تقع قرية أرطاس، جنوبي بيت لحم، وتبعد عنها أقل من مسافة كيلو متر واحد، وتنتشر مساكنها على الجانب الشمالي لوادي خصب، يروى من عين القرية الشهيرة، وعيون أخرى، وهو أحد أودية الهضبة الكنعانية الوسطى الواقعة غرب البحر الميت، وشرق السهل الساحلي للبحر الأبيض المتوسط.
وهذه القرية الكنعانية القديمة، كانت بسبب موقعها، موعودة بالدماء والحزن والمجد، وتعرض أهلها لـ "سبع ذبحات" على أيدي الغزاة، وقبائل وسكان بلدات فلسطينية، وهام بها عدد من بحاثة الفرنجة حبا، وكتبوا فيها القصائد وسطروا الكتب.
بقايا القنوات التي تحمل المياه إلى القدس
وكل ذلك بسب "عبقرية المكان"، الذي وجدت أرطاس نفسها فيه، والتي كانت حتى وقت قريب تسيطر على قنوات المياه التي تزود القدس بالمياه، ومن كان يفكر باحتلال القدس، عليه أولا أن يعرف كيف يسيطر على هذه القرية الصغيرة.
ومن الواضح أن اختيار سكان أرطاس، لموقع قريتهم لم يكن اعتباطا، ففيها كل الركائز الأساسية للقرى الكنعانية، مثل توفر العامل الدفاعي الأمني للصمود أمام بطش أي غاز مسلح، وكذلك العامل الاقتصادي، وكثرة الينابيع فيها جعلت من واديها، جنة خضراء.
ومن مميزات موقعها، وقوعها على الطريق الجبلي الذي يربط بين جنوبي فلسطين وشمالها، من غزة إلى القدس، مرورا بأرطاس.
وأرطاس، كلمة يونانية تعني "الجنة المقفلة"، وذكر المستشرق فيليب بالدنسبيرجر الذي سكن القرية عام 1850م، في بيت بناه له ولأسرته، بأن القرية عرفت خلال الاحتلال الصليبي (1099-1187) بالجنة المقفلة.
وارتبطت أرطاس، بما يعرف باسم برك سليمان، وهي ثلاث برك ضخمة، بنى اثنتين منهما الملك هيرودس قبل أكثر من ألفي عام، أما البركة الثالثة فبنيت في زمن المماليك المتأخر، وكانت وظيفة هذه البرك الضخمة تجميع المياه فيها، لإسالتها، عبر القنوات إلى القدس.
وعرفت هذه البرك، لدى المؤرخين الإسلاميين باسم برك المرجيع، وفي تفسير ذلك، ذكر مجير الدين الحنبلي صاحب (الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل)، إنه عندما فقد إخوة النبي يوسف عليه السلام، أخاهم، وجدوه عند البرك وأرجعوه فسميت ببرك المرجيع.
وارتبطت أرطاس بنهضة الحكم الروماني في فلسطين، ففي عام 35 قبل الميلاد، بنى الحاكم الروماني بيلاطس، قناة حجرية وأسال فيها المياه من برك سليمان، حتى القدس، أما هيرودس فبنى في وادي أرطاس حدائق، وحمامات، وقصورا، وأقنية، وما زالت بقايا القناة التي تنقل المياه من عين أرطاس، إلى قلعة هيروديوم، تظهر في عدة أماكن، ويبلغ طولها أكثر من 8 كلم.
وبنى الإمبراطور الروماني سيفيريوس (193-211م) قناة أخرى لنقل المياه إلى القدس، من وادي البيار، جنوبي أرطاس، إلى برك سليمان، ومنها إلى القدس.
وعرفت أرطاس، الإسلام، منذ دخلت الجيوش الإسلامية فلسطين عام 637م، تحت إمرة عمرو بن العاص، وتشير بعض المصادر إنه بنى أول مسجد في القرية، وهو المسجد الذي عرف باسم مسجد عمر، تيمنا باسم الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي تسلم مفاتيح القدس سلما في العام التالي.
ولكن من الصعب إثبات السنة التي بني فيها المسجد أبدا، لأنه ما يظهر الآن مسجدا حديثا أقيم على أنقاض مسجد قديم تم هدمه، ولم يبق منه ما يمكن أن يؤكد تاريخ بنائه، وعلى جداره الشرقي يوجد نقش مثير يعود إلى عام 1706م يشير إلى طاحونة غلال أنشئت زمن الملك الصالح، ونقل النقش في وقت ما إلى مكانه الآن.
وترتبط أسماء كثير من المواقع في أرطاس، بأسماء القبائل العربية، المرتبطة بالهجرة من بلاد نجد، عندما حل القحط بها، إلى بلاد الشام وشمال أفريقيا، وما تزال بعض جبال وشعاب ومغر أرطاس تعرف بأسماء قادة القبائل التي وصلتها وسكنتها أو مرت بها، مثل (قرنة ذياب)، و(جبل أبو زيد)، و(شعب حسنات)، و(شعب أبو زيد)، و(شعب سلطان)، و(شعب سلمان)، و(مغارة خالد)، وهي أسماء تطلق لغاية اليوم على هذه الأماكن وتعرف بها، ومعظم هذه الأسماء ترجع إلى قادة قبيلة بني هلال، الذي من المحتمل أنهم مروا أو سكنوا القرية فترة من الزمن.
وفي فترة الحكم الإسلامي لفلسطين، لعبت مياه أرطاس دورا هاما، ويمكن هنا الإشارة إلى ما كتبه السيد بوذري، مدير مصلحة المياه في حكومة الانتداب، في تقرير عام 1938 "إن مشروع الماء في عهد المسلمين كان متقنا إلى درجة أن الصليبيين عندما حاصروا القدس، قاسوا أشد العذاب من جراء العطش وقلة الماء، بينما كان سكان القدس أنفسهم في مأمن من هذه الناحية، وكانت لديهم في المدينة مقادير وافرة من المياه، وقد أعار المسلمون المسألة جل اهتمامهم، فعمروا القنوات وأولوها أهمية خاصة، وحيث كان لمياه أرطاس وبرك سليمان أهمية كبيرة في تزويد مدينة القدس بالمياه، لذا كان لأهل أرطاس دورا كبيرا في حماية المياه والقنوات التي توصلها إلى القدس".
درج حفر في الصخر يشهد على عراقة أرطاس
واستدار الصليبيون، واحتلوا القرية، واستولوا على قنوات المياه، وبقوا فيها سنوات طويلة، حتى هزم القائد صلاح الدين الأيوبي، آخر ملوك الصليبيين واستطاع السيطرة على أرطاس، من أجل حماية مصادر المياه الموجودة فيها، ودفع سكان القرية ثمن احتلالها من قبل الصليبيين، وتحريرها منهم.
وتشير التقاليد المتبعة في أرطاس، إنه وفي الماضي البعيد، اعتاد فلاحو القرية حماية القنوات ومصادر المياه التي تضخ إلى القدس، مقابل إعفائهم من دفع الضرائب، وامتيازات أخرى وصلت لحد تكليفهم جباية الضرائب من القرى والمناطق التي حولها، وكانت أرطاس تعرف حينها براس العرقوب، وهي مجموعة من القرى تضم 24 قرية.
ويوجد ما يؤكد بان أرطاس، وصلت أوج قوتها في عهد سلاطين المماليك (1187-1517م)، حيث أصبحت تشكل مركزا تجاريا وقضائيا، وانتشرت فيها طواحين الغلال التي كانت تعمل بقوة مياه أرطاس، ويوجد من هذه الفترة بقايا لقاعة محكمة وسجن معروف الآن باسم (الحبس) ولكن أصحاب الأرض التي يقع فيها هذا السجن أغلقوه وشيدوا منازلا حديثة بجانبه، بينما شارع القرية الرئيس يمر فوقه.
خلال هذه الفترة اطلع زعماء أرطاس بدور من يقيمون العدل في القرى التابعة لهم، ولكن لا يعرف إلى أي مدى يمكن اختبار عدلهم، خصوصا وأن القرية تعرضت لمذبحة، من قبل أهالي القرى الأخرى، خلال هذه الفترة، التي شهدت أيضا ترميم وبناء القنوات المائية التي تزود المياه بالقدس، على يد بعض السلاطين مثل (الظاهر خوشقدم)، و(الظاهر بلباي)، و(الظاهر تمريغا).
وعندما استطاع العثمانيون السيطرة على جند فلسطين، اهتموا مثل من سبقهم بأرطاس، فرمم السلطان سليمان القانوني برك سليمان الثلاث، وعمر قنوات المياه وحافظ عليها.
وعندما اختل الأمن، في فترة لاحقة، نتيجة للظلم والفقر، انتشر الأشقياء وقطاع الطرق الذين خربوا الينابيع ومجاري المياه، فذاق أهل القدس الأمرين، مما حدا بالسلطان العثماني مراد الرابع، لبناء قلعة عرفت باسمه لحماية البرك والقنوات، وأنشأ داخلها مسجدا وخمسين غرفة ليسكنها الجنود الذين سيروا الدوريات لمنع قطاع الطريق من الاعتداء على القنوات التي يسيل فيها الماء نحو المدينة المقدسة.
وفي هذه الفترة ما بين (1750-1834م) تعرض أهل أرطاس لمذابح مختلفة، اضطروا على أثرها لترك القرية، والأسباب مختلفة منها ما يتعلق بدورهم في جمع الضرائب، أو احتلال القرية من قبل الغزاة، ولتورط السكان في الصراع التقليدي قيس ويمن، وإذا كانت بعض هذه المذابح التي يقول السكان أن عددها سبعة، لا تتوفر معلومات دقيقة عنها، وتختلط المرويات عنها بالحقائق والأساطير المحلية، إلا أنه يمكن الإشارة بكثير من الثقة إلى آخر مذبحة حدثت في القرية، على يد إبراهيم باشا، ابن والي مصر الطموح محمد علي، حيث دمر إبراهيم باشا بيوت القرية، وجعلها حطاما بعد مقتل وجرح 800 ضابط وجندي من قواته على أيدي الثوار، عندما كانوا يستريحون ويسقون خيولهم من عين أرطاس، وفي مثل هذه الحالات من عدم الاستقرار كان السكان يلجئون إلى القرى المجاورة وكهوف الجبال، وقلعة مراد.
وفي أثناء الحكم العثماني المتأخر، عام 1901م، استبدلت قناة المياه الفخارية التي مدها العثمانيون من برك سليمان إلى القدس، بقناة معدنية، بإشراف مهندس يوناني يدعى افرنقاه، والتي ظلت تزود القدس بالمياه حتى عام 1948، ووقوع النكبة الفلسطينية.
وعندما احتل البريطانيون فلسطين، رابطت القوات البريطانية في قلعة مراد، وشرعت في بناء محطة فوق مجرى عين أرطاس، وأنهت العمل عام 1922، لتبدأ ضخ المياه إلى القدس، غير آبهين بأرزاق السكان، ولم يتركوا لهم مياها للشرب، أو للزراعة، أو للاستخدامات المنزلية المختلفة.
ووجد السكان طريقة، لرفع دعوى ضد حكومة الانتداب ووكلوا في قضيتهم أربعة محامين فلسطينيين، الذين كلفوا المحامي البريطاني المقيم في لندن السير ولسون، فكسب الدعوى عن طريق حيلة، حيث ذهب إلى أحد أصدقائه وطلب منه أن يذهب يوم النظر في الدعوى إلى المحكمة ويطلب تطبيق القانون على المحامي مدعيا بأنه اغتصب زوجته منه، ويطالب بإعادتها إليه, ففعل هذا الصديق ذلك، فأمر القاضي بتطبيق العدالة ضد المحامي وإعادة الزوجة إلى زوجها، وعندها وقف المحامي صارخا: كيف لكم وأنتم تغتصبون مياه سكان أرطاس، أن تطالبوا بإعادة زوجة هذا الشخص إليه؟ وكسب المحامي القضية لصالح سكان أرطاس.
بقايا منزل قديم في أرطاس
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر