فراس عمر
لا شك في أن الإبداع سمة إنسانية بامتياز؛ لاعتمادها على عقل خلاق لا يرضى بما هو موجود ومألوف، ويطمح دائما للوصول إلى مراتب أعلى وأسمى، وعليه فإن الإنسانية بمجموعها وبصفتها الجماعية تستند في مبررات وجودها على الإبداع المنبثق من عقول أفرادها المبدعين، ولذا استحق المبدعون العناية والتقدير والخلود!!
وبما أن الإبداع سمة إنسانية خلاقة، نجده شاخصا مستقرا عند كل ملة ، فلا يختص بهذه السمة شعب من الشعوب ولا تستقل بها أمة دون أمة ، يقدم الكل ما يتوجب عليه ليرفد عطاءات الإبداع في كل زمان ، ولا نبالغ إن قلنا أنه أيضا موجود في كل مكان إذا ما نظرنا إلى الجغرافيا بتقسيماتها الحضارية التي أضحت معروفة لدى المفكرين. وباستعراض مسيرة البشر الحضارية من لدن استقرار الحضارات وحتى الآن ، يتبين أن الإبداع كان هو المحرك للبشر في عصور اليونان القدماء والفراعنة المصريين والكنعانيين والفينيقيين والعرب المستقرين في مدنهم في عصورهم الجاهلية والبدو الرحل عربا وغير عرب ، حتى إذا ما ركز المرء ضوء الكلمات على مسيرة العرب والمسلمين الحضارية وجد أن الإبداع خطا خطوات تبهر العقل في نتاج عقلي ومادي عز نظيره ، سواء في ذلك إنتاج الأفكار وصناعتها في مؤلفات قهرت الزمن شعرا ونثرا وعلوما وفلسفة ، واختراعات فاقت زمانها في علم الحيل والهندسة والفلك والطب وغيرها ، كل ذلك كان بفضل توفر بيئة اجتماعية وثقافية وسياسية مشجعة على الإبداع.
ولكن الحال تردت والإبداع تراجع إلى أدنى مستوى له ، ولم يعد له مكان في السجلات العاصرة لهذا التاريخ المشرق ، عندما تخلى الناس عن معالي الرتب ، ورضوا بالتافه واطمأنوا إلى سفاسف الأمور ، وذلك عندما قاموا بتعطيل آلة العقل ، وتقوقعوا في سراديب الظلام ، ولم يبق من الإبداع إلا ذكراه التي تنعاه بكرة وأصيلا، والأسباب في واقع أمرها متعددة ومتشعبة ، منها السياسي والاجتماعي والثقافي ، ومنها ما يعود إلى القناعات الفردية ، تلك القناعة التي لم تعد كنزا لا يفنى ، بل أضحت تثبيطا للعزائم لا يُنسى.
ولست أنطلق بحال من الأحوال من ما بات يعرف بنظرية المؤامرة ، عندما أقر حقيقة واقعة ، فأقول: إن ما ابتليت به بلادنا من استعمار وتدمير ، وإغراقها في مستنقع الحرب والدم ، جعل من مجتمعاتنا مجتمعات غير مستقرة ، وقد زاد هذه الحالة ترديا ما تبع ذلك من محاولات بنائية سياسية واجتماعية وفرض لاستراتيجيات أدت إلى الفشل السياسي والعسكري الذريع مما ولد إحساسا بالغربة أو الاغتراب عند الإنسان في هذه المنطقة ، فمنذ أواسط القرن الثامن عشر الميلادي لم يشعر الإنسان في هذه المنطقة برخاء وبحبوحة سياسية ، فانعدم الأمن وضاق الأفق مما جعل إمكانية تحفيز الإبداع آخر ما تفكر فيه النخب السياسية ؛ لأنها هي نفسها تفتقر إلى الإبداع ، فهي متبعة لشرق أو لغرب ، تطبق ما تيسر من أنظمة مستوردة ، في أحسن أحوالها كانت شبه مقتنعة بها إن لم تكن مفروضة عليها ، وقد جعل هذا الأمر النخبة السياسية بأوساطها المتعددة غير محددة الأهداف ، ولا تدري ماذا تريد من مجتمعاتها ، فقدت البوصلة أو كادت ، وصارت تتخبط في ظلمات الشك ، فلم تصحُ على نفسها إلا وهي في الحضيض ، وقد زاد هذا الأمر سوءا دخول هذه النخب السياسية في صراع على السلطة ، فلا تكاد تخرج من دائرة عنف إلا لتدخل في إعصار مدمر من الانقلابات السياسية الذي يقضي على كل إنجاز قبله كان بالتأكيد متواضعاً. كل هذا كيف سيوفر مناخا إبداعيا مع الأخذ بعين الاعتبار أن تحفيز الإبداع أو الإنجاز وتطور المجتمعات وتنميتها كان آخر ما تفكر فيه هذه النخب.
واطراد في هذا الباب أقول: إن المجتمعات الإسلامية ومنها العربية ظل يراودها حلم التخلص من السيطرة الأجنبية المتمثلة في المشروع السياسي العالمي الصهيو- إمبريالي ، والتي لم تفلح تلك المجتمعات بأنظمتها أن تحد من تمدده في الأرض وفي الروح والعقل ، فبعد الرفض التام لهذا المشروع أصبح المشروع يسوق على أنه إستراتيجية قومية ، ليس – للأسف- من الأنظمة الحاكمة فقط ، بل جُند لذلك كثير من الأقلام التي لا ترى غضاضة في قبوله والتعايش معه ، مما جعلنا نرى تبريرا لأقذر صور هذا المشروع الاستعماري وأرذلها في عودة الاحتلالات العسكرية أو إشعال الفتن الداخلية الحزبية والطائفية ما ولد قلائل سياسية لتجاذبات داخلية وخارجية شغلت الكل وأبعدت الجميع عن أمل الإنجاز والإبداع.
وأما من الناحية الاجتماعية ، فإن هذه الناحية لا تنفك موصولة بالنواحي السابقة ، فكل المناخات السياسية غير المستقرة تنعكس سلبا على الأجواء الاجتماعية التي تضطرب وتغوص في أوحال من التردي والعدمية واللامبالاة ، فيسود الشعور بعجز المجتمع، فيتبلد الإحساس وتخفت شرارة الإبداع ، وينطفئ الشوق للتجديد ، وفي أحسن الأحوال ننتظر الساعة التي نحقق فيها أمل ابتلاع الأرض لنا في باطنها ؛ لأن لسان حالنا ومقالنا يقول: إن بطن الأرض خير من ظهرها!! فلا مشاريع نهضوية حقيقية من الدولة ، ولا مبادرات اجتماعية أو مؤسساتية ، ولم يعد هناك خطط تنمية لا شاملة ولا جزئية ، لا اجتماعية ولا اقتصادية ؛ لأنه باختصار لم يعد هناك مجتمعات متماسكة يجمعها هدف واحد تسعى من أجله ، فمن أين سيأتي الإبداع ؟ وكيف ستنطلق شرارته؟؟
وفي غمرة كل ذلك ، فإن الثقافة التي ستسود إما ثقافة استسلامية انهزامية عدمية توزع الخواء المجاني ، وتضرب بقبة الموت والموات في أفنية الروح فتعجل في البوار والخسران ، وإما ثقافة غيبية غيمية طاغية ، تعزف لحون المنجمين والبحث عن حلول سحرية خيالية من بطون المشعوذين ، أو اللجوء إلى نصوص غير صحيحة أو صحيحة يشوبها الفهم السقيم والرؤيا العرجاء تؤفين العقول وترديها وتشقيها ، فترى الدجالين وأتباعهم من مسوقي هذه الثقافات قد سعدوا وشبعوا وراجت بضائعهم وعمرت ديارهم ، فخرب المجتمع ونخر فيه السوس وعشش فيه العنكبوت.
إذن، فلندرك أننا في أزمة حقيقية، فهل يمكن تجاوز هذا الجدار العازل السميك الذي يحول بيننا وبين زناد الإبداع لنحاول قدحه من جديد؟
ربما هذا يلزمه وقت طويل حتى نستطيعه ، وإن قمنا به بجهود فردية خارج نطاق مؤسسات الدولة التي توفر الأمن والأمان والاطمئنان ، والخطط الإستراتيجية للعمل والبناء ، سيظل كلامنا حبرا على ورق ، لا يقدم ولا يؤخر. فالمحطات التي بإمكانها الاعتناء بإبداع الواصلين إليها ، أصابها العطن وأصبحت مؤسسات عبئا على مجتمعاتها ، فالواجب إصلاح هذه المؤسسات أولا ، وإن كانت الأسرة هي أقل هذه المؤسسات عطبا وفسادا ، فلنحاول أن نرى ما هو وضع كل محطة من المحطات المسؤولة عن الإبداع خارج نطاق الدولة ومؤسساتها.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر