النص الكامل لمحاضرة مسئول الدائرة الثقافية في الجبهة الشعبية أ.غازي الصوراني بعنوان " الانتماء القومي وإشكالية الهوية" القيت في عدد من الندوات الثقافية المعقودة لكوادر الجبهة في مناطق قطاع غزة خلال الفترة من 25/حزيران - 6 / تموز / 2010.
تقديم:
إن الوضع الراهن، الذي تعيشه شعوبنا العربية، لم يكن ممكناً تحققه بعيداً عن عوامل التفكك و الهبوط التي بدأت في التراكم منذ اتفاقية "سايكس بيكو" وتجزئتها لوطننا العربي عام 1916، ووعد بلفور عام 1917، والنكبة الأولى لشعبنا العربي الفلسطيني عام 1948، ثم انهيار الوحدة العربية بين مصر و سوريا في أيلول 1961، و تطورت بعد هزيمة حزيران 1967، و تعمقت و امتدت بعد كامب ديفيد 1979 ووادي عربة وأوسلو والحكم الإداري الذاتي وصولا إلى هذه الحالة من الخضوع الرسمي العربي وقبوله بتفكيك وإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية العربية وفق المخطط الأمريكي الذي يجري تطبيقه اليوم في بلادنا، بحيث يمكن القول بأن الربع الأخير من القرن العشرين، والأعوام الأولى من القرن الحادي والعشرين، حملت معها صوراً من التراجع لم تعرف جماهيرنا مثيلاً لها في كل تاريخها الحديث، فبدلاً مما كان يتمتع به العديد من بلدان الوطن العربي في الستينات من إمكانات للتحرر و النهوض الوطني و القومي، تحول هذا الوطن بدوله العديدة و سكانه إلى رقم كبير –يعج بالنزاعات الداخلية و العداء بين دوله-، لا يحسب له حساب أو دور يذكر في المعادلات الدولية، و تحولت معظم أنظمته و حكوماته إلى أدوات للقوى المعادية، فيما أصبح ما تبقى منها عاجزاً عن الحركة و الفعل و المواجهة، في إطار عام من التبعية على تنوع درجاتها و أشكالها السياسية و الاقتصادية و التكنولوجية والثقافية و السيكولوجية، في ظروف فقدت فيها القوى و الأحزاب الديمقراطية الوطنية و القومية و اليسارية قدرتها –لأسباب ذاتية و موضوعية- على الحركة و النشاط و النمو، و تراجع دورها في التأثير على الناس أو على الأحداث من حولها.
وبمناسبة الحديث عن الانتماء القومي وإشكالية الهوية تحضر إلى الوعي جملة متداخلة من الأسئلة: ما هي العوامل التي صنعت إخفاق المشروع القومي النهضوي العربي الحديث؟ لماذا انتهى المشروع القومي من مشروع الدولة القومية الموحدة إلى مشروع دولة قطرية لا تحتفظ من القومية إلا بشعارات لا وظيفة لها، إلا ترسيخ موقع الدولة القطرية إياها؟ وما هي طبيعة الدور الذي لعبته الشرائح البيروقراطية والكومبرادورية المسيطرة على أنظمة الدولة القطرية منذ انهيار المشروع القومي في مصر 1970 وبداية مرحلة جديدة من التبعية والخضوع للنظام الرأسمالي العالمي؟ وكيف كرست الدولة القطرية في ظل المرحلة الجديدة ما يسمى بعملية إعادة إنتاج التخلف في بلادها بالتحالف المباشر وغير المباشر مع التيارات الدينية السلفية؟ وكيف استفادت الحركات الإسلامية من هذه التحولات، خاصة بعد أن أدت دورها في أفغانستان بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية؟ وصولاً إلى استكمال الهيمنة الأمريكية على معظم بلداننا العربية إلى جانب تفاقم عدوانية وصلف وعنصرية دولة العدو الصهيوني و إصرارها على فرض شريعة المحتل الغاصب, ورفضها التعاطي مع قرارات الشرعية الدولية أو الإعتراف بحق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال وحق العودة, الأمر الذي أوصل فكرة "حل الدولتين" إلى أفق مسدود, وبالتالي تزايد إنتشار مظاهر القلق والإحباط في أوساط الشعوب العربية عموما, والشعب الفلسطيني خصوصاً, مع تزايد حالات التفكك الاجتماعي والطائفي والفقر والبطالة التي أدت بدورها إلى استفحال الصراعات والإستقطابات الداخلية على المستوى العربي, واستفحال الصراعات الدموية في الساحة الفلسطينية التي أدت إلى تكريس الانقسام والانفصال بين الضفة وقطاع غزة الذي سيطرت عليه حركة حماس منذ منتصف العام 2007 .
إن كل هذه التحولات التي أدت إلى تكريس الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في فلسطين وبلدان الوطن العربي من ناحية، وتكريس الهيمنة الأمريكية الصهيونية على مقدرات شعوبنا من ناحية ثانية, ساهمت في خلق المناخات الملائمة لإنتشار وتوسع الحركات السلفية الأصولية·, في ظل تفكك أو تراجع أو انهيار الحركات والفصائل والأحزاب اليسارية الديمقراطية ، الذي أسهم بدوره في تحفيز الحركات الدينية وتوسعها وانتشارها الكمي الهائل في مجتمعاتنا باسم "الإسلام السياسي" تحت شعار " الإسلام هو الحل ".
والسؤال هنا : هل تتوفر لهذا الشعار أي إمكانية واقعية للتحقق في بلادنا باسم الخلافة الإسلامية أو غير ذلك من الأنظمة الدينية في اللحظة المعاصرة من القرن الحادي والعشرين ؟ إننا إذ نؤكد احترامنا لتراث شعوبنا الديني ، وللمشاعر الدينية، إلا أننا نرى أن هذه المنطلقات الدينية والتراثية ، خاصة في إطار الإسلام السياسي، لن تكون قادرة –وليست راغبة بالطبع - على مواجهة الأزمات السياسية الاجتماعية الاقتصادية والثقافية المستعصية في بلادنا، انطلاقاً من ضرورة التمييز بين الدين والدولة ، أو من منطلق الهوية القومية العربية أو حتى الهوية الوطنية ، لأن تيار الإسلام السياسي هو تيار نقيض للقومية العربية "لصالح هوية أكثر شمولاً لا حدود جغرافية لها ، هي الهوية الإسلامية ، وقد بنى أصحاب هذا التيار موقفهم على أساس عقيدي مؤداه أن القومية مقولة علمانية تناقض العقيدة والدين ، وأن أواصر الجنس والأرض واللغة والمصالح المشتركة إنما هي عوائق حيوانية سخيفة ، وأن الحضارة لم تكن يوماً عربية وإنما كانت إسلامية ، ولم تكن قومية وإنما كانت عقيدية (سيد قطب ) ، بينما اعتبر البعض الأخر موقفهم على أساس أن النزعة القومية مصدرها الاستعمار الصليبي ، وأن نصارى الشام هم الذين روجوا لها (د.يوسف القرضاوي). وقد بلغ التطرف عند بعضهم إلى حد اتهام الدعوة إلى القومية العربية بالكفر الصريح . لكن يوجد داخل هذا التيار الديني من يدعو إلى التعامل مع المنطقة كوحدة ذات مصالح وهوية مشتركة ، ودفعها باتجاه تحقيق الوحدة العربية (راشد الغنوشي) ، كما يوجد من يدعو إلى التوفيق بين العروبة والإسلام (د.حسن الترابي) "[1]، وفي كل الاحول ، فإننا بالرغم من اختلافنا مع المنطلقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للحركات الدينية ، إلا أننا نحرص على أن تكون العلاقة بين جميع القوى السياسية ، مستندة إلى الحوار الديمقراطي المرتكز إلى مفاهيم الاستنارة العقلانية والموضوعية.
وفي هذا الاطار ، تنطلق اسئلتنا المثارة حول الدولة القطرية والقومية والاسلام السياسي ، من فرضية تقر بشرعية الفكرة القومية، ضد التبعية والتجزئة والتخلف، وهي شرعية تنهل شخصيتها من بابين: الحق التاريخي المشروع للجماعة العربية في التوحيد القومي، ثم تصحيح وازاحة أوضاع استعمارية شاذة عبثت بالجغرافيا السياسية العربية إبان حقبة الاحتلال وما بعدها وصولاً إلى تجزئة المجزأ من الاقطار العربية في المرحلة الراهنة .
على أن هذه الأسئلة، تنطوي على اتهام صريح لتجربة التعبير عن تلك الفكرة القومية نظريا، وحزبيا، ودولتيا. فما من شك –كما يقول محمد الجابري- في أن "شعوب العالم العربي تجتاز اليوم ظروفا صعبة: تواجه تحديات تتهددها ليس فقط في هويتها كشعوب تتطلع إلى تحقيق نهضتها وتقدمها واستقرارها، بل تواجه تحديات وأخطارا تهدد كثيرا منها في كيانها كوجود. ومن هنا هذا السؤال الذي يفرض نفسه على كل شعب أو طائفة، سؤال: من أنا؟ من نحن؟ وهذا السؤال المقض للمضاجع لا يتعلق بالحاضر، بل يتعلق أكثر بالماضي والمستقبل"[2]!
ذلك أن مسألة الهوية عندما تطرح نفسها على شعوب ، كالشعوب العربية التي اجتازت خلال تاريخها المديد تجارب قاسية، يجب أن ينظر إليها على أنها تعبير عن الحاجة، لا إلى تحديد الهوية، بل إلى إعادة ترتيب عناصرها وإعادة إرساء علاقتها بالمحيط. بالشكل الذي يُمَكّن من اجتياز الأزمة التي يطرحها سؤال الهوية في مثل هذه الظروف التي تشير أو توحي إلى أي راصد غير متعمق لما يجري في الساحة الثقافية والاجتماعية العربية بأنه " سيصطدم بوجود وجهات نظر متباينة كثيرة حول مسالة الهوية ، الأمر الذي يجعله يخال أنه في مواجهة هويات متعددة تشكل كل واحدة منها فضاءً قائماً بذاته ، لا رابط بينه وبين الفضاءات الآخرى ، ما يتبدى للبعض أننا نعاني فعلاً أزمة هوية في الوطن العربي"[3] مع أنها في الواقع هي ازمة مجتمعية بسبب فشل واخفاق القوى الماركسية القومية النهضوية العربية .
وفي ضوء التباين الشديد بين وجهات النظر حول الهوية بين أهل اليمين والوسط واليسار ، فإن الحديث عن الهوية لا بد أن يكون محاطاًَ بالكثير من أوجه الاختلاف والتناقض الفكري والسياسي ، خاصة في وطننا العربي الممزق قطرياً وطائفياً وطبقياً واثنياً وعشائرياً من ناحية ، والممزق أيضاً بين تيارات الحاضر والماضي وضبابية المستقبل، فبلداننا العربية تعيش حالة من "الشيزوفرانيا" المعرفية والسياسية، بحكم وجودها الشكلي في القرن الحادي والعشرين وانتمائها الفعلي والجوهري للقرن الخامس عشر ، وما ينتج عن ذلك من تشتت في مفهوم الهوية ذاته ، حيث نجده مفهوم غامض في أوساط الأغلبية الساحقة من الناس في المجتمعات العربية .
فلو سألنا أحد الناس العاديين - في أي بلد عربي- من أنت ؟ لما وجد مشكلة في الإجابة التي سيقول فيها: أنا فلان من العائلة أو القبيلة أو الحاموله أو الطائفة الفلانية (الهوية هنا مرادف للتخلف أو الولاءات العشائرية والطائفية والقطرية) .
ولو سألت "مثقفاً" من أهل السلطة أو Ngo's السؤال ذاته، فسيدخل معك في متاهة من الفذلكات المحكومة لمفردات وتعابير لا علاقة لها بتطور شعوبنا أو الخروج من أزماتها السياسية والمجتمعية ، بقدر ما تعكس متطلبات الجهات الأجنبية المُمَولة التي تسعى إلى تكريس التبعية والسيطرة الإمبريالية على مقدراتنا .
أما المثقف الموضوعي، العضوي، المنتمي ، الجبهاوي مثلاً فهو يدرك معنى السؤال ويربط الاجابة عليه انطلاقاً من وعيه لهوية حزبه الفكرية، ويعلن على الفور انتماؤه إلى الوطن العربي الكبير، دون أن يتجاوز هويته الوطنية و هموم وطنه الصغير، وهو في نفس الوقت يرتقي بالهوية من حيث التفكير إلى مستوى البحث العلمي، لمعرفة الأسباب الحقيقية لهزائمنا واستمرار السيطرة الخارجية على مقدراتنا، بما يضمن تحقيق أهدافنا في التحرر الوطني والقومي الديمقراطي.
حول مفهوم الهوية:
مفهوم الهوية دخل او تسرب الى الفكر العربي[4] في نهاية القرن 19 أو بداية القرن 20 ، حيث أننا لا نجده ضمن المصطلحات المترجمة في تلك الفترة مثل : الحرية والثورة/ الأمة / القومية / المساواة / الوطن.
فقد حدد العربي هويته في العصر الحديث متأثرا بعلاقات الهيمنة التي فرضها عليه الغرب و بدافع التحرر من هذه الهيمنة من ناحية ومن كل مظاهر الاستغلال الطبقي والاستبداد والاضطهاد الداخلي من ناحية ثانية.
من هذا المنظور التحليلي الجدلي ، نُعَرِّف الهوية على أنها "حقيقة الشيء أو الشخص المطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية[5] , والهوية أيضاً هي وعي للذات و المصير التاريخي الواحد ، من موقع الحيز المادي و الروحي الذي نشغله في البنية الاجتماعية ، و بفعل السمات و المصالح المشتركة التي تحدد توجهات الناس و أهدافهم لأنفسهم و لغيرهم ، و تدفعهم للعمل معا في تثبيت وجودهم و المحافظة على منجزاتهم و تحسين و ضعهم و موقعهم في التاريخ . كما تُعَرّف الهوية أيضاً بأنها "السمات المشتركة التي تتميز بها جماعة معينة من الناس وتعتز بها ، أو هي مجموع المفاهيم العقائدية والتراثية لجماعة إرتبطت بتاريخ وأصول إنسانية ومفاهيم فكرية أدت إلى افراز سلوك فكري وقيمي مترجم بأدب وفن وفلكلور جعل من تلك الجماعة ذو شخصية مميزة عن غيرها . فالهوية إذن 'هي مجموع السمات الروحية والفكرية والعاطفية الخاصة التي تميز مجتمعاً بعينه وطرائق الحياة ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات وطرائق الإنتاج الاقتصادي والحقوق.
وفي هذا السياق نشير إلى أن الهوية ، من حيث كونها أمرا موضوعيا و ذاتيا معا ، هي وعي الانسان و احساسه بانتمائه الى مجتمع أو أمة أو جماعة أو طبقة في اطار الانتماء الانساني العام, انها معرفتنا بما ، و اين ، نحن ، ومن اين أتينا، و الى اين نمضي ، و بما نريد لانفسنا و للاخرين ، و بموقعنا في خريطة العلاقات و التناقضات و الصراعات القائمة، كما عُرّفت الهوية أيضاً باعتبارها شعوراً جمعيًّا لأمةٍ أو لشعبٍ ما، يرتبط ببعضهِ ارتباطاً مصيريًّا ووجوديًّا.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر