الكاتب: عصري فياض
بعد أن رحل مرغما مع أهل قريته "الِغْبَيَّاتْ" الوديعة قضاء حيفا، حطت به النكبة في منطقة موحشة تسمى "السْرٍوج ْ"ا تقع غرب مدينة جنين، فوضع أطفاله على الصخر وظللهم بخيمة من الخيش الخشن،وأخذ يبحث لهم عن طعام يسد الرمق، ذهب إلى السهل المقابل يلملم سنابل القمح المتبقية بعد الحصاد، حصل على حفنة من دقيق، أوقد النار، ووضع العجين البدائي على الصفيحة الصدئة، واخذ ينفخ زفرات قلبه المكلوم،ويعاتب دمعات عينه التي تتساقط على الجمر ،فتخرج صوتا يذكره بصوت انسكاب بعض قطرات القهوة المرة على جمرات الكانون....، انضج بعض الخبر الممزوج بالقشور والقش،وقدمه لأطفاله........... وقال يا الله...........
مرت سنوات، وبقي مكانه، جاء يوم العيد، قالت له زوجته، ابنك يريد حذاء لقدمه، لم يرتدي حذاء منذ أشهر،قال لها ومن أين لي بثمن الحذاء؟؟
قالت : هاك وعاء من سمن بعه أو أبدله واشتري لابنك الحذاء.
قال : وكيف لي أن أصل إلى المدينة
قالت : اذهب على الحمار إلى بلدة يعبد، سمعت أن بعض التجار يقاضيون السمن بغيره
ركب حماره ووضع صغيره أمامه وانطلق، وبين الجبال والوديان مر على حاجز للجيش العربي وقف عليه ثلاثة من النشامى، استوقفوه، وسألوه
إلى أين أنت ذاهب ؟
قال إلى يعبد
قالوا : لماذا ؟
قال لابيع أو أقايض هذا السمن بحذاء لطفلي يلبسه في العيد
قالوا : أرنا ما لديك
فكر مليا........ وشك أنهم قد يلجأون لمصادرة السمن وقال : قلت لكم بعض السمن....
استشاط احدهم غضبا مصطنعا وقال بصوت عال: لماذا لا تأمنا على سمنك يا هذا؟؟
قال: هكذا علمتني الأيام والتجارب...
فقال له العسكري: لن تبرح هذا المكان حتى ترينا الوعاء..
واخذ يجادلهم لبعض الوقت ، حتى ملوا من تمثيل هذا الفصل من التسلية الثقلية وسمحوا له بالذهاب الى سبيله، فوصل يعبد وقد انتصف النهار وقايض السمن بالحذاء، وتنهد وهو يرى الفرحة على وجه طفله الذي لبس حذاء بعد أشهر من الانتظار وعاد للسروج قبل أن يحل الظلام.
************
فاطمة طفلته الرابعة التي ولدت قبل شهور، أصابتها الحمى ، ضنوا أنها موجة مرض عابرة، فالمرض هنا ضيف مقيم ، قلما يغادر على محمل الشفاء، وكثيرا ما يحصد الأجساد الطرية،فاطمة ذات الشعر الأسود الطويل، والبشرة البيضاء والعينان السوداوان ذبلت في اليوم الليلة الثالثة لمرضها ، ونال منها الوهن... صرخت الأم تنادي زوجها
ابنتي
هرول الوالد من خارج الخيمة ........ حدق في عني فاطمة..... التي أمسكت بتلابيب أبيها وهي تسلم الروح........ فمزق صمت الليل البكاء المر الذي دوى صداه في عمق الوادي،في الصباح جاءوا بها الى المدفن أسفل التل....... لم يجد والدها ما يكفنها فيه........ فتذكر أن زوجته قد قدت كوفيتها البيضاء نصفين نصف يلف جسد فاطمة والنصف الأخر يغطي الرأس المخزون بالحزن والبؤس.
****************
بعد أن أنهى نقل حمولة من الخضار على جمليه اللذان كانا وسيلة عيشه، تفقد شطر خرج حمار الصبور، فلم يجد الا نصف رغيف من الخبر، نظر حوله فرأى نبات الصبار وقد أينع، عرج عليه وترجل عن حماره المتعب، وحاول التقاط كوزا من الصبار يجعله شريكا لقطعة الخبر في سد رمقه......... جاءه الصوت المولول من التلة المجاورة ... سلسلة من الشتائم والتهديد... لم يأبه لهم رغم أنهم كثر عجل في قزع حبات الصبار، مرغها بالارض ليقضي على الشوك فيها وأسرع في فتح بعضها على عجل، خبأ بعض ما استطاع منها في قطعة الخبر، وركب الحمار قبل أن يدركه القوم، وقاد حمارة وجمليه على عجل مسرعا........
**********
الاحتلال لما تبقى من الوطن ، دفع بنجليه اللذان كبرا أن ينضما الى صفوف الثائرين،فجمعوا، وصنعوا، ونقلوا وخططوا، وحازوا واتصلوا، ثم اعتقلوا، وكان العقاب قاسيا السجن لسنوات، ثم نسف المنزل بالكامل، فعاد الى الخيام، وتذكر ما مضى وإنا له أن ينساه، عندما جاء الجيش لنسف المنزل، كان يعمل في مستنب زراعي، فعاد على عجل، وصل الحي الذي كان يسكن فيه،فأبلغه أهل الحي، تقدم رأى أثاث بيته في الطرقات، وأطفاله على حافة الطريق، أرد أن يصرخ .... لكن دوي الانفجار سبقه، وشاهد السقف الاسمنتي يتطاير في الهواء ... بلع دخان أحزانه، وصمت........ فالصمت كبرياء........
*********************
كانت الانتفاضة الأولى والثانية، وكان الاجتياح،وبعد أن ابعد نجليه الى الأردن، وكبر من كانوا صغارا، نالهم من الاعتقال والتعسف ما نال، انبرى لمتابعة الأخبار وتلاوة القران ، والتدقيق في الكواشين لمئة وتسع وسبعون دونما التي لا يزال يحتفظ بها وهي عبارة عن ميراثه وميراث إخوته وزوجته، واعتقلا نجليه الأصغر، واضحي وحيدا دون أولاد حوله،وقد أدرك الثانية والثمانين، وباغته مرض الموت، كانت آخر لحظاته التي وعاها عندما دس الكواشين المجلتنه في المصحف، وكأنه يوصي بشيء عظيم ،مستعيدا شريط ذكرياته الأليمة مع التهجير والمعاناة، تذكر اللحظات الأولى للخروج، تذكر السروج، تذكر سنابل القمح والشعير، تذكر انية السمنة وحذاء طفله، تذكر فاطمة، تذكر رحلاته على الجملين .. تذكر البيت المتطاير في الهواء... تذكر هدم المخيم وسحق عظام المقهورين...قال لزوجته وهو يلفظ انفاسه الأخيرة..
الكواشين في المصحف.....
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر