الرفيق غازي الصوراني
" ..لن يكون الكفاح الفلسطيني مُجدياً ، إلا إذا كان كفاح مواطنين حُرّرتإرادتهم وعقولهم ، فلا معنى ولا قيمة أو مصداقية لأي نضال وطني سياسي أوكفاحي في ظل الانقسام والاستبداد والقمع السلطوي المستمر من حكومتي غزّةورام الله.."
(1)
في الذكرى الأربعين لاستشهاد رفيقنا المناضل والكاتب والروائي غسان ، وفي ظروف استشراء السيطرة الامبريالية والصهيونية على شعبنا الفلسطيني وشعوبنا العربية وتزايد مظاهر التبعية والتخلف الاجتماعي والاقتصادي في مشهد الإسلام السياسي ، وتفاقم حدة الاستقطاب والصراع على السلطة والمصالح الفئوية بين حركتي فتح وحماس ، في مقابل استمرار عجز وفشل اليسار الفلسطيني والعربي عن بلورة البديل الشعبي الديمقراطي ، أبدأ كلمتي بسؤال .. ماذا لو كان غسان كنفاني على قيد الحياة ؟ وعاد إلى الوطن "يعتكز عصا عادية ويحدق في خيبة غير عادية في ظل وظلام هذه الحالة من الانقسام وتشتت الهوية والشعب والقضية ؟ ماذا لو التقى برفاقه بدوافع الحنين إلى ذكريات الماضي النضالي المجيد لفصائل اليسار وألقى في جمع غفير منهم كلمة دون أن يعرف أن معظمهم ما عاد يكترث بأعماله ولا باستلهامها أو الاهتداء بها حتى لو عرفها .. وما عاد يكترث أيضا بالفكر الماركسي ومنهجه وبالمبادئ الثورية الوطنية والقومية والأممية التي استشهد من أجلها غسان ..!؟ .... الإجابة برسم رفاقي الكوادر الثورية عموما والشابة خصوصا القابضين على الجمر.
(2)
الحديثُ عن غسانَ الكاتبِ الروائي المناضلِ والمثقفِ الجبهاوي –كما الحديثِ عن الحكيمِ ووديع وأبو علي مصطفى ومحمد الأسود وأحمد سعدات وكلِ الثوريين- لا معنىً له ولا قيمة إن لم يكن تحريضا ثوريا ًوديمقراطيا من أجل تغيير وتجاوز هذا الواقع الفلسطيني والعربي الذي بات اليوم خاضعاً ومرتهناً للتحالف الامبريالي الصهيوني ، لكن هذه الخطوة ستظل بلا معنى ان لم نبدأ في التحريض عبر النضال الديمقراطي الداخلي على طرفي الانقسام ، فتح وحماس، اللذان أسهما فيما وصلت إليه أوضاعُنا الفلسطينيةِ من طريقٍ وأفقٍ مسدودٍ على كافةِ الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، حيثُ بات من المؤكدِ لكم ولكلِ أبناءِ شعبِنا في الوطنِ والمنافي ان استمرارَ هذا الانقسام هو خدمةٌ صافيةٌ للعدوِ الصهيوني مدعوماً من ألّدِ أعداءِ الفلسطينيين والعرب وكلِ فقراء العالم ،الولاياتُ المتحدة الامريكية .
(3)
الحديث عن المثقف غسان كنفاني ، وهو حديث يحملُنا إلى رؤية رفيقنا المثقف الثوري المبدع المناضل الشهيد غسانِ للثقافة كما فهمها وجسدها ، باعتبارها جملةُ ما يستوعبُه ويراكمُه ويبدعُه هذا الرفيقُ او ذاك على صعيدِ الفلسفةِ الماركسية ومنهجِها ، والتاريخِ الوطني والقومي من ناحية ، وعلى صعيدِ العلم ِوالأدبِ والفنِ بالارتباط ِالوثيقِ بمجالاتِ الحياةِ السياسيةِ والاجتماعيةِ والاقتصادية ِوكافةِ مجالاتِ الحياةِ المادية والروحية من ناحيةٍ ثانية ، من اجل استخدامِها للإجابةِ على أسئلةِ الجماهير الشعبية المطروحة في كل مرحلة ٍمن مراحل مسيرتِها الثوريةِ من أجل التحررِ والديمقراطيةِ والتقدم ، في إطار العلاقة الجدليةِ بين الأهدافِ الوطنيةِ والقومية ، وهنا تتجلى خصوصيةُ الواقعِ العربي وتخلفِه التاريخي ، واستتباعِه واستبداده وخضوعِه عبر الشرائح الكومبرادورية البيروقراطية الحاكمة للنظام الامبريالي ، كما تتجلى أيضا في دروسِ وعبرِ الشهيد غسان كنفاني الذي أدرك وناضل من أجلِ تغيير هذا الواقع من خلال استلهامِه الخلاّقِ للثقافة الثورية التقدمية بكل أبعادِها ومكوناتِها العلمية، الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية وأهميةِ تكريسِها في صفوف رفاقِه الجبهاويين ، إن رؤيتَه هذه للثقافة تبلورت في إطار التزام الجبهة بالثقافة العضوية وبالمثقف العضوي دون تجاوزِ الإبداعِ الأدبي أو الفكري أو الفني لدى هذا المثقفِ الحزبي أو ذاك، وهنا بالضبط ترسخت العلاقةُ الجدليةُ التبادلية بين شهيدِنا غسان وجبهتِه الشعبية على قاعدة الفهم المشترك لدور المثقف العضوي الذي يمكننا تعريفَه وتحديد َمعالمِه وفقَ رؤية الجبهة ، بأنه : العضوُ المنتمي للحزب الماركسي الثوري ، هو الحامل ُلرسالةٍ، لموقفٍ، لرؤيةٍ نظرية مستقبلية من ناحية وهو أيضاً ، "الداعيةُ" "الاختصاصيُ" "المٌحَرِّضُ" "صاحبُ الايدولوجيا" أو حاملُها، المدافعُ عن قضايا وتطلعاتِ الجماهير الشعبية ، الملتزمُ بالدفاعِ عن قضيةٍ سياسية، أو قيم ثقافية ومجتمعية أو كونية، بأفكاره أو بكتاباته ومواقفه تجاه الرأي العام، هذه صفتُه ومنهجيتُه، بل هذه مشروعيتُه ومسئوليتُه تجاه عملية التغيير التي يدعو إليها.
(4)
حينما نتحدث عن الشهيد غسان كنفاني اليوم ، لا نرى أي انفصام بين غسان المثقف المبدع حاملِ الرسالة، وغسان المثقف العضوي الملتزم تنظيمياً بمبادىء جبهته الشعبية وأهدافِها، بحكم تقاطع أو توحد الرؤيتين في نقطةِ التقاءٍ هامةٍ، وهي الوظيفةُ النقديةُ للمثقف، والوظيفةُ النقدية هنا تتخطى التبشيرَ أو الرسالةَ إلى الثورة والتغيير وتجاوز الواقع عبر محددين رئيسيين هما : قوةُ رسوخِ ووضوحِ الهويةِ الفكريةِ ، الماركسية ومنهجِها المادي الجدلي من ناحية ، وقوة ِرسوخ ووضوح الانحياز الطبقي للكادحين وكل المستغَلين والمضطهدين من ناحيةٍ ثانية ، وبهذا المعنى لابد من أن أشير إلى انحسار دور هذا المثقف العضوي الماركسي في بلادِنا بصورةٍ مريعةٍ ومقلقة، في هذه المرحلة التي تغيرت فيها مراتبُ القيم ِ"فتقدمت قيمُ النفاقِ السياسي والتلفيقِ الفكري والمصالح الشخصية الانتهازية والفردانية، حتى أصبح لها مُنظّروها ومشرّعوها الذين صنعتهم انساقُ وآلاتُ السلطة أو النظام الرسمي ، أو أولئك الذين صنعتهُم وأفسدتهُم منظمات NGO S كما هو الحالُ في وضعِنا الراهن في فلسطين –على سبيل المثال وليس الحصر- عبر مروجي ما يسمى بثقافةِ السلام والسلام الاجتماعي والسلام الاقتصادي والحكم الصالح ، إلى آخر هذه المفاهيم التي تم تصنيعُها وتركيبُها خصيصا للتداول في بلادنا وغيرها من البلدان المتخلفة من اجل التشكيك في صحةِ أفكارِ فصائل وأحزاب اليسار وتفكيكها وتخريبها من داخلِها بما يضمن تكريسَ تبعيةِ هذه البلدان واستمرارِ تخلفِها وخضوعِها لسيطرة التحالف الامبريالي الصهيوني والرجعي العربي ، ولذلك نقول إلى كلِ من يرفع شعارَ الليبرالية الجديدة في بلادِنا: إن النيو - ليبرالي ليس ديمقراطياً ولا حتى ليبرالياً بل تختزلُه التجربة ويختزلُ ذاتَه إلى مجردِ ممسوسٍ بلوثةِ عداءٍ فَقَد بريقَه لكل ما هو تقدمي او ديمقراطي ثوري.
(5)
كان غسان مثالا للمثقف العضوي الحداثي والعقلاني التنويري والوطني والقومي الماركسي في آن واحد ، لكنه لم يكن صاحب رؤية أحادية معرفية يقينية ، قومية أو ماركسية يلتزم بجمود نصوصها بقدر ما كان مبدعاً في أدبه الثوري عبر تأويله للنصوص وتفسيره لها بما يقترب أو يتناسب أو يتطابق مع الواقع المعاش، فلم يكن ناطقاً باسم النص بل كان ثورياً يسعى إلى تغيير الواقع عبر وعيه له واستخدامه للمنهج المادي الجدلي في اكتشافه من جهة وعبر قناعته الموضوعية الثورية بمبادئ وأهداف الجبهة الشعبية من جهة ثانية.
هكذا أدرك غسانً أن مهمة المثقف هي ممارسة النقد الجذري لما هو كائن التزاماً بما ينبغي أن يكون عبر وظيفته النقدية بالمعنى الموضوعي ، وهي تتناقض كلياً مع وظيفة التبرير ،او النفاق الانتهازي والشللي أو الاعتراف بالأمر الواقع ، هنا يتداخل عضويا مفهوم المثقف مع مفهوم الطليعة بالمعنى المعرفي والسياسي التي ترى الالتزام بأهداف النضال الوطني ضمن الإطار القومي تجسيداً لرؤيتها .
(6)
لعل من أهم إبداعات المفكر الماركسي الثوري " انطونيو جرامشي" تأكيده على دور "المثقف المتمرد" ، أو المثقف العضوي الملتزم، فالمثقف بالمعنى الحقيقي هو الذي لا يرتضي بالأفكار السائدة أو المألوفة، هذا هو المبدأ الذي جسده غسان كنفاني حتى لحظة استشهاده .وهنا بالضبط تتجلى دروس وعبر تجربة رفيقنا المثقف العضوي الثوري الديمقراطي غسان ...لذلك ينبغي التمييز بين من يمارسون الفكر من أجل تغيير الواقع والثورة عليه، وبين من يمارسون تحطيم الفكر والوعي حفاظاً على مصالحهم الانتهازية وتبريراً للنظام أو السلطة أو الواقع البائس الذي يحتضنهم ...فما قيمة الثقافة التي لا تتعاطى وتتفاعل مع الهموم والمطالب الوطنية والطبقية للجماهير الشعبية، وما قيمة الحزب الذي لا ينخرط- عبر التزام ووعي فكري ثقافي عميق - في العملية التغييرية ؟ فإذا ما تفككت وتآكلت أو تراجعت الجبهة الثقافية وأقصد ، هوية الحزب اليساري الفكرية ، الماركسية ومنهجها المادي الجدلي ، فإنه لا محاله سيخسر كل الجبهات الأخرى ، السياسية والتنظيمية والعسكرية الكفاحية .. تلك هي كلمات القائد الراحل جورج حبش الذي أدرك أهمية الجبهة الثقافية ، ليس كجبهة أخيرة فحسب ، بل أيضا كمنطلق لرفاقه ولكل الماركسيين العرب بان يكرسوا كل جهودهم من اجل وعي الماركسية ومنهجها بصورة تطورية نقدية ومتجددة تخدم متطلبات واقعهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، بما يوفر لهم كل الامكانات والقدرات في مواصلة نضالهم واستعادة دورهم من اجل قيادة الثورة الوطنية الديمقراطية وتحقيق اهدافها في القضاء على كل مظاهر وادوات الاستبداد والتخلف والتبعية والاستغلال الطبقي .
(7)
بعد أربعين عاما من استشهادك رفيقنا غسان ، باتت قضيتنا اليوم محكومة لقيادات سياسية استبدلت المصلحة الوطنية العليا برؤاها وبمصالحها الخاصة ، ففي ظل الانقسام والصراع بين الأخوة الأعداء ، يحتفل عدونا الإسرائيلي بقيام دولته، ومرة أخرى نستعيد نحن الفلسطينيون في الذكرى الرابعة والستين للنكبة ، أطياف ذكريات ماضية ، ولكن في وضع مؤسف عنوانه "تزايد الصدام بين قطبي الصراع" وانسداد الأفق السياسي بالنسبة للدولة أو المشروع الوطني لا فرق ، والسؤال هو: ما هي تلك الغنيمة الهائلة التي يتنازع قطبي الصراع المتصادمين عليها؟ لا شيء سوى مزيد من التفكك والانهيارات والهزائم .. فالحرب بين الفلسطيني والفلسطيني لن تحقق نصرا لأي منهما ، وإنما هزيمة جديدة لمن يزعم انه انتصر ، يؤكد على هذا الاستنتاج الواقع الراهن الذي يعيشه أبناء شعبنا في الوطن والشتات .
(
نحن مع غسان حينما يقول ما معناه : لن يكون الكفاح الفلسطيني مجدياً، إلا إذا كان كفاح مواطنين حررت إرادتهم وعقولهم، ولن يكون القائد الوطني الماركسي جديراً باسمه إلا إذا كان واجبه التحريض على هذه الإرادة وخلق أشكال سياسية بلا مراتب وبلا رعية وأعيان أو محاسيب أو شلل داخل الحزب ، إذ أن استمرار هذا الوضع لن ينتج سوى قيادة رخوة عاجزة وغير متجانسة ستدفع بالحزب إلى مزيد من التفكك والخراب .
(9)
من وحي الاستبداد في الضفة وقطاع غزة .....
أتوجه من هنا من قطاعِ غزةَ ..سفينة نوحٍ الفلسطينية الأم الولادة للهوية الوطنية ..الى كل أبناءِ شعبِنا وقواه السياسية والمجتمعية في كل ِمدن ومخيمات الضفة والقطاع وكل مخيمات المنافي واللجوء ان يتوقفوا عن صمتهم وأن يبادروا إلى ممارسة الضغط الشعبي الجماهيري عبر الاعتصامات والمظاهرات بشعارٍ موحدٍ هو مقاومة كل ادوات ومظاهر الاستبداد والقهر من حكومتي رام الله وغزة غير الشرعيتين و "انهاءُ الانقسامِ" والعودة ُالى الاحتكام للشعب والانتخابات الديمقراطية ، مع التأكيد المطلق على حق ابناء شعبنا في ممارسة حرياتهم في الرأي والتعبير والكتابة والمعتقد والتنظيم والابداع والنقد والتظاهر والاعتصام والاضراب، اذ لا معنىً ولا قيمةً أو مصداقية لأي نضال ٍوطني سياسي أو كفاحي في ظل الانقسام والاستبداد السلطوي المستمر من حكومتي فتح وحماس ، وما شاهده واستنكره ابناء شعبنا من ممارسات دموية بشعة ضد المتظاهرين الرافضين لزيارة الصهيوني موفاز ..الرافضين لاستمرار المفاوضات العبثية واستجداء العدو الصهيوني لتقديم قرض مالي لسلطة رام الله ..الى جانب ممارسات حكومة حماس في غزة التي توجت بالامس بتعليق تسجيل الناخبين في قطاع غزة ... كل ذلك يدفعنا الى التأكيد مجددا على ادانة ورفض كل هذه الممارسات القمعية التي تراكم المزيد من عزلة وتراجع الحركتين مهما تبدى لهما من دواعي القوة المستبدة ، فلا معنى او مصداقية أو امكانية لأي هدفٍ فلسطيني في الضفة او قطاع غزة او المنافي دون الخلاص من هذه الحالة القمعية الاستبدادية الانقسامية التي كرست عوامل َالقلقِ والاحباطِ واليأس في صفوف أبناءِ شعبنا في كل أماكن تواجدِه مع تزايد عدوانية العدو الصهيوني وشروطه المذلة عبر مفاوضات عبثية لن تحقق سوى المزيد من التفكك وانسداد الآفاق ... فلتتداعى كافة الفصائل والاحزاب بالاستعدادِ والتحضير لهذا الحراك الجماهيري ، الكفيل وحده بإنهاءَ هذه الحالة من الانقسامِ واختيار قيادة جديدة كمدخل وحيدٍ لصمود شعبنا ومقاومته ووحدته وتعدديته الديمقراطية .
(10)
من وحي تجربة الشهيد المثقف الثوري غسان ...
مؤقتا سأتدارك إصراري على مركزية الموقع الطبقي وأهميته في صوغ المثقف وتحديد ماهيته ، لأقول أو أتقاطع مع شمولية مفهوم المثقف التي تتضمن الموقع الطبقي بالإضافة إلى مواقع أو رؤى إبداعية أخرى .. مثل المثقف المتخصص في مجال العلم أو المجتمع والعلوم الإنسانية، لكنني في كل الأحوال أرى نفسي منحازاً للمثقف وفق ارتباطه بالموقع الطبقي... فهذا هو الأصل عندي رغم أي خلاف بيني وبين الآخرين في هذا الجانب .
أما بالنسبة لاجتهادي المنحاز لشمولية مفهوم المثقف، فإن الشمولية التي أقصدها هنا لا تتناقض مع التعريفات التي عبّر عنها مجموعة من المفكرين في تعريفهم للمثقف بأنه " هو الإنسان الذي يضع نظرة شاملة لتغيير المجتمع" أو هو المفكر المتميز المسلح بالبصيرة كما يقول ماكس فيبر، أو هو الذي يمتلك القدرة على النقد الاجتماعي والعلمي والسياسي أو هو المفكر المتخصص المنتج للمعرفة، وهي تعريفات عامة لا تحرص على تحديد الزاوية أو الموقع الذي ينطلق منه ذلك المثقف في ممارسة النقد الاجتماعي أو السياسي أو في صياغته للنظرة الشاملة للتغيير .. والزاوية التي اقصدها هي الموقع الطبقي بالتحديد (عبر الالتزام التنظيمي بالحزب الماركسي) ، فهو الغاية والقاعدة المنتجة والمحددة لكل رؤية فكرية ثقافية أو لكل ممارسة نقدية .
(11)
تضمنت أعمال الشهيد غسان كنفاني رؤية استشرافية وواقعية استدعت التحريض على هذا الواقع المأزوم بمثل دعوتها الصريحة إلى المقاومة ، فهي رؤية ثورية مختلفة عن تلك التي تضمنتها العديد من أعمال الروائيين العرب الذين نقدر دورهم في تشخيص الواقع الاجتماعي دون الدعوة الصريحة إلى التغيير والثورة كما هو الحال عند محمود تيمور وتوفيق الحكيم و نجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبدالله على سبيل المثال ، ذلك إن روايات غسان كانت مسكونة بروح التحريض والتغيير الثوري، وهي بالتالي تقاطعت مع روائيين تقدميين من أمثال حنا مينا وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس ويوسف القعيد وعبد الرحمن منيف وحيدر حيدر وإلياس خوري بناحيتين أساسيتين
هناك أولاً وحدة المعاناة الشخصية والوطنية والمجتمعية بحيث نشهد كما يقول – حليم بركات- توجهاً نحو الدمج بين هوية الفرد وهوية المجتمع ، فتصبح الأماني والأزمات والانتصارات والهزائم والآلام والأفراح واحدة ، لان قضية المجتمع هي قضية الإنسان، والعكس صحيح ، فيصبح خلاص الأول هو خلاص الآخر، وهنا بالضبط تأثر غسان بالثورة كما عبرت عنها مبادئ الجبهة الشعبية وقبلها حركة القوميين العرب ، وكان إبداعه الأدبي نتاجاً لذلك التأثير .
وهناك ثانياً : مسألة المشاركة الفعلية والخوض في المعارك الوطنية الحقيقية التي يعيشها الشعب إلى جانب المعارك التي يعيشها المجتمع ، وفي مثل هذه الحالة تنبثق الأفكار والمشاعر من صميم الواقع المعاش ، وليس من مفاهيم مجردة.
(12)
تشترك رواية التغيير الثوري –لدى شهيدنا غسان- مع رواية التمرد الفردي برفضها الثقافة السائدة وبتشديدها على أهمية الإبداع الفني في الكتابة الروائية. غير انها تختلف في الوقت ذاته عن رواية التمرد الفردي بالتشديد على القضايا السياسية والخلاص المجتمعي والوقوف إلى جانب الطبقات المسحوقة ، ما يعني أن الدعوة للنفير الثوري عنده ، انطلقت من اهتماماته الذاتية التي توحدت مع رؤية الجبهة الشعبية السياسية التحررية ، الوطنية والقومية من ناحية والاجتماعية الطبقية من ناحية ثانية .
فقد تناول غسان الواقع الفلسطيني ، بمختلف جوانبه وتناقضاته وتعقيداته ، والتزام في نصوصه الروائية بتشخيص وتفكيك معظم جوانب المعاناة السياسية، والاجتماعية ، والإنسانية، للفلسطيني، دونما أن يشكل ذلك الالتزام الجبهاوي لديه قيداً على حريته الإبداعية وتعامله النقدي والتحريضي للواقع حيث اتخذت مضامين رواياته أشكالاً وصوراً جديدة وفريدة عكست مخيلته التي جسدت فنياً مبادئه السياسية التي عاش واستشهد في سبيلها .
(13)
في دراسته " العمل الفدائي ومأزقه الراهن عام 1970 " شدد رفيقنا الشهيد غسان على ضرورة الترابط العضوي بين النظرية والممارسة والتنظيم وبين البعد القومي والبعد الطبقي، وكل منهما مسألة محورية ، كما انتقد التنظيمات الفلسطينية قائلاً بأنها " أضحت بعد سنوات قليلة من نشوئها مكتبية بيروقراطية" ماذا لو عاد اليوم يعتكز عصاه ويحدق في خيبة غير عادية في ظل وظلام هذه الحالة من الانقسام وتشتت الهوية والشعب والقضية ؟ ماذا لو التقى برفاقه بدوافع الحنين إلى ذكريات الماضي النضالي المجيد لفصائل اليسار وألقى في جمع غفير منهم كلمة دون أن يعرف أن معظمهم ما عاد يكترث بأعماله ولا باستلهامها أو الاهتداء بها حتى لو عرفها .. وما عاد يكترث أيضا بالفكر الماركسي ومنهجه وبالمبادئ الثورية الوطنية والقومية والأممية التي استشهد من أجلها غسان ..!؟ .... الاجابة برسم رفاقي الكوادر الثورية عموما والشابة خصوصا القابضين على الجمر .
(14)
ربط الشهيد غسان كنفاني مصيره الشخصي –بشكل مباشر وغير مباشر - بمصير شعبه كتابة وعملاً ، هكذا كانت رواياته صورة خلاقة عن قراره الذاتي ، فتوحدت معاناة شعبه بمعاناته الخاصة، وتمثل في صوته ، صوت الفلسطينيين المقتلعين – المنفيين – المسحوقين – المكافحين . لقد تمثل في صوته خاصة ، صوت الجماهير الذين دفعوا غالياً ثمن الهزائم بحياتهم قبل ممتلكاتهم القليلة. ليس غريباً ، إذاً ، أن نكتشف في كتاباته المكونات المغفلة في المعاناة الفلسطينية. ففي روايته "رجال في الشمس" يظهر بشكل فريد كيف ان الفلسطيني مهدد في صلب حياته بالموت من دون أن يسمع له صوت مهما دق ناقوس الخطر، لأنه مقتلع وبلا وطن لا يستطيع أن يكون عزيزاً في أي بلد آخر ، حتى ولو كان بلداً عربياً ، بل خاصة في البلدان العربية في ظل الأنظمة السائدة بما فيها النظام الفلسطيني نفسه ".
(15)
بعد حوالي عامين على هزيمة حزيران 1967 ، نشر غسان روايته " أم سعد" التي يحرض فيها الفلسطيني مجدداً على التحرر الذاتي الداخلي بما يمكنه من التحرر من السجن الكبير الذي فرضه النظام العربي على الفلسطينيين بعد النكبة ، ففي هذه الرواية نلاحظ وعي غسان لحياته بأنها سجن في حد ذاتها ، فيتساءل : " أتحسب أننا لا نعيش في الحبس ؟ ماذا نفعل نحن في المخيم غير التمشي داخل ذلك الحبس العجيب ؟ الحبوس أنواع .. المخيم حبس ، وبيتك حبس ، والجريدة حبس والراديو حبس .. أعمارنا حبس ، والعشرون سنة الماضية حبس ... أنت نفسك حبس " إن بداية مثل هذا الوعي هي بداية الدعوة من أجل التغيير الثوري، في ضوء إدراك الفلسطيني "أن التخلص من الوحل في المخيم- كما يقول حليم بركات - لا يكون بجرفه كلما هطل المطر ، بل بسد مزراب السماء، ذلك أن الاكتفاء بجرف الوحل هو تكيف مع الواقع التعس وتصرف خضوعي انسجامي ، أما سد مزراب السماء فتحول راديكالي باتجاه التعامل مع مصادر المشكلة التي لا تحل من دون تغيير الواقع الذي نشأت عنه " .
إن أعمال غسان كنفاني ورواياته التي حرص من خلالها على إعادة صياغة الواقع ، لم تكن مجرد عمل فني قائم بذاته، أو انعكاس للبنية الاجتماعية والنشاطات والقيم والمعتقدات فحسب، بل هي أيضاً نتاج فني فريد لعملية الدمج الخلاق بين إبداعه والتزامه وانتمائه الحزبي للجبهة حيث تجلى هنا المعنى الثوري لمفهوم الالتزام في الرواية الأدبية كما هو حال غسان في كتاباته السياسية الأخرى ، حيث استطاع أن يكيف موهبته وإبداعه الذاتي مع قناعاته الثورية ، فجاءت رواياته تعبيراً عن مكنوناته الإبداعية التي حملت في نصوصها خطاباً متنوع المضامين التحريضية والمفاهيم الثورية المتفاعلة مع معاناة شعبه والتي شكلت في نفس الوقت "نوعاً من التنفيس أو التطهر الذاتي والمعرفي العام".
(16)
إن وعي رفيقنا الأديب الروائي والمثقف الثوري بطبيعة الدولة الصهيونية ووظيفتها أدى به الى رفض ما يسمى بالدولة المستقلة او الحل المرحلي...ولم يكن ثابتا في جدوله سوى النضال من اجل استرداد فلسطين شرطا وحيدا لحق العودة ، والآن بعد اربعة وستين عاما من اللجوء والمعاناة والنضال ، نقذف بالسؤال في وجه فتح وحماس ، على ماذا تتقاتلون ؟ وجوابنا السريع أنكم تتصارعون على السلطة وتقاسمها وعلى المصالح في إطار عربي وإقليمي ودولي لم يعد معنياً بعملية السلام أو عدالة القضية الفلسطينية إلا وفق الرؤية الأمريكية الإسرائيلية . وفي هذا السياق يقول الروائي الياس خوري " إذا حللنا عملية التسوية منذ مدريد حتى الآن ؛ نكتشف أن الإسرائيليين لا يريدون تسوية بل استسلاماً ، وبالفعل استسلم الفلسطينيون في " أوسلو" لكن الإسرائيليين يريدون أكثر من ذلك " .
فقد تحولت المقاومة الفلسطينية إلى منظمة التحرير الفلسطينية، لتشكّل "شبه حكومة" و "دولة ضمن الدولة" ، فتعرضت بذلك إلى مزيد من الضغوط العالمية والعربية في سبيل التقبل التدريجي لحل سلمي مزعوم ووهمي ، كبديل وليس كمتمم للكفاح المسلح. وبذلك نشأ جناح يبحث عن الاعتراف الدولي، وتعزز الجانب المؤسسي البيروقراطي على حساب الجانب الثوري، كما كتب غسان كنفاني في حينه، بمعنى أن قيادات منظمة التحرير أصبحت هي وأساليب عملها وانتقالاتها واتصالاتها وتشكيلاتها ومراكزها مكشوفة تماماً .
إن هذا الموقف ، تجاه بيروقراطية م.ت.ف ، يتطابق ، بل ويعكس مفهوم التغيير الثوري كمحدد رئيسي لروايات غسان ، وذلك عبر رفضه للنظام السائد ودعوته التحريضية للثورة على الوضع القائم ورفضه للثقافة السائدة المعبرة عن مصالح الشرائح الحاكمة وولاءاتها الرجعية التقليدية تأكيداً لرفضه لمفاهيم الثقافة الموروثة .
(17) :تساؤلات في ذكرى الغائب الحاضر غسان.............
إذا ما تأملنا مسيرتنا الوطنية من أجل التحرير في غمرة اوضاع التفكك والانقسام والصراع على السلطة بين حكومتي رام الله وغزة غير الشرعيتين اللتان تمارسان سطوة الحكم والاستبداد وقمع حريات الرأي بـ " شرعية" القوة والاكراه بمعزل عن الاهداف التحررية الوطنية الكبرى من جهة وبتجاوز سافر للديمقراطية التي اوصلتهما الى السلطة من جهة ثانية..اذا تأملنا هذا الواقع المرير على مدار سنوات الانقسام ،نكتشف ان صراعات وممارسات ومصالح الحكومتين الطبقية النقيضة لمصالح جماهير الفقراء ،ادت - في ظل استمرار غياب البديل اليساري الديمقراطي -الى تغييب شعبنا وشل حركته وعجزه عن التوقف أمام قضاياه أساسية ، ما يبرر اثارة الاسئلة ..هل كانت الديمقراطية مهدا للتغيير والتطور والصمود ام اصبحت لحدا او مقبرة للقضية والمجتمع ؟؟؟ ما هي اهداف النضال الوطني ؟؟؟؟ وما هو الموقف من الكيان الصهيوني الذي نحاربه ؟ ما هو دور ووظيفة هذا الكيان في إعاقة تحرر واستنهاض ووحدة شعوب الأمة العربية ؟ ما علاقة الكفاح المسلح بالتسييس الديمقراطي وحرية الرأي داخل المجتمع الفلسطيني نفسه، وهل تتكامل وتتفاعل قضايا التحرر والسياسة والديمقراطية ، أم أن لكل منهما قناة منعزلة عن الأخرى ؟؟؟ وما قيمة صراع الفلسطينيين مع العدو إذا كان معزولا عن محدده الأول والأخير كصراع عربي صهيوني ؟؟؟... باختصار نستذكر كلمات الشهيد غسان ومأثوراته وانتاجه الادبي والسياسي ..تلك المشاعل المضيئة التي ما زالت تغوص في معانيها مشاعر ما تبقى من رفاقه الاوفياء للشهداء والمبادىء ، بمثل ما تغوص في مشاعر وعقول وأقلام المثقفين الثوريين الذين كتبوا آلاف الصفحات عن زخم إنتاج شهيدنا المثقف العضوي المناضل والروائي المبدع والكاتب السياسي والإعلامي غسان كنفاني الذي استطاع أن يصنع هالته الفريدة، وترك لنا تاريخاً حافلاً بالإبداع والشموخ والتحريض على التغيير والثورة، يعتز به ويسير على هداه رفاقه القابضين على الجمر في الجبهة الشعبية الموزعين على مساحة الوطن الفلسطيني كما في الشتات والمنافي وفي كل أرجاء هذا الكوكب .
(18)
كانت روايات الشهيد غسان صورة خلاقة عن قراره الذاتي ، حيث ربط مصيره الشخصي –بشكل مباشر وغير مباشر - بمصير شعبه كتابة وعملاً ، فتوحدت معاناة شعبه بمعاناته الخاصة، وتمثل في صوته ، صوت الفلسطينيين الفقراء والمضطهدين ،المقتلعين – المنفيين – المسحوقين – المكافحين . لقد تمثل في صوته خاصة ، صوت الجماهير الذين دفعوا غالياً ثمن الهزائم بحياتهم قبل ممتلكاتهم القليلة. ليس غريباً ، إذاً ، أن نكتشف في كتاباته المكونات المغفلة في المعاناة الفلسطينية. ففي روايته "رجال في الشمس" يظهر بشكل فريد كيف ان الفلسطيني مهدد في صلب حياته بالموت من دون أن يسمع له صوت مهما دق ناقوس الخطر، لأنه مقتلع وبلا وطن لا يستطيع أن يكون عزيزاً في أي بلد آخر ، حتى ولو كان بلداً عربياً ، بل خاصة في البلدان العربية في ظل الأنظمة السائدة بما فيها النظام الفلسطيني نفسه " .
(19)
رفاقي واصدقائي ....اذا تأملنا هذا الواقع المرير على مدار سنوات الانقسام ،نكتشف ان صراعات وممارسات ومصالح الحكومتين الطبقية والسياسية النقيضة لمصالح جماهير الفقراء ،ادت - في ظل استمرار غياب الحزب او الفصيل الماركسي القادر على بلورة وقيادة البديل اليساري الديمقراطي -الى تغييب شعبنا وشل حركته وعجزه عن التوقف أمام قضاياه ألاساسية ، ما يبرر اثارة الاسئلة ..هل كانت الديمقراطية مهدا للتغيير والتطور والصمود ام اصبحت لحدا او مقبرة للقضية والمجتمع ؟؟؟ ما هي اهداف النضال الوطني والديمقراطي ؟؟؟؟ وما هو الموقف من الكيان الصهيوني الذي نحاربه ؟؟؟ ما هو دور ووظيفة هذا الكيان في إعاقة تحرر واستنهاض وتقدم شعوب الأمة العربية ؟ ما علاقة الكفاح المسلح بالتسييس الديمقراطي وحرية الرأي والمعتقد داخل المجتمع الفلسطيني نفسه، وهل تتكامل وتتفاعل قضايا التحرر والسياسة والديمقراطية ، أم أن لكل منهما - كما يزعم البعض -قناة منعزلة عن الأخرى ؟؟؟ وما قيمة صراع الفلسطينيين مع العدو إذا كان معزولا عن محدده الأول والأخير كصراع عربي صهيوني ؟؟؟... باختصار نستذكر كلمات الشهيد غسان ومأثوراته وانتاجه الادبي والسياسي ..تلك المشاعل المضيئة التي ما زالت تغوص في معانيها مشاعر ما تبقى من رفاقه الذين ما زالوا اوفياء للقضية وللشهداء والمبادىء ولهويتهم الفكرية ( الماركسية)، بمثل ما تغوص في مشاعر وعقول وأقلام المثقفين الثوريين الذين كتبوا آلاف الصفحات عن زخم إنتاج شهيدنا المثقف الماركسي العضوي، المناضل والروائي المبدع والكاتب السياسي والإعلامي غسان كنفاني الذي استطاع أن يصنع هالته الفريدة، وترك لنا تاريخاً حافلاً بالإبداع والشموخ والتحريض على التغيير والثورة، يعتز به ويسير على هداه رفاقه المخلصين الاوفياء لتاريخ ومبادىء وفكر الجبهة وتضحياتها ...
(20)
فصائل وأحزاب اليسار بحاجة الى كوادر قيادية ثورية واعية بالماركسية ومنهجها وواعية اكثر بمكونات واقع مجتمعاتها قادرة على الاجابة على اسئلة الجماهير الفقيرة والاندماج في اوساطها والتعلم منها وتعليمها وتنظيمها وتثويرها ..بحاجة الى قيادات وكوادر متواضعة وفية لغسان كنفاني والحكيم وابوعلي مصطفى ووديع وكل الشهداء ..قيادات ملتزمة بالمبادىء العظيمة التي ضحوا بارواحهم من اجلها ..ووفية لاسر الشهداء والجرحى والاسرى الصامدين ..ووفية لجماهير الفقراء والكادحين وقود الثورة وهدفها ...اخيرا فصائل واحزاب اليسار بحاجة ماسة جدا جدا لقيادات مبدئية صادقة لا تعرف النفاق والانتهازية والفساد والشللية..الفصائل اليساريةبحاجة ماسة الى مثل هذه القيادات الثورية الوفية الواعية الصادقة ليرفعوها على أكتافهم ، وليست بحاجة الى قيادات يأتون إليها ليرتفعوا على أكتافها ...ويتنكروا لمبادئها وجوهرها الاخلاقي...ذلك هو اول الطريق لخروج قوى وفصائل اليسار من ازماتها الخانقة شبه المستعصية التي تنذر - في حال استمرار تراكماتهادون علاج جراحي ثوري - الى تصدع البناء والانهيار ...
(21)
في ذكراه الاربعين ، ربما نسأل أنفسنا ، ترى لماذا لا زال يُكتَب حتى اليوم عن غسان كنفاني وكأنه اغتيل أمس أو كان أدبه كتب قبل لحظة، والجواب بسيط ، غسان كنفاني مناضل ومثقف ثوري وروائي مبدع متعدد الأوجه والدلالات والأفكار وعمق الرؤية ، فمع كل مرة تقرؤه تكتشف جديداً، كلما رأيته اكتشفت في وجهه ملامح جديدة ، المؤسف أننا نستطيع الزعم بان العدو اكتشف مواهب الرجل قبل أن يكتشفها كثير من الفلسطينيين والعرب، فحسم أمره في حين لا زال البعض في الساحة الثقافية اليسارية الفلسطينية والعربية غير منتبه إلى ذلك الكائن السري الساكن بين حروف كنفاني .
اغتاله الأعداء لأنه حمل فاعلية الكتابة التي تصنع جيلاً سيعثر على أداة التعبير عن فاعليته في سلاح الوعي بالنظرية الثورية والواقع وفي صيرورة بناء الحزب الثوري الجماهيري ضمانة رئيسية ووحيدة لكي يستعيد اليسار الماركسي دوره النضالي التحرري والديمقراطي .
المداخلة الاخيرة....عهد ووفاء
في الثامن من تموز 1972استشهد في بيروت رفيقنا القائد الجبهاوي ..المثقف الثوري الماركسي الوطني والقومي والاممي الاديب الروائي الفنان غسان كنفاني..الناطق الرسمي للجبهة رئيس تحرير مجلة الهدف على يد العدو الصهيوني حيث قام عملاء الموساد بوضع عبوة ناسفة انفجرت في سيارته واستشهد معه ابنة شقيقته الشهيدة لميس……..
رفاق وأصدقاء غسان كنفاني والحكيـم وأبو علي مصطفى ووديع حداد ... في حكايا الثورة قصّة ملحمة وطنية اسمها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين .. تابعوها مع أبنائكم وأحفادكم .. حكاية لمسيرة سنديانة ما زالت على قيد حياة القضية والنضال الوطني والقومي والأممي، رافضة لعصر الانحطاط الرسمي الفلسطيني والعربي في هذه المرحلة .. وبإصرارها العنيد عبر أبنائها من الرفاق والرفيقات والأصدقاء والمناصرين، تسهم بدورها الطليعي الثوري في مسيرة النضال التحرري الوطني والقومي الديمقراطي الثوري في إطاره الأممي والإنساني.... اقرؤوها في وجوه وعيون الفقراء، وعلى جبين المستضعفين وثياب اللاجئين في المخيم .. وفي عقول وقلوب كوادر وقواعد الجبهة المتمسكين بوعي بهويتها ... فكراً ماركسياً ومنهجاً علمياً وعلمانياً تقدمياً واشتراكياً لا يعرف لون الحياد ... منحازة دوما لمن هم "تحت" كانحياز ناجي لفقراء الأرض وملحها .. تتقن كل لهجات الجماهير المسحوقه وتناضل من أجل تحررها وانعتاقها وثورتها المشتعلة حتى الانتصار رغم كل رياح اليمين بكل ألوانه وأشكاله التي تلبس رداء الليبرالية الرثة او رداء الاسلام السياسي ...كونوا اوفياء لغسان وكل الشهداء...كونوا اوفياء مخلصين لكل المناضلين وفي مقدمتهم المعتقلين من رفاقنا ورفيقاتنا في الجبهة وفي مقدمتهم المناضل الباسل القائد أحمد سعدات والمناضل القائد والمثقف الثوري أحمد قطامش وكل المعتقلين البواسل الذين أخلصوا للجبهة ووضعوها في عقولهم وقلوبهم وحدقات عيونهم .. وأصبحوا مثلاً يُحتذى لرفاقهم المخلصين لمبادئها .. الرافضين لكل أشكال الهبوط او الانتهازية اوالشللية او الارتداد الفكري عن هوية الجبهة أوالتراجع عن الثوابت الوطنية والقومية ، والرافضين لأي شكل من أشكال الاعتراف بدولة العدو الصهيوني .. المؤمنين بأن الحل المرحلي للدولة هو حل نضالي لا يقوم عبر الاعتراف بـ"اسرائيل" وإنما عبر استمرار النضال لتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية لكل سكانها كحل استراتيجي يكفل وحده حل المسألة اليهودية في إطار المجتمع العربي الاشتراكي الموحد
" ..لن يكون الكفاح الفلسطيني مُجدياً ، إلا إذا كان كفاح مواطنين حُرّرتإرادتهم وعقولهم ، فلا معنى ولا قيمة أو مصداقية لأي نضال وطني سياسي أوكفاحي في ظل الانقسام والاستبداد والقمع السلطوي المستمر من حكومتي غزّةورام الله.."
(1)
في الذكرى الأربعين لاستشهاد رفيقنا المناضل والكاتب والروائي غسان ، وفي ظروف استشراء السيطرة الامبريالية والصهيونية على شعبنا الفلسطيني وشعوبنا العربية وتزايد مظاهر التبعية والتخلف الاجتماعي والاقتصادي في مشهد الإسلام السياسي ، وتفاقم حدة الاستقطاب والصراع على السلطة والمصالح الفئوية بين حركتي فتح وحماس ، في مقابل استمرار عجز وفشل اليسار الفلسطيني والعربي عن بلورة البديل الشعبي الديمقراطي ، أبدأ كلمتي بسؤال .. ماذا لو كان غسان كنفاني على قيد الحياة ؟ وعاد إلى الوطن "يعتكز عصا عادية ويحدق في خيبة غير عادية في ظل وظلام هذه الحالة من الانقسام وتشتت الهوية والشعب والقضية ؟ ماذا لو التقى برفاقه بدوافع الحنين إلى ذكريات الماضي النضالي المجيد لفصائل اليسار وألقى في جمع غفير منهم كلمة دون أن يعرف أن معظمهم ما عاد يكترث بأعماله ولا باستلهامها أو الاهتداء بها حتى لو عرفها .. وما عاد يكترث أيضا بالفكر الماركسي ومنهجه وبالمبادئ الثورية الوطنية والقومية والأممية التي استشهد من أجلها غسان ..!؟ .... الإجابة برسم رفاقي الكوادر الثورية عموما والشابة خصوصا القابضين على الجمر.
(2)
الحديثُ عن غسانَ الكاتبِ الروائي المناضلِ والمثقفِ الجبهاوي –كما الحديثِ عن الحكيمِ ووديع وأبو علي مصطفى ومحمد الأسود وأحمد سعدات وكلِ الثوريين- لا معنىً له ولا قيمة إن لم يكن تحريضا ثوريا ًوديمقراطيا من أجل تغيير وتجاوز هذا الواقع الفلسطيني والعربي الذي بات اليوم خاضعاً ومرتهناً للتحالف الامبريالي الصهيوني ، لكن هذه الخطوة ستظل بلا معنى ان لم نبدأ في التحريض عبر النضال الديمقراطي الداخلي على طرفي الانقسام ، فتح وحماس، اللذان أسهما فيما وصلت إليه أوضاعُنا الفلسطينيةِ من طريقٍ وأفقٍ مسدودٍ على كافةِ الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، حيثُ بات من المؤكدِ لكم ولكلِ أبناءِ شعبِنا في الوطنِ والمنافي ان استمرارَ هذا الانقسام هو خدمةٌ صافيةٌ للعدوِ الصهيوني مدعوماً من ألّدِ أعداءِ الفلسطينيين والعرب وكلِ فقراء العالم ،الولاياتُ المتحدة الامريكية .
(3)
الحديث عن المثقف غسان كنفاني ، وهو حديث يحملُنا إلى رؤية رفيقنا المثقف الثوري المبدع المناضل الشهيد غسانِ للثقافة كما فهمها وجسدها ، باعتبارها جملةُ ما يستوعبُه ويراكمُه ويبدعُه هذا الرفيقُ او ذاك على صعيدِ الفلسفةِ الماركسية ومنهجِها ، والتاريخِ الوطني والقومي من ناحية ، وعلى صعيدِ العلم ِوالأدبِ والفنِ بالارتباط ِالوثيقِ بمجالاتِ الحياةِ السياسيةِ والاجتماعيةِ والاقتصادية ِوكافةِ مجالاتِ الحياةِ المادية والروحية من ناحيةٍ ثانية ، من اجل استخدامِها للإجابةِ على أسئلةِ الجماهير الشعبية المطروحة في كل مرحلة ٍمن مراحل مسيرتِها الثوريةِ من أجل التحررِ والديمقراطيةِ والتقدم ، في إطار العلاقة الجدليةِ بين الأهدافِ الوطنيةِ والقومية ، وهنا تتجلى خصوصيةُ الواقعِ العربي وتخلفِه التاريخي ، واستتباعِه واستبداده وخضوعِه عبر الشرائح الكومبرادورية البيروقراطية الحاكمة للنظام الامبريالي ، كما تتجلى أيضا في دروسِ وعبرِ الشهيد غسان كنفاني الذي أدرك وناضل من أجلِ تغيير هذا الواقع من خلال استلهامِه الخلاّقِ للثقافة الثورية التقدمية بكل أبعادِها ومكوناتِها العلمية، الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية وأهميةِ تكريسِها في صفوف رفاقِه الجبهاويين ، إن رؤيتَه هذه للثقافة تبلورت في إطار التزام الجبهة بالثقافة العضوية وبالمثقف العضوي دون تجاوزِ الإبداعِ الأدبي أو الفكري أو الفني لدى هذا المثقفِ الحزبي أو ذاك، وهنا بالضبط ترسخت العلاقةُ الجدليةُ التبادلية بين شهيدِنا غسان وجبهتِه الشعبية على قاعدة الفهم المشترك لدور المثقف العضوي الذي يمكننا تعريفَه وتحديد َمعالمِه وفقَ رؤية الجبهة ، بأنه : العضوُ المنتمي للحزب الماركسي الثوري ، هو الحامل ُلرسالةٍ، لموقفٍ، لرؤيةٍ نظرية مستقبلية من ناحية وهو أيضاً ، "الداعيةُ" "الاختصاصيُ" "المٌحَرِّضُ" "صاحبُ الايدولوجيا" أو حاملُها، المدافعُ عن قضايا وتطلعاتِ الجماهير الشعبية ، الملتزمُ بالدفاعِ عن قضيةٍ سياسية، أو قيم ثقافية ومجتمعية أو كونية، بأفكاره أو بكتاباته ومواقفه تجاه الرأي العام، هذه صفتُه ومنهجيتُه، بل هذه مشروعيتُه ومسئوليتُه تجاه عملية التغيير التي يدعو إليها.
(4)
حينما نتحدث عن الشهيد غسان كنفاني اليوم ، لا نرى أي انفصام بين غسان المثقف المبدع حاملِ الرسالة، وغسان المثقف العضوي الملتزم تنظيمياً بمبادىء جبهته الشعبية وأهدافِها، بحكم تقاطع أو توحد الرؤيتين في نقطةِ التقاءٍ هامةٍ، وهي الوظيفةُ النقديةُ للمثقف، والوظيفةُ النقدية هنا تتخطى التبشيرَ أو الرسالةَ إلى الثورة والتغيير وتجاوز الواقع عبر محددين رئيسيين هما : قوةُ رسوخِ ووضوحِ الهويةِ الفكريةِ ، الماركسية ومنهجِها المادي الجدلي من ناحية ، وقوة ِرسوخ ووضوح الانحياز الطبقي للكادحين وكل المستغَلين والمضطهدين من ناحيةٍ ثانية ، وبهذا المعنى لابد من أن أشير إلى انحسار دور هذا المثقف العضوي الماركسي في بلادِنا بصورةٍ مريعةٍ ومقلقة، في هذه المرحلة التي تغيرت فيها مراتبُ القيم ِ"فتقدمت قيمُ النفاقِ السياسي والتلفيقِ الفكري والمصالح الشخصية الانتهازية والفردانية، حتى أصبح لها مُنظّروها ومشرّعوها الذين صنعتهم انساقُ وآلاتُ السلطة أو النظام الرسمي ، أو أولئك الذين صنعتهُم وأفسدتهُم منظمات NGO S كما هو الحالُ في وضعِنا الراهن في فلسطين –على سبيل المثال وليس الحصر- عبر مروجي ما يسمى بثقافةِ السلام والسلام الاجتماعي والسلام الاقتصادي والحكم الصالح ، إلى آخر هذه المفاهيم التي تم تصنيعُها وتركيبُها خصيصا للتداول في بلادنا وغيرها من البلدان المتخلفة من اجل التشكيك في صحةِ أفكارِ فصائل وأحزاب اليسار وتفكيكها وتخريبها من داخلِها بما يضمن تكريسَ تبعيةِ هذه البلدان واستمرارِ تخلفِها وخضوعِها لسيطرة التحالف الامبريالي الصهيوني والرجعي العربي ، ولذلك نقول إلى كلِ من يرفع شعارَ الليبرالية الجديدة في بلادِنا: إن النيو - ليبرالي ليس ديمقراطياً ولا حتى ليبرالياً بل تختزلُه التجربة ويختزلُ ذاتَه إلى مجردِ ممسوسٍ بلوثةِ عداءٍ فَقَد بريقَه لكل ما هو تقدمي او ديمقراطي ثوري.
(5)
كان غسان مثالا للمثقف العضوي الحداثي والعقلاني التنويري والوطني والقومي الماركسي في آن واحد ، لكنه لم يكن صاحب رؤية أحادية معرفية يقينية ، قومية أو ماركسية يلتزم بجمود نصوصها بقدر ما كان مبدعاً في أدبه الثوري عبر تأويله للنصوص وتفسيره لها بما يقترب أو يتناسب أو يتطابق مع الواقع المعاش، فلم يكن ناطقاً باسم النص بل كان ثورياً يسعى إلى تغيير الواقع عبر وعيه له واستخدامه للمنهج المادي الجدلي في اكتشافه من جهة وعبر قناعته الموضوعية الثورية بمبادئ وأهداف الجبهة الشعبية من جهة ثانية.
هكذا أدرك غسانً أن مهمة المثقف هي ممارسة النقد الجذري لما هو كائن التزاماً بما ينبغي أن يكون عبر وظيفته النقدية بالمعنى الموضوعي ، وهي تتناقض كلياً مع وظيفة التبرير ،او النفاق الانتهازي والشللي أو الاعتراف بالأمر الواقع ، هنا يتداخل عضويا مفهوم المثقف مع مفهوم الطليعة بالمعنى المعرفي والسياسي التي ترى الالتزام بأهداف النضال الوطني ضمن الإطار القومي تجسيداً لرؤيتها .
(6)
لعل من أهم إبداعات المفكر الماركسي الثوري " انطونيو جرامشي" تأكيده على دور "المثقف المتمرد" ، أو المثقف العضوي الملتزم، فالمثقف بالمعنى الحقيقي هو الذي لا يرتضي بالأفكار السائدة أو المألوفة، هذا هو المبدأ الذي جسده غسان كنفاني حتى لحظة استشهاده .وهنا بالضبط تتجلى دروس وعبر تجربة رفيقنا المثقف العضوي الثوري الديمقراطي غسان ...لذلك ينبغي التمييز بين من يمارسون الفكر من أجل تغيير الواقع والثورة عليه، وبين من يمارسون تحطيم الفكر والوعي حفاظاً على مصالحهم الانتهازية وتبريراً للنظام أو السلطة أو الواقع البائس الذي يحتضنهم ...فما قيمة الثقافة التي لا تتعاطى وتتفاعل مع الهموم والمطالب الوطنية والطبقية للجماهير الشعبية، وما قيمة الحزب الذي لا ينخرط- عبر التزام ووعي فكري ثقافي عميق - في العملية التغييرية ؟ فإذا ما تفككت وتآكلت أو تراجعت الجبهة الثقافية وأقصد ، هوية الحزب اليساري الفكرية ، الماركسية ومنهجها المادي الجدلي ، فإنه لا محاله سيخسر كل الجبهات الأخرى ، السياسية والتنظيمية والعسكرية الكفاحية .. تلك هي كلمات القائد الراحل جورج حبش الذي أدرك أهمية الجبهة الثقافية ، ليس كجبهة أخيرة فحسب ، بل أيضا كمنطلق لرفاقه ولكل الماركسيين العرب بان يكرسوا كل جهودهم من اجل وعي الماركسية ومنهجها بصورة تطورية نقدية ومتجددة تخدم متطلبات واقعهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، بما يوفر لهم كل الامكانات والقدرات في مواصلة نضالهم واستعادة دورهم من اجل قيادة الثورة الوطنية الديمقراطية وتحقيق اهدافها في القضاء على كل مظاهر وادوات الاستبداد والتخلف والتبعية والاستغلال الطبقي .
(7)
بعد أربعين عاما من استشهادك رفيقنا غسان ، باتت قضيتنا اليوم محكومة لقيادات سياسية استبدلت المصلحة الوطنية العليا برؤاها وبمصالحها الخاصة ، ففي ظل الانقسام والصراع بين الأخوة الأعداء ، يحتفل عدونا الإسرائيلي بقيام دولته، ومرة أخرى نستعيد نحن الفلسطينيون في الذكرى الرابعة والستين للنكبة ، أطياف ذكريات ماضية ، ولكن في وضع مؤسف عنوانه "تزايد الصدام بين قطبي الصراع" وانسداد الأفق السياسي بالنسبة للدولة أو المشروع الوطني لا فرق ، والسؤال هو: ما هي تلك الغنيمة الهائلة التي يتنازع قطبي الصراع المتصادمين عليها؟ لا شيء سوى مزيد من التفكك والانهيارات والهزائم .. فالحرب بين الفلسطيني والفلسطيني لن تحقق نصرا لأي منهما ، وإنما هزيمة جديدة لمن يزعم انه انتصر ، يؤكد على هذا الاستنتاج الواقع الراهن الذي يعيشه أبناء شعبنا في الوطن والشتات .
(
نحن مع غسان حينما يقول ما معناه : لن يكون الكفاح الفلسطيني مجدياً، إلا إذا كان كفاح مواطنين حررت إرادتهم وعقولهم، ولن يكون القائد الوطني الماركسي جديراً باسمه إلا إذا كان واجبه التحريض على هذه الإرادة وخلق أشكال سياسية بلا مراتب وبلا رعية وأعيان أو محاسيب أو شلل داخل الحزب ، إذ أن استمرار هذا الوضع لن ينتج سوى قيادة رخوة عاجزة وغير متجانسة ستدفع بالحزب إلى مزيد من التفكك والخراب .
(9)
من وحي الاستبداد في الضفة وقطاع غزة .....
أتوجه من هنا من قطاعِ غزةَ ..سفينة نوحٍ الفلسطينية الأم الولادة للهوية الوطنية ..الى كل أبناءِ شعبِنا وقواه السياسية والمجتمعية في كل ِمدن ومخيمات الضفة والقطاع وكل مخيمات المنافي واللجوء ان يتوقفوا عن صمتهم وأن يبادروا إلى ممارسة الضغط الشعبي الجماهيري عبر الاعتصامات والمظاهرات بشعارٍ موحدٍ هو مقاومة كل ادوات ومظاهر الاستبداد والقهر من حكومتي رام الله وغزة غير الشرعيتين و "انهاءُ الانقسامِ" والعودة ُالى الاحتكام للشعب والانتخابات الديمقراطية ، مع التأكيد المطلق على حق ابناء شعبنا في ممارسة حرياتهم في الرأي والتعبير والكتابة والمعتقد والتنظيم والابداع والنقد والتظاهر والاعتصام والاضراب، اذ لا معنىً ولا قيمةً أو مصداقية لأي نضال ٍوطني سياسي أو كفاحي في ظل الانقسام والاستبداد السلطوي المستمر من حكومتي فتح وحماس ، وما شاهده واستنكره ابناء شعبنا من ممارسات دموية بشعة ضد المتظاهرين الرافضين لزيارة الصهيوني موفاز ..الرافضين لاستمرار المفاوضات العبثية واستجداء العدو الصهيوني لتقديم قرض مالي لسلطة رام الله ..الى جانب ممارسات حكومة حماس في غزة التي توجت بالامس بتعليق تسجيل الناخبين في قطاع غزة ... كل ذلك يدفعنا الى التأكيد مجددا على ادانة ورفض كل هذه الممارسات القمعية التي تراكم المزيد من عزلة وتراجع الحركتين مهما تبدى لهما من دواعي القوة المستبدة ، فلا معنى او مصداقية أو امكانية لأي هدفٍ فلسطيني في الضفة او قطاع غزة او المنافي دون الخلاص من هذه الحالة القمعية الاستبدادية الانقسامية التي كرست عوامل َالقلقِ والاحباطِ واليأس في صفوف أبناءِ شعبنا في كل أماكن تواجدِه مع تزايد عدوانية العدو الصهيوني وشروطه المذلة عبر مفاوضات عبثية لن تحقق سوى المزيد من التفكك وانسداد الآفاق ... فلتتداعى كافة الفصائل والاحزاب بالاستعدادِ والتحضير لهذا الحراك الجماهيري ، الكفيل وحده بإنهاءَ هذه الحالة من الانقسامِ واختيار قيادة جديدة كمدخل وحيدٍ لصمود شعبنا ومقاومته ووحدته وتعدديته الديمقراطية .
(10)
من وحي تجربة الشهيد المثقف الثوري غسان ...
مؤقتا سأتدارك إصراري على مركزية الموقع الطبقي وأهميته في صوغ المثقف وتحديد ماهيته ، لأقول أو أتقاطع مع شمولية مفهوم المثقف التي تتضمن الموقع الطبقي بالإضافة إلى مواقع أو رؤى إبداعية أخرى .. مثل المثقف المتخصص في مجال العلم أو المجتمع والعلوم الإنسانية، لكنني في كل الأحوال أرى نفسي منحازاً للمثقف وفق ارتباطه بالموقع الطبقي... فهذا هو الأصل عندي رغم أي خلاف بيني وبين الآخرين في هذا الجانب .
أما بالنسبة لاجتهادي المنحاز لشمولية مفهوم المثقف، فإن الشمولية التي أقصدها هنا لا تتناقض مع التعريفات التي عبّر عنها مجموعة من المفكرين في تعريفهم للمثقف بأنه " هو الإنسان الذي يضع نظرة شاملة لتغيير المجتمع" أو هو المفكر المتميز المسلح بالبصيرة كما يقول ماكس فيبر، أو هو الذي يمتلك القدرة على النقد الاجتماعي والعلمي والسياسي أو هو المفكر المتخصص المنتج للمعرفة، وهي تعريفات عامة لا تحرص على تحديد الزاوية أو الموقع الذي ينطلق منه ذلك المثقف في ممارسة النقد الاجتماعي أو السياسي أو في صياغته للنظرة الشاملة للتغيير .. والزاوية التي اقصدها هي الموقع الطبقي بالتحديد (عبر الالتزام التنظيمي بالحزب الماركسي) ، فهو الغاية والقاعدة المنتجة والمحددة لكل رؤية فكرية ثقافية أو لكل ممارسة نقدية .
(11)
تضمنت أعمال الشهيد غسان كنفاني رؤية استشرافية وواقعية استدعت التحريض على هذا الواقع المأزوم بمثل دعوتها الصريحة إلى المقاومة ، فهي رؤية ثورية مختلفة عن تلك التي تضمنتها العديد من أعمال الروائيين العرب الذين نقدر دورهم في تشخيص الواقع الاجتماعي دون الدعوة الصريحة إلى التغيير والثورة كما هو الحال عند محمود تيمور وتوفيق الحكيم و نجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبدالله على سبيل المثال ، ذلك إن روايات غسان كانت مسكونة بروح التحريض والتغيير الثوري، وهي بالتالي تقاطعت مع روائيين تقدميين من أمثال حنا مينا وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس ويوسف القعيد وعبد الرحمن منيف وحيدر حيدر وإلياس خوري بناحيتين أساسيتين
هناك أولاً وحدة المعاناة الشخصية والوطنية والمجتمعية بحيث نشهد كما يقول – حليم بركات- توجهاً نحو الدمج بين هوية الفرد وهوية المجتمع ، فتصبح الأماني والأزمات والانتصارات والهزائم والآلام والأفراح واحدة ، لان قضية المجتمع هي قضية الإنسان، والعكس صحيح ، فيصبح خلاص الأول هو خلاص الآخر، وهنا بالضبط تأثر غسان بالثورة كما عبرت عنها مبادئ الجبهة الشعبية وقبلها حركة القوميين العرب ، وكان إبداعه الأدبي نتاجاً لذلك التأثير .
وهناك ثانياً : مسألة المشاركة الفعلية والخوض في المعارك الوطنية الحقيقية التي يعيشها الشعب إلى جانب المعارك التي يعيشها المجتمع ، وفي مثل هذه الحالة تنبثق الأفكار والمشاعر من صميم الواقع المعاش ، وليس من مفاهيم مجردة.
(12)
تشترك رواية التغيير الثوري –لدى شهيدنا غسان- مع رواية التمرد الفردي برفضها الثقافة السائدة وبتشديدها على أهمية الإبداع الفني في الكتابة الروائية. غير انها تختلف في الوقت ذاته عن رواية التمرد الفردي بالتشديد على القضايا السياسية والخلاص المجتمعي والوقوف إلى جانب الطبقات المسحوقة ، ما يعني أن الدعوة للنفير الثوري عنده ، انطلقت من اهتماماته الذاتية التي توحدت مع رؤية الجبهة الشعبية السياسية التحررية ، الوطنية والقومية من ناحية والاجتماعية الطبقية من ناحية ثانية .
فقد تناول غسان الواقع الفلسطيني ، بمختلف جوانبه وتناقضاته وتعقيداته ، والتزام في نصوصه الروائية بتشخيص وتفكيك معظم جوانب المعاناة السياسية، والاجتماعية ، والإنسانية، للفلسطيني، دونما أن يشكل ذلك الالتزام الجبهاوي لديه قيداً على حريته الإبداعية وتعامله النقدي والتحريضي للواقع حيث اتخذت مضامين رواياته أشكالاً وصوراً جديدة وفريدة عكست مخيلته التي جسدت فنياً مبادئه السياسية التي عاش واستشهد في سبيلها .
(13)
في دراسته " العمل الفدائي ومأزقه الراهن عام 1970 " شدد رفيقنا الشهيد غسان على ضرورة الترابط العضوي بين النظرية والممارسة والتنظيم وبين البعد القومي والبعد الطبقي، وكل منهما مسألة محورية ، كما انتقد التنظيمات الفلسطينية قائلاً بأنها " أضحت بعد سنوات قليلة من نشوئها مكتبية بيروقراطية" ماذا لو عاد اليوم يعتكز عصاه ويحدق في خيبة غير عادية في ظل وظلام هذه الحالة من الانقسام وتشتت الهوية والشعب والقضية ؟ ماذا لو التقى برفاقه بدوافع الحنين إلى ذكريات الماضي النضالي المجيد لفصائل اليسار وألقى في جمع غفير منهم كلمة دون أن يعرف أن معظمهم ما عاد يكترث بأعماله ولا باستلهامها أو الاهتداء بها حتى لو عرفها .. وما عاد يكترث أيضا بالفكر الماركسي ومنهجه وبالمبادئ الثورية الوطنية والقومية والأممية التي استشهد من أجلها غسان ..!؟ .... الاجابة برسم رفاقي الكوادر الثورية عموما والشابة خصوصا القابضين على الجمر .
(14)
ربط الشهيد غسان كنفاني مصيره الشخصي –بشكل مباشر وغير مباشر - بمصير شعبه كتابة وعملاً ، هكذا كانت رواياته صورة خلاقة عن قراره الذاتي ، فتوحدت معاناة شعبه بمعاناته الخاصة، وتمثل في صوته ، صوت الفلسطينيين المقتلعين – المنفيين – المسحوقين – المكافحين . لقد تمثل في صوته خاصة ، صوت الجماهير الذين دفعوا غالياً ثمن الهزائم بحياتهم قبل ممتلكاتهم القليلة. ليس غريباً ، إذاً ، أن نكتشف في كتاباته المكونات المغفلة في المعاناة الفلسطينية. ففي روايته "رجال في الشمس" يظهر بشكل فريد كيف ان الفلسطيني مهدد في صلب حياته بالموت من دون أن يسمع له صوت مهما دق ناقوس الخطر، لأنه مقتلع وبلا وطن لا يستطيع أن يكون عزيزاً في أي بلد آخر ، حتى ولو كان بلداً عربياً ، بل خاصة في البلدان العربية في ظل الأنظمة السائدة بما فيها النظام الفلسطيني نفسه ".
(15)
بعد حوالي عامين على هزيمة حزيران 1967 ، نشر غسان روايته " أم سعد" التي يحرض فيها الفلسطيني مجدداً على التحرر الذاتي الداخلي بما يمكنه من التحرر من السجن الكبير الذي فرضه النظام العربي على الفلسطينيين بعد النكبة ، ففي هذه الرواية نلاحظ وعي غسان لحياته بأنها سجن في حد ذاتها ، فيتساءل : " أتحسب أننا لا نعيش في الحبس ؟ ماذا نفعل نحن في المخيم غير التمشي داخل ذلك الحبس العجيب ؟ الحبوس أنواع .. المخيم حبس ، وبيتك حبس ، والجريدة حبس والراديو حبس .. أعمارنا حبس ، والعشرون سنة الماضية حبس ... أنت نفسك حبس " إن بداية مثل هذا الوعي هي بداية الدعوة من أجل التغيير الثوري، في ضوء إدراك الفلسطيني "أن التخلص من الوحل في المخيم- كما يقول حليم بركات - لا يكون بجرفه كلما هطل المطر ، بل بسد مزراب السماء، ذلك أن الاكتفاء بجرف الوحل هو تكيف مع الواقع التعس وتصرف خضوعي انسجامي ، أما سد مزراب السماء فتحول راديكالي باتجاه التعامل مع مصادر المشكلة التي لا تحل من دون تغيير الواقع الذي نشأت عنه " .
إن أعمال غسان كنفاني ورواياته التي حرص من خلالها على إعادة صياغة الواقع ، لم تكن مجرد عمل فني قائم بذاته، أو انعكاس للبنية الاجتماعية والنشاطات والقيم والمعتقدات فحسب، بل هي أيضاً نتاج فني فريد لعملية الدمج الخلاق بين إبداعه والتزامه وانتمائه الحزبي للجبهة حيث تجلى هنا المعنى الثوري لمفهوم الالتزام في الرواية الأدبية كما هو حال غسان في كتاباته السياسية الأخرى ، حيث استطاع أن يكيف موهبته وإبداعه الذاتي مع قناعاته الثورية ، فجاءت رواياته تعبيراً عن مكنوناته الإبداعية التي حملت في نصوصها خطاباً متنوع المضامين التحريضية والمفاهيم الثورية المتفاعلة مع معاناة شعبه والتي شكلت في نفس الوقت "نوعاً من التنفيس أو التطهر الذاتي والمعرفي العام".
(16)
إن وعي رفيقنا الأديب الروائي والمثقف الثوري بطبيعة الدولة الصهيونية ووظيفتها أدى به الى رفض ما يسمى بالدولة المستقلة او الحل المرحلي...ولم يكن ثابتا في جدوله سوى النضال من اجل استرداد فلسطين شرطا وحيدا لحق العودة ، والآن بعد اربعة وستين عاما من اللجوء والمعاناة والنضال ، نقذف بالسؤال في وجه فتح وحماس ، على ماذا تتقاتلون ؟ وجوابنا السريع أنكم تتصارعون على السلطة وتقاسمها وعلى المصالح في إطار عربي وإقليمي ودولي لم يعد معنياً بعملية السلام أو عدالة القضية الفلسطينية إلا وفق الرؤية الأمريكية الإسرائيلية . وفي هذا السياق يقول الروائي الياس خوري " إذا حللنا عملية التسوية منذ مدريد حتى الآن ؛ نكتشف أن الإسرائيليين لا يريدون تسوية بل استسلاماً ، وبالفعل استسلم الفلسطينيون في " أوسلو" لكن الإسرائيليين يريدون أكثر من ذلك " .
فقد تحولت المقاومة الفلسطينية إلى منظمة التحرير الفلسطينية، لتشكّل "شبه حكومة" و "دولة ضمن الدولة" ، فتعرضت بذلك إلى مزيد من الضغوط العالمية والعربية في سبيل التقبل التدريجي لحل سلمي مزعوم ووهمي ، كبديل وليس كمتمم للكفاح المسلح. وبذلك نشأ جناح يبحث عن الاعتراف الدولي، وتعزز الجانب المؤسسي البيروقراطي على حساب الجانب الثوري، كما كتب غسان كنفاني في حينه، بمعنى أن قيادات منظمة التحرير أصبحت هي وأساليب عملها وانتقالاتها واتصالاتها وتشكيلاتها ومراكزها مكشوفة تماماً .
إن هذا الموقف ، تجاه بيروقراطية م.ت.ف ، يتطابق ، بل ويعكس مفهوم التغيير الثوري كمحدد رئيسي لروايات غسان ، وذلك عبر رفضه للنظام السائد ودعوته التحريضية للثورة على الوضع القائم ورفضه للثقافة السائدة المعبرة عن مصالح الشرائح الحاكمة وولاءاتها الرجعية التقليدية تأكيداً لرفضه لمفاهيم الثقافة الموروثة .
(17) :تساؤلات في ذكرى الغائب الحاضر غسان.............
إذا ما تأملنا مسيرتنا الوطنية من أجل التحرير في غمرة اوضاع التفكك والانقسام والصراع على السلطة بين حكومتي رام الله وغزة غير الشرعيتين اللتان تمارسان سطوة الحكم والاستبداد وقمع حريات الرأي بـ " شرعية" القوة والاكراه بمعزل عن الاهداف التحررية الوطنية الكبرى من جهة وبتجاوز سافر للديمقراطية التي اوصلتهما الى السلطة من جهة ثانية..اذا تأملنا هذا الواقع المرير على مدار سنوات الانقسام ،نكتشف ان صراعات وممارسات ومصالح الحكومتين الطبقية النقيضة لمصالح جماهير الفقراء ،ادت - في ظل استمرار غياب البديل اليساري الديمقراطي -الى تغييب شعبنا وشل حركته وعجزه عن التوقف أمام قضاياه أساسية ، ما يبرر اثارة الاسئلة ..هل كانت الديمقراطية مهدا للتغيير والتطور والصمود ام اصبحت لحدا او مقبرة للقضية والمجتمع ؟؟؟ ما هي اهداف النضال الوطني ؟؟؟؟ وما هو الموقف من الكيان الصهيوني الذي نحاربه ؟ ما هو دور ووظيفة هذا الكيان في إعاقة تحرر واستنهاض ووحدة شعوب الأمة العربية ؟ ما علاقة الكفاح المسلح بالتسييس الديمقراطي وحرية الرأي داخل المجتمع الفلسطيني نفسه، وهل تتكامل وتتفاعل قضايا التحرر والسياسة والديمقراطية ، أم أن لكل منهما قناة منعزلة عن الأخرى ؟؟؟ وما قيمة صراع الفلسطينيين مع العدو إذا كان معزولا عن محدده الأول والأخير كصراع عربي صهيوني ؟؟؟... باختصار نستذكر كلمات الشهيد غسان ومأثوراته وانتاجه الادبي والسياسي ..تلك المشاعل المضيئة التي ما زالت تغوص في معانيها مشاعر ما تبقى من رفاقه الاوفياء للشهداء والمبادىء ، بمثل ما تغوص في مشاعر وعقول وأقلام المثقفين الثوريين الذين كتبوا آلاف الصفحات عن زخم إنتاج شهيدنا المثقف العضوي المناضل والروائي المبدع والكاتب السياسي والإعلامي غسان كنفاني الذي استطاع أن يصنع هالته الفريدة، وترك لنا تاريخاً حافلاً بالإبداع والشموخ والتحريض على التغيير والثورة، يعتز به ويسير على هداه رفاقه القابضين على الجمر في الجبهة الشعبية الموزعين على مساحة الوطن الفلسطيني كما في الشتات والمنافي وفي كل أرجاء هذا الكوكب .
(18)
كانت روايات الشهيد غسان صورة خلاقة عن قراره الذاتي ، حيث ربط مصيره الشخصي –بشكل مباشر وغير مباشر - بمصير شعبه كتابة وعملاً ، فتوحدت معاناة شعبه بمعاناته الخاصة، وتمثل في صوته ، صوت الفلسطينيين الفقراء والمضطهدين ،المقتلعين – المنفيين – المسحوقين – المكافحين . لقد تمثل في صوته خاصة ، صوت الجماهير الذين دفعوا غالياً ثمن الهزائم بحياتهم قبل ممتلكاتهم القليلة. ليس غريباً ، إذاً ، أن نكتشف في كتاباته المكونات المغفلة في المعاناة الفلسطينية. ففي روايته "رجال في الشمس" يظهر بشكل فريد كيف ان الفلسطيني مهدد في صلب حياته بالموت من دون أن يسمع له صوت مهما دق ناقوس الخطر، لأنه مقتلع وبلا وطن لا يستطيع أن يكون عزيزاً في أي بلد آخر ، حتى ولو كان بلداً عربياً ، بل خاصة في البلدان العربية في ظل الأنظمة السائدة بما فيها النظام الفلسطيني نفسه " .
(19)
رفاقي واصدقائي ....اذا تأملنا هذا الواقع المرير على مدار سنوات الانقسام ،نكتشف ان صراعات وممارسات ومصالح الحكومتين الطبقية والسياسية النقيضة لمصالح جماهير الفقراء ،ادت - في ظل استمرار غياب الحزب او الفصيل الماركسي القادر على بلورة وقيادة البديل اليساري الديمقراطي -الى تغييب شعبنا وشل حركته وعجزه عن التوقف أمام قضاياه ألاساسية ، ما يبرر اثارة الاسئلة ..هل كانت الديمقراطية مهدا للتغيير والتطور والصمود ام اصبحت لحدا او مقبرة للقضية والمجتمع ؟؟؟ ما هي اهداف النضال الوطني والديمقراطي ؟؟؟؟ وما هو الموقف من الكيان الصهيوني الذي نحاربه ؟؟؟ ما هو دور ووظيفة هذا الكيان في إعاقة تحرر واستنهاض وتقدم شعوب الأمة العربية ؟ ما علاقة الكفاح المسلح بالتسييس الديمقراطي وحرية الرأي والمعتقد داخل المجتمع الفلسطيني نفسه، وهل تتكامل وتتفاعل قضايا التحرر والسياسة والديمقراطية ، أم أن لكل منهما - كما يزعم البعض -قناة منعزلة عن الأخرى ؟؟؟ وما قيمة صراع الفلسطينيين مع العدو إذا كان معزولا عن محدده الأول والأخير كصراع عربي صهيوني ؟؟؟... باختصار نستذكر كلمات الشهيد غسان ومأثوراته وانتاجه الادبي والسياسي ..تلك المشاعل المضيئة التي ما زالت تغوص في معانيها مشاعر ما تبقى من رفاقه الذين ما زالوا اوفياء للقضية وللشهداء والمبادىء ولهويتهم الفكرية ( الماركسية)، بمثل ما تغوص في مشاعر وعقول وأقلام المثقفين الثوريين الذين كتبوا آلاف الصفحات عن زخم إنتاج شهيدنا المثقف الماركسي العضوي، المناضل والروائي المبدع والكاتب السياسي والإعلامي غسان كنفاني الذي استطاع أن يصنع هالته الفريدة، وترك لنا تاريخاً حافلاً بالإبداع والشموخ والتحريض على التغيير والثورة، يعتز به ويسير على هداه رفاقه المخلصين الاوفياء لتاريخ ومبادىء وفكر الجبهة وتضحياتها ...
(20)
فصائل وأحزاب اليسار بحاجة الى كوادر قيادية ثورية واعية بالماركسية ومنهجها وواعية اكثر بمكونات واقع مجتمعاتها قادرة على الاجابة على اسئلة الجماهير الفقيرة والاندماج في اوساطها والتعلم منها وتعليمها وتنظيمها وتثويرها ..بحاجة الى قيادات وكوادر متواضعة وفية لغسان كنفاني والحكيم وابوعلي مصطفى ووديع وكل الشهداء ..قيادات ملتزمة بالمبادىء العظيمة التي ضحوا بارواحهم من اجلها ..ووفية لاسر الشهداء والجرحى والاسرى الصامدين ..ووفية لجماهير الفقراء والكادحين وقود الثورة وهدفها ...اخيرا فصائل واحزاب اليسار بحاجة ماسة جدا جدا لقيادات مبدئية صادقة لا تعرف النفاق والانتهازية والفساد والشللية..الفصائل اليساريةبحاجة ماسة الى مثل هذه القيادات الثورية الوفية الواعية الصادقة ليرفعوها على أكتافهم ، وليست بحاجة الى قيادات يأتون إليها ليرتفعوا على أكتافها ...ويتنكروا لمبادئها وجوهرها الاخلاقي...ذلك هو اول الطريق لخروج قوى وفصائل اليسار من ازماتها الخانقة شبه المستعصية التي تنذر - في حال استمرار تراكماتهادون علاج جراحي ثوري - الى تصدع البناء والانهيار ...
(21)
في ذكراه الاربعين ، ربما نسأل أنفسنا ، ترى لماذا لا زال يُكتَب حتى اليوم عن غسان كنفاني وكأنه اغتيل أمس أو كان أدبه كتب قبل لحظة، والجواب بسيط ، غسان كنفاني مناضل ومثقف ثوري وروائي مبدع متعدد الأوجه والدلالات والأفكار وعمق الرؤية ، فمع كل مرة تقرؤه تكتشف جديداً، كلما رأيته اكتشفت في وجهه ملامح جديدة ، المؤسف أننا نستطيع الزعم بان العدو اكتشف مواهب الرجل قبل أن يكتشفها كثير من الفلسطينيين والعرب، فحسم أمره في حين لا زال البعض في الساحة الثقافية اليسارية الفلسطينية والعربية غير منتبه إلى ذلك الكائن السري الساكن بين حروف كنفاني .
اغتاله الأعداء لأنه حمل فاعلية الكتابة التي تصنع جيلاً سيعثر على أداة التعبير عن فاعليته في سلاح الوعي بالنظرية الثورية والواقع وفي صيرورة بناء الحزب الثوري الجماهيري ضمانة رئيسية ووحيدة لكي يستعيد اليسار الماركسي دوره النضالي التحرري والديمقراطي .
المداخلة الاخيرة....عهد ووفاء
في الثامن من تموز 1972استشهد في بيروت رفيقنا القائد الجبهاوي ..المثقف الثوري الماركسي الوطني والقومي والاممي الاديب الروائي الفنان غسان كنفاني..الناطق الرسمي للجبهة رئيس تحرير مجلة الهدف على يد العدو الصهيوني حيث قام عملاء الموساد بوضع عبوة ناسفة انفجرت في سيارته واستشهد معه ابنة شقيقته الشهيدة لميس……..
رفاق وأصدقاء غسان كنفاني والحكيـم وأبو علي مصطفى ووديع حداد ... في حكايا الثورة قصّة ملحمة وطنية اسمها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين .. تابعوها مع أبنائكم وأحفادكم .. حكاية لمسيرة سنديانة ما زالت على قيد حياة القضية والنضال الوطني والقومي والأممي، رافضة لعصر الانحطاط الرسمي الفلسطيني والعربي في هذه المرحلة .. وبإصرارها العنيد عبر أبنائها من الرفاق والرفيقات والأصدقاء والمناصرين، تسهم بدورها الطليعي الثوري في مسيرة النضال التحرري الوطني والقومي الديمقراطي الثوري في إطاره الأممي والإنساني.... اقرؤوها في وجوه وعيون الفقراء، وعلى جبين المستضعفين وثياب اللاجئين في المخيم .. وفي عقول وقلوب كوادر وقواعد الجبهة المتمسكين بوعي بهويتها ... فكراً ماركسياً ومنهجاً علمياً وعلمانياً تقدمياً واشتراكياً لا يعرف لون الحياد ... منحازة دوما لمن هم "تحت" كانحياز ناجي لفقراء الأرض وملحها .. تتقن كل لهجات الجماهير المسحوقه وتناضل من أجل تحررها وانعتاقها وثورتها المشتعلة حتى الانتصار رغم كل رياح اليمين بكل ألوانه وأشكاله التي تلبس رداء الليبرالية الرثة او رداء الاسلام السياسي ...كونوا اوفياء لغسان وكل الشهداء...كونوا اوفياء مخلصين لكل المناضلين وفي مقدمتهم المعتقلين من رفاقنا ورفيقاتنا في الجبهة وفي مقدمتهم المناضل الباسل القائد أحمد سعدات والمناضل القائد والمثقف الثوري أحمد قطامش وكل المعتقلين البواسل الذين أخلصوا للجبهة ووضعوها في عقولهم وقلوبهم وحدقات عيونهم .. وأصبحوا مثلاً يُحتذى لرفاقهم المخلصين لمبادئها .. الرافضين لكل أشكال الهبوط او الانتهازية اوالشللية او الارتداد الفكري عن هوية الجبهة أوالتراجع عن الثوابت الوطنية والقومية ، والرافضين لأي شكل من أشكال الاعتراف بدولة العدو الصهيوني .. المؤمنين بأن الحل المرحلي للدولة هو حل نضالي لا يقوم عبر الاعتراف بـ"اسرائيل" وإنما عبر استمرار النضال لتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية لكل سكانها كحل استراتيجي يكفل وحده حل المسألة اليهودية في إطار المجتمع العربي الاشتراكي الموحد
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر