عزمي بشارة
مائة عام من الصهيونية، من جدلية الوجود إلى جدلية الجوهر
على هامش الصراع في أوروبا بين نفي التنوير في الرومانسية، أو للدقة، نفي التنوير الرومانسي، وفي سياق الصراع بين قومية التنوير أو جزئيته، وكونيته، نشأت الصهيونية كردّة فعل على ردّة فعل المركز-أوروبية والشرق-أوروبية على التنوير في الدول التي تلكأ (التنوير) في الوصول إليها، ليصلها منهكًا مضرّجًا بجراح الثورة الفرنسية والاحتلالات النابوليونية وردّة الفعل الاشتراكية على ضراوة الحداثة المبكرة التي ارتبط بها. ولأن الصهيونية ردّة فعل على ردّة الفعل على التنوير، فقد جاءت رومانسية أوروبية تحل بعض عناصرها العقلانية. وبين قومية التنوير الرومانسي البالغ وكونية التنوير الشاب جاءت الصهيونية لبتبني، نظريًا، قومية كونية.
أفرزت الحداثة الشابة بصراعاتها المذكورة عداءً حديثًا للساميّة يستثمر تراث العداء الديني القديم للساميّة، ولكنه يختلف عنه جوهريًا. فاليهودية الاوروبية تشكل بنظر التنوير عائقاً أمام الاندماج في العقد الاجتماعي الواحد بين الأفراد، وبنظر الرومانسية عائق بل نقيض لتبلور الأمّة وعضويتها بطرحها لخيار اللا/أمّة.
والصهيونية محاولة لحلّ هذا الصراع بدمج الأفراد اليهود الأوروبيين في عقد اجتماعي وطرح اليهودية كأمّة لليهود فقط. إنها محاولة لتجاوز العداء للساميّة وليس لموجهته، ولذلك لم تضع نُصب أعينها تغيير المعادين للساميّة، بل تغيير اليهود وتحويلهم من طائفة دينية إلى قومية، ومن جماعة مقدّسة إلى أمّة حديثة.
تنطلق الصهيونية إذن من تذويت internalization صورة اليهودي في أوروبا القرن التاسع عشر، ومن تبنّي الموقف المعادي للساميّة لتصبح المهّمة تغيير الواقع اليهودي الذي تكونت عنه مثل تلك الصورة، وليس الواقع الأوروبي الذي أنتجها.
فما هو طبيعي من زاوية الفكرة الصهيونية الأولى هو الأمم الأوروبية، وما هو غير طبيعي هو أوضاع اليهود التي تؤدّي لا محالة إلى إنتاج مرض العداء للساميّة الذي يتخذ عوارض مختلفة عبر التاريخ ولكنه يبقى ذاته: فيروس العداء لليهود المستعصي علاجه.
صراع الصهيونية مع أوروبا صراع خارجي لا تناقض فيه، فهي تدير ظهرها لأوروبا ليكون بإمكانها أن تمثل أوروبا أمام الشرق. فخارج أوروبا تسنح لها الفرصة التي طالما تاقت إليها بأن تصبح أوروبية.
تتجلى حالة المنفى اليهودية نقيضًا مباشرًا للفكرة الصهيونية في وجودها المجرّد كفكرة. وحالة المنفى مستقطَبة بين طائفة دينية مقدّسة وبين تحلّل وذوبان علمانيين في القوميات الأوروبية القائمة والحركات الراديكالية الاشتراكية والفوضوية المعارضة للرأسمالية المنظمة في دول قومية. والصهيونية إذ تنفي حالة الطائفة الدينية تجد نفسها تنفي علمانية الأفراد اليهود الذين تقودهم العلمانية إلى الاندماج. الصهيونية إذًا نفي للعلمانية والتديّن في آن معًا. ولأنها تنفي النقيضين فإن فكرتها المجردة تحمل في ذاتها تناقضًا:: عندما تنفي العلمانية تكون دينًا أو طائفة، وعندما تنفي التديّن تكون علمانية. إنها دين علماني، أو علمانية دينية.
ولأن الفكرة الصهيونية تقف بوعي تام على قاعدة الهُويات اليهودية التي سيُعاد إنتاجها كهُوية يهودية واحدة تتجاوز الدين، يكون تناقضها الأول، على مستوى الطوائف الدينية المنظمة، تناقضًا وجوديًا. ففي نفي هذه الحالة الأخيرة تتميز الصهيونية كحركة قومية.
ولكن الوجود المجرد للفكرة لا يعي ذاته، وبالتالي لا تدري الفكرة أن نفيها للطائفة اليهودية يتمّ بتأكيد حدودها، فهو يشترك معها في معارضة الاندماج، ويعيد صياغتها على أساس حدودها الطائفية بلغة قومية علمانية.
الصهيونية في مرحلتها المجرّدة تيار في اليهودية يدعو إلى إعادة صياغة اليهودية. وعندما تنتصر الصهيونية ستصبح اليهودية تيارًا في الصهيونية.
ولكي تتحول اليهودية إلى أمّة تحتاج الفكرة إلى دولة. وخلافاً للاعتقاد السائد، لا تنشأ الصهيونية (كحركة قومية) من وجود الأمّة اليهودية، ولا حتى من الاعتقاد بوجودها، بل من الإيمان الراسخ لدى مثقفي الطبقة الوسطى الذين اكتشفوا يهوديتهم - إبان موجات العداء للسامية في أزمات الحداثة الأولى – بالحاجة تحويل اليهود إلى "أمّة كباقي الأمم". وذلك بأن تسنح لهم الفرصة وينالوا حق فلاحة الأرض وحمل السلاح.
اعتقد بعض ممثلي الفكرة الأوائل أن الأمّة ممكنة دون دولة، وذلك بتشييد صَرح أمّة يهودية ثقافية في مستوطنات زراعية في فلسطين. ولكن، كما في الفكر الأوروبي بشكل عام كذلك في الصهيونية، ارتبطت فكرة الأمّة في النهاية بفكرة السيادة في دولة.
لم ينهمك مفكرو الصهيونية بالبحث عن إثباتات نظرية لقومية اليهود، بل انطلقوا مباشرة لبناء الأمّة اليهودية في الممارسة وطرحوا برنامج الدولة. الدولة تثبّت الأمّة والحركة من أجل الدولة تباشر صنعها.
دولة علمانية تؤوي طائفة دينية وتعيد صياغتها، ودولة أوروبية خارج أوروبا
لا بدّ من أن تكون الأرثوذكسية اليهودية في هذه المرحلة نقيض الصهيونية. ولذلك أيضًا لا بد أن تكون الصهيونية حركة أقلية داخل جماعات دينية الحدود والصياغة. نقيضها الآخر هو ردّة الفعل المعاصرة لها على وحشية الرأسمالية المبكرة: ردة الفعل كما تمثلت في الاشتراكية والشيوعية الأوروبية.
الصراع الأول يدور في حلبة اليهودية مع المؤسسة الدينية اليهودية التي تهدّد الصهيونية عالمَها الأقلّياتي الديني بأسره، كما تقوّض هيمنتها الثقافية كطائفة مقدّسة لا ترى الخلاص في التاريخ بل في حدث إعجازيّ خارج التاريخ تتدخل فيه الألوهية بحلول المخلَص المنتظَر. اليهودية حالة انتظار في المنفى وليس حالة خلاصـ والعودة لا تكون إلى دولة علمانية بل إلى دولة المسيح، وإلى قدس سماويّة لا إلى قدس أرضية.
ويدور الصراع الثاني أيضًا بين فكرتي خلاص. ولكن الفكرتين تبحثان عن الخلاص في التاريخ وليس خارجه. الأولى تُموضع خلاص اليهود في خلاص البشرية بأجمعها (ماركس: يخلص اليهود عندما تتخلص البشرية من يهوديتها، والمقصود من رأس المال). أما الفكرة الثانية فتبحث عن خلاص اليهود بتخليصهم من المنفى. الفكرتان تصوغان برنامجًا عقلانيًا وأدوات تنظيمية عقلانية – ولكن كلاً منهما تحمل في داخلها بذور تحوّلها إلى دين. الواحدة بخلطها أحكام العقل والأخلاق والعلم واليوتوبيا في نظرية واحدة مادّية تاريخية، والثانية بخلطها بين الطائفة الدينية والأمّة الحديثة. الشيوعية والصهيونية فكرتان كُتبتا بالألمانية ونُفّذتا بالروسيّة
الدولة اليهودية، فكريًا، هي دولة هرتسل الصهيوني المجرّد من اللغة الدينية والرموز والأساطير الدينية. هرتسل أوروبي راسخ الاعتقاد: أن نجاح المشروع الصهيوني مرتبط باستيعابه ضمن مشروع كولونيالي أوروبي. وهو يريد أن يكون كولونياليًا، لأن الكولونيالية قمّة النشاط العمراني الأوروبي. هرتسل يمثل فكرة الدولة المجردة، ورغم التجريد وسذاجة الطرح نكتشف في دولته "آلت نويْ لاند" عربيًا اسمه مصطفى. ومصطفى هذا سعيد جدًا بالآفاق التي تفتحها أمامه الكولونيالية اليهودية. إنه يستقبل بترحاب الرسالة التمدينية للاستعمار. هرتسل هو أيضًا كولونيالي أوروبي في نظرته إلى السكان الأصليين.
لم تكن دولة ثيودور هرتسل ودولة ليو بنسكر بالضرورة، أي بالفكرة المجردة، في فلسطين. ومن سخريات التاريخ أن تنتهي الدولة المجردة ويبدأ التنفيذ فعلاً بوفاة هرتسل مع حسم النقاش في المؤتمر الصهيوني العالمي حول أوغندا (1904).
الدولة إذن ليست دولة استيطانية مجرّدة، والنشاط لإقامتها ليس نشاطاً كولونياليًا اعتياديًا. العنوان هو فلسطين، والفكرة الصهيونية ترفض أن تتجسّد كنشاط كولونيالي. ويباشر المنفذون استحضارَ أدوات وعي مشروعهم الذاتي كعملية تحرير وليس كعملية استعمار: الحق التاريخي، إعدة صياغة تاريخ اليهود كتاريخ قومي منذ بدء الهيكل الأول، إقامة دولة اليهود كإعادة بناء لدولة اليهود، جمع الشتات.
القفزة التي تقوم بها الفكرة الصهيونية على ألفَي عام من المنفى إلى النص التوراتي المكتوب تكاد تكون في مرحلة الفكرة قفزة بروتستانتية (موزس هس). ولكنها تصبح في مرحلة وجود الصهيونية المتعيّن نفيًا لألفَي عام من تاريخ فلسطين: التاريخ العربي الإسلامي، الأمّة العربية الآخذة في التبلور، الشعب الفلسطيني. كلّها تُختزَل إلى طارئ على تاريخ هذه البلاد الحقيقي الوحيد كتاريخ يهودي متواصل ولو كان من دون يهود. براغماتية الحركة الصهيونية تُنتج وتستخدم أدوات غيبية.
لا تدرك الهجرة الصهيونية الأولى هذا التحول عن الفكرة إلى التنفيذ. فهي تبدو نشاطًا استيطانيًا كولونياليًا أوروبيًا دون مشروع سياسي كما كان الحال في نيوزيلاندا وأستراليا وغيرها، كما تذكّر بأفكار جمعيّة أوروبية (كومونة) ترافقها رومانسية الالتصاق بالأرض وتحويل اليهودي إلى فلاّح. في الهجرة الأولى يتحوّل اليهودي إلى أوروبي خارج أوروبا. أما الدولة فما زالت هنا موضوع الفكرة وليس موضوع النشاط الاستيطاني أو التنفيذ، وأمّا التميّز فيكون عن السكان الأصليين البدائيين وعن البرجوازية الأوروبية المنحلّة. والمستوطنون يبحثون عن خلاصهم الذاتيّ ولا عن خلاص لبقيّة الأمّة. إنهم بفهمهم الذاتيّ ليسوا حركة قومية ولا يمثلون شعبًا. ولكن مصطلحات جديدة لم تكن قائمة في قاموس هرتسل تطفو على سطح اللغة في الهجرة الأولى: العودة، الخلاص، تجديد أيامنا السالفة.
الهجرة الثانية صهيونية الوعي وليس الممارسة فحسب. وهي تكتشف نقيضها الأهم في الواقع الذي ما يلبث أن يتحول إلى نقيضها الأهمّ بالفكر، ملوّنًا كلّ شيء بلونه: العربي الموجود على الأرض والذي بدأ لتوّه يحوّل علاقته مع الأرض إلى علاقة قومية، مرّة عبر الأمّة العربية ومرّة عبر الشعب الفلسطيني. لم يكن وعد بلفور قد صدر بعد، ولم تَرْقَ الصهيونية إلى درجة النقيض الوجودي في نظر العربي، يُستثنى من ذلك المثقفون القلائل الذين عاشوا أو درسوا في أوروبا وتعرّفوا على أفكار الصهيونية عبر نصوصها.
أفرزت الحداثة الشابة بصراعاتها المذكورة عداءً حديثًا للساميّة يستثمر تراث العداء الديني القديم للساميّة، ولكنه يختلف عنه جوهريًا. فاليهودية الاوروبية تشكل بنظر التنوير عائقاً أمام الاندماج في العقد الاجتماعي الواحد بين الأفراد، وبنظر الرومانسية عائق بل نقيض لتبلور الأمّة وعضويتها بطرحها لخيار اللا/أمّة.
والصهيونية محاولة لحلّ هذا الصراع بدمج الأفراد اليهود الأوروبيين في عقد اجتماعي وطرح اليهودية كأمّة لليهود فقط. إنها محاولة لتجاوز العداء للساميّة وليس لموجهته، ولذلك لم تضع نُصب أعينها تغيير المعادين للساميّة، بل تغيير اليهود وتحويلهم من طائفة دينية إلى قومية، ومن جماعة مقدّسة إلى أمّة حديثة.
تنطلق الصهيونية إذن من تذويت internalization صورة اليهودي في أوروبا القرن التاسع عشر، ومن تبنّي الموقف المعادي للساميّة لتصبح المهّمة تغيير الواقع اليهودي الذي تكونت عنه مثل تلك الصورة، وليس الواقع الأوروبي الذي أنتجها.
فما هو طبيعي من زاوية الفكرة الصهيونية الأولى هو الأمم الأوروبية، وما هو غير طبيعي هو أوضاع اليهود التي تؤدّي لا محالة إلى إنتاج مرض العداء للساميّة الذي يتخذ عوارض مختلفة عبر التاريخ ولكنه يبقى ذاته: فيروس العداء لليهود المستعصي علاجه.
صراع الصهيونية مع أوروبا صراع خارجي لا تناقض فيه، فهي تدير ظهرها لأوروبا ليكون بإمكانها أن تمثل أوروبا أمام الشرق. فخارج أوروبا تسنح لها الفرصة التي طالما تاقت إليها بأن تصبح أوروبية.
تتجلى حالة المنفى اليهودية نقيضًا مباشرًا للفكرة الصهيونية في وجودها المجرّد كفكرة. وحالة المنفى مستقطَبة بين طائفة دينية مقدّسة وبين تحلّل وذوبان علمانيين في القوميات الأوروبية القائمة والحركات الراديكالية الاشتراكية والفوضوية المعارضة للرأسمالية المنظمة في دول قومية. والصهيونية إذ تنفي حالة الطائفة الدينية تجد نفسها تنفي علمانية الأفراد اليهود الذين تقودهم العلمانية إلى الاندماج. الصهيونية إذًا نفي للعلمانية والتديّن في آن معًا. ولأنها تنفي النقيضين فإن فكرتها المجردة تحمل في ذاتها تناقضًا:: عندما تنفي العلمانية تكون دينًا أو طائفة، وعندما تنفي التديّن تكون علمانية. إنها دين علماني، أو علمانية دينية.
ولأن الفكرة الصهيونية تقف بوعي تام على قاعدة الهُويات اليهودية التي سيُعاد إنتاجها كهُوية يهودية واحدة تتجاوز الدين، يكون تناقضها الأول، على مستوى الطوائف الدينية المنظمة، تناقضًا وجوديًا. ففي نفي هذه الحالة الأخيرة تتميز الصهيونية كحركة قومية.
ولكن الوجود المجرد للفكرة لا يعي ذاته، وبالتالي لا تدري الفكرة أن نفيها للطائفة اليهودية يتمّ بتأكيد حدودها، فهو يشترك معها في معارضة الاندماج، ويعيد صياغتها على أساس حدودها الطائفية بلغة قومية علمانية.
الصهيونية في مرحلتها المجرّدة تيار في اليهودية يدعو إلى إعادة صياغة اليهودية. وعندما تنتصر الصهيونية ستصبح اليهودية تيارًا في الصهيونية.
ولكي تتحول اليهودية إلى أمّة تحتاج الفكرة إلى دولة. وخلافاً للاعتقاد السائد، لا تنشأ الصهيونية (كحركة قومية) من وجود الأمّة اليهودية، ولا حتى من الاعتقاد بوجودها، بل من الإيمان الراسخ لدى مثقفي الطبقة الوسطى الذين اكتشفوا يهوديتهم - إبان موجات العداء للسامية في أزمات الحداثة الأولى – بالحاجة تحويل اليهود إلى "أمّة كباقي الأمم". وذلك بأن تسنح لهم الفرصة وينالوا حق فلاحة الأرض وحمل السلاح.
اعتقد بعض ممثلي الفكرة الأوائل أن الأمّة ممكنة دون دولة، وذلك بتشييد صَرح أمّة يهودية ثقافية في مستوطنات زراعية في فلسطين. ولكن، كما في الفكر الأوروبي بشكل عام كذلك في الصهيونية، ارتبطت فكرة الأمّة في النهاية بفكرة السيادة في دولة.
لم ينهمك مفكرو الصهيونية بالبحث عن إثباتات نظرية لقومية اليهود، بل انطلقوا مباشرة لبناء الأمّة اليهودية في الممارسة وطرحوا برنامج الدولة. الدولة تثبّت الأمّة والحركة من أجل الدولة تباشر صنعها.
دولة علمانية تؤوي طائفة دينية وتعيد صياغتها، ودولة أوروبية خارج أوروبا
لا بدّ من أن تكون الأرثوذكسية اليهودية في هذه المرحلة نقيض الصهيونية. ولذلك أيضًا لا بد أن تكون الصهيونية حركة أقلية داخل جماعات دينية الحدود والصياغة. نقيضها الآخر هو ردّة الفعل المعاصرة لها على وحشية الرأسمالية المبكرة: ردة الفعل كما تمثلت في الاشتراكية والشيوعية الأوروبية.
الصراع الأول يدور في حلبة اليهودية مع المؤسسة الدينية اليهودية التي تهدّد الصهيونية عالمَها الأقلّياتي الديني بأسره، كما تقوّض هيمنتها الثقافية كطائفة مقدّسة لا ترى الخلاص في التاريخ بل في حدث إعجازيّ خارج التاريخ تتدخل فيه الألوهية بحلول المخلَص المنتظَر. اليهودية حالة انتظار في المنفى وليس حالة خلاصـ والعودة لا تكون إلى دولة علمانية بل إلى دولة المسيح، وإلى قدس سماويّة لا إلى قدس أرضية.
ويدور الصراع الثاني أيضًا بين فكرتي خلاص. ولكن الفكرتين تبحثان عن الخلاص في التاريخ وليس خارجه. الأولى تُموضع خلاص اليهود في خلاص البشرية بأجمعها (ماركس: يخلص اليهود عندما تتخلص البشرية من يهوديتها، والمقصود من رأس المال). أما الفكرة الثانية فتبحث عن خلاص اليهود بتخليصهم من المنفى. الفكرتان تصوغان برنامجًا عقلانيًا وأدوات تنظيمية عقلانية – ولكن كلاً منهما تحمل في داخلها بذور تحوّلها إلى دين. الواحدة بخلطها أحكام العقل والأخلاق والعلم واليوتوبيا في نظرية واحدة مادّية تاريخية، والثانية بخلطها بين الطائفة الدينية والأمّة الحديثة. الشيوعية والصهيونية فكرتان كُتبتا بالألمانية ونُفّذتا بالروسيّة
الدولة اليهودية، فكريًا، هي دولة هرتسل الصهيوني المجرّد من اللغة الدينية والرموز والأساطير الدينية. هرتسل أوروبي راسخ الاعتقاد: أن نجاح المشروع الصهيوني مرتبط باستيعابه ضمن مشروع كولونيالي أوروبي. وهو يريد أن يكون كولونياليًا، لأن الكولونيالية قمّة النشاط العمراني الأوروبي. هرتسل يمثل فكرة الدولة المجردة، ورغم التجريد وسذاجة الطرح نكتشف في دولته "آلت نويْ لاند" عربيًا اسمه مصطفى. ومصطفى هذا سعيد جدًا بالآفاق التي تفتحها أمامه الكولونيالية اليهودية. إنه يستقبل بترحاب الرسالة التمدينية للاستعمار. هرتسل هو أيضًا كولونيالي أوروبي في نظرته إلى السكان الأصليين.
لم تكن دولة ثيودور هرتسل ودولة ليو بنسكر بالضرورة، أي بالفكرة المجردة، في فلسطين. ومن سخريات التاريخ أن تنتهي الدولة المجردة ويبدأ التنفيذ فعلاً بوفاة هرتسل مع حسم النقاش في المؤتمر الصهيوني العالمي حول أوغندا (1904).
الدولة إذن ليست دولة استيطانية مجرّدة، والنشاط لإقامتها ليس نشاطاً كولونياليًا اعتياديًا. العنوان هو فلسطين، والفكرة الصهيونية ترفض أن تتجسّد كنشاط كولونيالي. ويباشر المنفذون استحضارَ أدوات وعي مشروعهم الذاتي كعملية تحرير وليس كعملية استعمار: الحق التاريخي، إعدة صياغة تاريخ اليهود كتاريخ قومي منذ بدء الهيكل الأول، إقامة دولة اليهود كإعادة بناء لدولة اليهود، جمع الشتات.
القفزة التي تقوم بها الفكرة الصهيونية على ألفَي عام من المنفى إلى النص التوراتي المكتوب تكاد تكون في مرحلة الفكرة قفزة بروتستانتية (موزس هس). ولكنها تصبح في مرحلة وجود الصهيونية المتعيّن نفيًا لألفَي عام من تاريخ فلسطين: التاريخ العربي الإسلامي، الأمّة العربية الآخذة في التبلور، الشعب الفلسطيني. كلّها تُختزَل إلى طارئ على تاريخ هذه البلاد الحقيقي الوحيد كتاريخ يهودي متواصل ولو كان من دون يهود. براغماتية الحركة الصهيونية تُنتج وتستخدم أدوات غيبية.
لا تدرك الهجرة الصهيونية الأولى هذا التحول عن الفكرة إلى التنفيذ. فهي تبدو نشاطًا استيطانيًا كولونياليًا أوروبيًا دون مشروع سياسي كما كان الحال في نيوزيلاندا وأستراليا وغيرها، كما تذكّر بأفكار جمعيّة أوروبية (كومونة) ترافقها رومانسية الالتصاق بالأرض وتحويل اليهودي إلى فلاّح. في الهجرة الأولى يتحوّل اليهودي إلى أوروبي خارج أوروبا. أما الدولة فما زالت هنا موضوع الفكرة وليس موضوع النشاط الاستيطاني أو التنفيذ، وأمّا التميّز فيكون عن السكان الأصليين البدائيين وعن البرجوازية الأوروبية المنحلّة. والمستوطنون يبحثون عن خلاصهم الذاتيّ ولا عن خلاص لبقيّة الأمّة. إنهم بفهمهم الذاتيّ ليسوا حركة قومية ولا يمثلون شعبًا. ولكن مصطلحات جديدة لم تكن قائمة في قاموس هرتسل تطفو على سطح اللغة في الهجرة الأولى: العودة، الخلاص، تجديد أيامنا السالفة.
الهجرة الثانية صهيونية الوعي وليس الممارسة فحسب. وهي تكتشف نقيضها الأهم في الواقع الذي ما يلبث أن يتحول إلى نقيضها الأهمّ بالفكر، ملوّنًا كلّ شيء بلونه: العربي الموجود على الأرض والذي بدأ لتوّه يحوّل علاقته مع الأرض إلى علاقة قومية، مرّة عبر الأمّة العربية ومرّة عبر الشعب الفلسطيني. لم يكن وعد بلفور قد صدر بعد، ولم تَرْقَ الصهيونية إلى درجة النقيض الوجودي في نظر العربي، يُستثنى من ذلك المثقفون القلائل الذين عاشوا أو درسوا في أوروبا وتعرّفوا على أفكار الصهيونية عبر نصوصها.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر