجل سره ومستشاره المقرب.
على مدى السنين جمع سليمان قوة كبيرة، والرئيس الأسد كلفه بسلسلة من المناصب المركزية في مجالات أمنية حساسة، وأصبح إخطبوطاً متعدد الأذرع وكانت يده تطال كل شيء. سليمان كان "رجل الأسد" لدى الجيش والاستخبارات في بلاده؛ لم يكن هناك سر في الساحة العسكرية والاستخبارية السورية اخفي عنه. سليمان كان أيضا رجل الارتباط بين الرئيس الأسد وبين الجيش والاستخبارات الإيرانية في كل ما يتعلق بالنشاطات السرية التي نفذتها الدولتان مع منظمات الإرهاب في المنطقة. كما أنه كان المتنفذ لدى منظمة حزب الله. بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان توثقت العلاقة بين سليمان وحزب الله. وجمع في يده مسؤولية نقل السلاح إلى المنظمة مع التشديد على الصواريخ بعيدة المدى. واحدا من تلك الصواريخ التي أطلقت في حرب لبنان الثانية أصاب كراج القطار في حيفا وقتل ثمانية من العاملين الذين كانوا في المكان. ومؤخرا نقل سليمان إلى حزب الله صواريخ مضادة للطائرات من إنتاج سوري، الأمر الذي هدد السيطرة الإسرائيلية الجوية في سماء لبنان.
ولكن إضافة إلى كل هذا كان له دور مميز: فقد كان عضوا في اللجنة السورية للبحوث، والتي انشغلت في تطوير الصواريخ، في تطوير السلاح الكيماوي والبيولوجي وفي البحث والتطوير النووي. بحكم منصبه هذا، كان رجل الارتباط مع كوريا الشمالية، قرر ونسق قتل أجزاء المفاعل إلى سوريا وكذا كان مسئولاً عن الترتيبات الأمنية للعلماء والفنيين الكوريين الشماليين الذين اشتغلوا على إقامة المفاعل.
المهمة الصعبة
قصف المفاعل السوري كان بالنسبة له ضربة شديدة ولكن ليست قاضية، بعد أن تغلب على الصدمة الأولية، بدأ يخطط لبناء مفاعل بديل، لم يتقرر موقعه بعد. وكانت مهمة سليمان أصعب بكثير واخطر هذه المرة، وذلك لأنه عرف بأنه يوجد على بؤرة استهداف أجهزة الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية.
وتمهيداً للمرحلة التالية في نشاطه السري، أخذ سليمان إجازة لعدة أيام، وسافر إلى منزله الصيفي في الرمال الذهبية. قضاء الوقت ووجبة طيبة مع الأصدقاء كان علاجا مؤكدا للتوتر الذي كان يعيشه.
من مكان جلوسه إلى الطاولة نظر سليمان إلى الأمواج التي تدرجت بكسل نحو الشاطئ. ولكنه لم يرَ، على مسافة نحو 150 مترا من الشرفة، شخصين انتظرا دون حراك داخل المياه السوداء. فقد وصلا إلى هنا من مسافة بعيدة، عبر البحر، من خلال سفينة أنزلتهما على مسافة نحو كيلو مترين من منزل سليمان. من هناك شقا طريقهما غوصا إلى أن اقتربا من المنزل. وكان الرجلان قناصين محترفين، ذوي تجربة غنية ورباطة جأش نادرة. وقد حملا معهما سلاحهما بجعب لا تنفذها الماء. وعند وصولهما إلى الشاطئ وجدا على الفور منزل سليمان. المعلومات الاستخبارية التي تلقياها من وكالة الاستخبارات لبلدهما كانت دقيقة. وقد شخصا المبنى والشرفة، استعرضا الجالسين على الطاولة، وركزا على هدفهما: الجنرال، الذي جلس حيالهما، بين ضيوفه.
الرصاصة القاتلة
عند الساعة التاسعة مساء عاد القناصان وفحصا التصويب والمسافة. شاهدا سليمان، الذي جلس على كرسيه في وسط الطاولة وحوله أصدقاؤه. كانت الطاولة مكتظة، الأمر الذي ألزم القناصين بتأكيد التصويب والتركيز على رأس صاحب البيت. وواصلا الاختباء في الماء.
وعندها أعطيت الإشارة. فقد خرج الرجلان من الماء إلى الشاطئ، اقتربا قليلا من المنزل، وجها بندقيتيهما وأطلقا النار دفعة واحدة على سليمان. وكانت الإصابة فتاكة. رأسه أطيح به بداية إلى الخلف وبعد ذلك انهار إلى الأمام على الطاولة. المتواجدون لم يفهموا بعد ماذا حصل، إذ لم يسمعوا شيئا. فبندقيتا القناصين كانتا مزودتين بكاتمين للصوت. وفقط عندما لاحظ الضيوف الدم الذي ينزف من رأس سليمان فهموا أنه أصيب بالنار. ونشبت على الشرفة جلبة، أتاحت للقناصين الانصراف من المكان في طريق الفرار الذي خطط لهما مسبقا.
ونشرت "الصاندي تايمز" البريطانية رواية مختلفة قليلا، بموجبها كان القناصان من رجال الوحدة البحرية 13، وصلا إلى طرطوس على متن يخت فاخر يعود لرجل أعمال إسرائيلي، نفذا مهمتهما واختفيا.
في المؤسسات الرسمية السورية سادت صدمة مطلقة. الحكومة حافظت بداية على الصمت ولم تتطرق على الإطلاق للتقارير عن التصفية. وكان الحرج في دمشق كبيرا. كيف وصل رجال الفريق التنفيذي إلى شمالي سوريا، إلى طرطوس، التي تبعد نحو 220 كيلو متر عن دمشق؟ وكيف فروا من هناك؟ أولم يتبقى أي مكان آخر في كل سوريا يمكن لرؤساء النظام ان يشعروا فيه بأمان؟
فقط بعد عدة أيام نشر بيان جاء فيه أن "سوريا تجري تحقيقا للعثور على المسئولين عن الجريمة". ولكن الصحافة العربية تحدثت عن القضية بتوسع كبير منذ اليوم الأول، وطرحت تقديرات وتحليلات عن هوية المنفذين. وركزت الصحف على من لديه مصلحة في تصفية الجنرال، وبالطبع، سارعت إلى توجيه إصبع الاتهام نحو إسرائيل. فقد ادعت بان إسرائيل نفذت التصفية بسبب دور سليمان في اقامة المفاعل في دير الزور.
وبينما نسجت وسائل الاعلام العربية العناوين الرئيسة وأطلقت أبواق التمجيد للجنرال سليمان، كان رد أجهزة الاستخبارات الغربية مغايرا على نحو جوهري. في عواصم العالم الحر لم يذرف أحد دمعة على موت الجنرال قبل الأوان.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر