وعلى سبيل التذكير، إن نفعت الذكرى، نقول، أو يجب أن نقول حتى يصبح ممكناً تمييز خيوط الحقيقة من خيوط الوهم، إنَّ ماركس ليس الاتحاد السوفياتي، الذي حَكَمَ عليه التاريخ بالموت، وإنَّ الاتحاد السوفياتي ليس ماركس، الذي استمدَّ حياةً من موت ما سمِّي "النظام الاشتراكي (أو الشيوعي)"، ولو أبى "اليتامى الحُمْر" الاعتراف بهذه الحقيقة، التي تنمو ضياءً يوماً بعد يوم.
الرأسمالية هي التي ولدت ماركس، فاستولد من واقعها الاقتصادي ـ الاجتماعي فكراً، بسطه في مؤلَّفه الشهير "رأس المال"، فوعت وأدركت ذاتها على خير وجه.
إنَّها مصادفة صرف أن يظهر هذا الرجل في المكان الذي ظهر فيه (ألمانيا) وفي الزمان الذي ظهر فيه، وأن يكون يهودياً، وأن يكون اسمه كارل ماركس، وأن..، وأن..؛ ولكنها ضرورة تاريخية أن يظهر مثيلاً له في الفكر، فلو لم يظهر ماركس نفسه لأنتجت الضرورة التاريخية مثيلاً له، يقوم مقامه، فالمهمَّات التاريخية العظيمة هي التي تصنع الرجال العظام، وكأنَّها تحبل بهم.
في البدء، تجاهلوه، ثمَّ سخروا منه، ثمَّ حاربوه، ثمَّ ينتصر (أقول "ينتصر" ولا أقول "انتصر"). لقد نعوه عشرات، بل مئات، بل آلاف المرات، وطبعوا، في العداء له، ما يفوق ما طبعه "مجلس الاحتياط الفدرالي" من "الورقة الخضراء" أضعافاً مضاعفة؛ ومع ذلك ظلوا في حوار أبدي معه، وكأنَّ عصره وفكره لم ينتهيا بعد!
حتى أولئك "الحُمْر"، والذين "صنَّموا" ماركس وفكره حتى قال على الملأ "إنِّي لستُ ماركسياً"، تحوَّلوا جميعاً إلى بطرس، فأنكروه ثلاث مرَّات إذ تناهى إلى أسماعهم نبأ زوال الاتحاد السوفياتي، وكأنَّ انهيار بناية على رؤوس سكانها هو خير دليل على أنَّ علم الهندسة كان كومة من الأخطاء!
ولو كان ماركس على قيد الحياة عندما كان الاتحاد السوفياتي حيَّاً يُرْزق، ويُصوِّر نفسه للعالم على أنَّه الجنَّة على الأرض لقال، هذه المرة، وعلى الملأ، "إنِّي لستُ شيوعياً"، فلو كان "النظام الشيوعي" في الاتحاد السوفياتي وغيره هو ذاته "المجتمع الجديد" الذي بشَّر به ماركس، ودعا إليه، لدعا للرأسمالية بطول البقاء!
ماركس كتب مجلَّدات في النظام الرأسمالي؛ ولكنه لم يكتب سوى بضعة سطور في النظام الاشتراكي؛ لأنَّه كان عدوُّاً لدوداً لكل فكر طوباوي؛ ولأنَّه لم يفهم المجتمع الجديد الاشتراكي إلاَّ بوصفه أحد خيارين تاريخيين، فالرأسمالية، على ما قال وتوقَّع، إمَّا أن تتقدَّم نحو الاشتراكية وإمَّا أن تتقهقر، ومعها البشرية كافة، إلى عهود الوحشية، التي إنْ أردتم معرفة ماهيتها، وإدراك كنهها، فانظروا بالعين المجرَّدة من الأوهام إلى ما يسمُّونه "الرأسمالية الجديدة"، أو "الليبرالية الجديدة"، مع شريعتها، التي تسمى "نهاية التاريخ".
سقوط الاتحاد السوفياتي ظنُّوه سقوطاً لماركس، فقرَّروا إذلال هذا الرجل مع فكره بما يشبه الصفح عنه، فشرعوا يتساهلون في معاملة كل من يَذْكُر اسمه، أو يقرأ له، أو يكتب عنه، أو ينادي بأفكاره، وينحاز إليها، وكأنَّ الرعب الذي ألقاه في قلوبهم قد ولَّى وانتهى.
أمَّا قبل ذلك، أي عندما كان هذا الرعب يستبدُّ بهم، فكانت عبارة "اكرهوا ماركس!" هي جوهر وقوام خطابهم السياسي والإعلامي والفكري، فهو، في الصورة التي أظهروه فيها، الملحد الكافر، وهو اليهودي، والعدو اللدود للقومية، وهو الشرير الذي تبذر أفكاره بذور الاقتتال والحروب الأهلية، وتقوِّض السلم الأهلي، وتُفْسِد الفطرة التي خُلِق عليها الناس، وتناصب كل ملكية خاصة العداء ولو كانت ملكية صحن وملعقة. ولكن، ما أن تأكَّد لهم صلبه، فموته، فدفنه، حتى شغفوا حُبَّاً باليهودي الصهيوني، وبيهود "وول ستريت" والكونغرس.. وحتى زجوا العالم بأسره في حرب الكل ضد الكل، مستثيرين ومؤجِّجين في النفوس كل عصبية تهبط بالإنسان إلى الدرك الأسفل من الحيوانية، فعرف العالم من الفساد الشامل والعام في رُبْع قرن من الزمان ما لم يعرف له مثيلاً، في الكم والنوع، منذ التاريخ المكتوب.
في كتاب "رأس المال"، وفيه فحسب، يمكنك أن ترى الرأسمالية، والرأسمالية اليوم أيضاً، في حقيقتها العلمية، العارية من زخرف الثياب والقول، وأن تُدْرِك، من ثمَّ، أنَّ خير من حلَّل النظام الرأسمالي، وسبر غوره، واكتشف قوانينه الموضوعية، وفهمه فهما عميقاً واسعاً شاملاً، هو كارل ماركس، الذي تظل الرأسمالية في عصره ما ظلَّت على قيد الحياة.
لقد تحدَّى هذا الرجل، إذ جعل لفكره جذوراً عميقة في تربة العلم، كل زعماء الفكر الاقتصادي الرأسمالي أن يأتوا بتفسير علمي لـ "الربح الرأسمالي" غير التفسير الذي أتى به، والذي بفضله ظهرت "عدالة الأجر" على أنَّها الظُلم الاقتصادي والاجتماعي والتاريخي وقد لبس لبوس "العدالة الرأسمالية".
قانون "العرض والطلب" نقَّاه ماركس من الخرافة، موضحاً أنَّ هذا القانون، وعلى أهميته، يفسِّر فحسب درجة انحراف السعر عن قيمة البضاعة؛ ولكنه لا يستطيع أبداً أن يفسِّر تلك القيمة ذاتها؛ والدليل على صدق ذلك أنَّ توازن العرض والطلب هو لحظة بيع البضاعة بقيمتها؛ وبيع البضاعة بقيمتها إنَّما هو ذاته بيعها بربحٍ، فإذا كانت قيمة بضاعة ما هي حاصل جَمْع قيم كل البضائع المستهلَكة من أجل إنتاج تلك البضاعة فكيف يمكن، عندئذٍ، بيعها بربح عندما يتوازن العرض والطلب؟!
وحتى كتابة هذه السطور لم نسمع إجابة رأسمالية علمية ومُقْنِعة عن هذا السؤال ـ التحدي، الذي انطلق منه ماركس ليؤكِّد أن جوهر الرأسمالية سيظل هو ذاته، وهو السعي لأمرين في آن: "الربح الأقصى" و"التراكم"، أي زيادة تركيز رأس المال.
لقد سألوا رب العمل، أي كل رب عمل، "من أين لك هذا؟"، فأجاب وكأنه لسان الحقيقة: "من عصاميتي، فكل ما أملك إنما هو ثمرة جهدي وكدِّي وعملي وعرقي.. وذكائي".
ومع ذلك، ظل الواقع يجيب قائلاً: "إنَّ من يعمل لا يملك، وإنَّ من يملك لا يعمل، وإنَّ أكثر الناس ذكاءً هم الفقراء"!
الأزمة الموضوعية في عالم الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وهي الأولى حجماً ونوعاً، في عصر العولمة، كشفت عن أزمة عميقة في الذات، فكلا الطرفين (الطرف المدافع عن الرأسمالية والطرف المناوئ لها) أظهر، إذ تحدَّث وكتب، عجزاً علمياً، فما سمعناه أو قرأناه من رأي وتحليل وتعليل وتفسير.. ومن مواقف من ثمَّ، إنَّما أظهر وأكد الاغتراب الفكري.
كل الأجوبة كانت بعيدة، غريبة، عن "السؤال".. سؤال "ما حقيقة هذا الذي حدث؟ ولماذا حدث؟ ولماذا حدث على هذا النحو فحسب؟".
وكان يكفي أن تستمع لممثلي الرأي والرأي الآخر في بعض من الفضائيات العربية حتى تتأكد أنَّ الأزمة في العقول أشد عنفاً من الأزمة في "وول ستريت"، أو من الأزمة التي انطلقت من حي المال هذا.
هذا يدافع عن الرأسمالية وهو يجهل تماماً حقيقتها الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية، وذاك يُحدِّثك عن الاشتراكية، وعن ماركس والماركسية، بما يقيم الدليل على أنَّ مأساة ماركس تكمن في أنَّ منتقديه ومؤيديه متساوون في سوء فهمه.
إننا حديثو العهد في الممارسة الإعلامية لحرية الرأي، بوجهيه أو طرفيه؛ ولكنَّ هذا يجب ألاَّ يظل مبرِّراً لفهم حرية الرأي على أنها الحرية في نبذ "العلمية" من الآراء، فأنتَ، على سبيل المثال، ليس من حقكَ أن تتحدث، بدعوى حرية الرأي، عن "السلعة"، و"رأس المال"، و"رأس المال المالي"، وأنتَ تجهل ماهية تلك الأشياء أو المفاهيم.
"الأزمة" تزامنت مع أزمة في جائزة "نوبل" للاقتصاد، فمنحها، هذه المرة، اصطدم بعقبة أخلاقية، فكيف تُمْنَح لرجل اقتصاد في وقت تشهد الأزمة على أنَّ ملتون فريدمان قد نالها بوصفه أحد كبار النظريين الاقتصاديين المسيئين إلى الاقتصاد الرأسمالي؟!
عدل سابقا من قبل اجراس العودة في الأربعاء 12 أغسطس 2009, 1:07 pm عدل 1 مرات
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر