تمثل القدس معياراً لقوة العرب والمسلمين, فكلما ازدادت قوتهم عاشت آمنة, وكلما انتابهم الضعف أصبحت أسيرة العجز والانهيار.
لرمضان.. في نفوس الشعب الفلسطيني -وكما للمسلمين جميعاً- عظيم المنزلة والقداسة, وكعادة المسلمين في كل مكان, كان أهل القدس يحرصون على الاستعداد لاستقبال الشهر المبارك من ليلة النصف من شهر شعبان, بتخزين السمن والسكر والدقيق و(قمر الدين) والمكسرات والفواكه المجففة, وتتنافس عائلات القدس في تجديد فرش المساجد والتكايا وتزويدها بالقناديل الجديدة, وكانت تصرف رواتب إضافية وكميات من السكر والياميش لأرباب الوظائف وطلبة العلم والأيتام والمجاورين والقراء بالتكايا والزوايا. وفي ليلة الرؤية, يجتمع مفتي القدس والقضاة والعلماء بالمسجد الأقصى, فإذا ثبتت رؤية الهلال, انطلق مدفع من العصر العثماني يربض عند باب (الساهرة), وتتألق المآذن بالأنوار, وتوقد القناديل في الأسواق وفي حارات وشوارع القدس العتيقة, وتتجسد البهجة على الوجوه, ويعلن البعض فرحتهم بألعاب الفروسية أو بإطلاق الألعاب النارية, وتتوافد الجموع إلى ساحة الحرم الشريف.
وتفيض روح رمضان على أسواق المدينة العامرة ببضاعة رمضان, ويسود جو من الصفاء الروحي بين المقدسيين, فيتحلون بآداب رمضان, وتجري الألسنة بذكر الله واستغفاره, وتتضمن نداءات الباعة تعبيرات مثل: (الصايم في البيت بركة), (الله وليك يا صايم), (الله وليك ومحمد نبيك) و(صلي على النبي تزيد نور).
على مائدة الإفطار
كانت (ست الدار) تبدع في إعداد مائدة الإفطار, ومن تقاليد رمضان التي اشتهر بها أهل الشام عموما, ما يسمى بـ (السكبة) أي تبادل إهداء الأطعمة المحببة بين الأهل والجيران.
وأكثر المقدسيين يفطرون على منقوع قمر الدين وبضع لقيمات ثم يتوجهون لصلاة المغرب جماعة في ساحة الحرم الشريف وفي مساجد المدينة, والبعض يصلي مع الأسرة جماعة في البيت, ثم يتناولون إفطارهم كاملاً, والحلويات الشامية التي طبقت شهرتها الآفاق تمثل طبقاً رئيسياً عقب الإفطار.
وكما كانت عائلات القدس الشهيرة, تقيم ولائم الإفطار للمفتي والعلماء وأرباب الوظائف وشيوخ الطرق الصوفية ونقيب الأشراف ولعامة الناس, كانت تقام أيضا ولائم الإفطار الجماعية, حيث يحضر كل رجل أطيب ما عنده, ليفطر جماعة مع رجال الحي, سواء في بيت أحدهم أو في إحدى (المضافات) أو الساحات.
وكان أطفال القدس, عقب صلاة العشاء يطوفون حاملين فوانيسهم في مواكب من الفرحة الملونة والمنورة, منشدين أغانيهم التراثية البسيطة وأهمها (الحواية) فيقولون: (يوحيا.. يوحيا.. حلو الكيس وأعطونا.. أعطونا حلوانا.. صحنين بقلاوة..) ثم يجتمعون بعد طوافهم ليقتسموا النقود والحلوى فيما بينهم!
وعقب الانتهاء من صلاة التراويح, كان البعض يتوجه إلى حلقات الذكر التي تقيمها الطرق الصوفية, ويتوجه البعض الآخر لقضاء (السهرة الرمضانية) عند الأهل أو الأصدقاء, بينما يتوجه أكثرهم إلى المقاهي للاستماع إلى (الحكواتي)!
وكان (الحكواتي) من أبرز مظاهر ليالي رمضان في القدس, وبلاد الشام عامة, حيث يتصدر المقاهي, وأحيانا (المضافات), مرتدياً زياً مميزاً: السروال الأبيض الواسع و(صديرية) حمراء ومعطفا (غترة) وكان يخصص له - أحيانا - مقعد عال يزدان برسومات من الخيال الشعبي, ويروي شفاهة -أو يقرأ من كتاب- بإيقاع منغم حكايات أبطال السير الشعبية: أبي زيد الهلالي, الظاهر بيبرس, عنترة بن شداد, الأميرة ذات الهمة, وحكايات من ألف ليلة وليلة.
وكان هناك أيضاً (الشيخ الطبانجي) الذي ينشد على أنغام الربابة - في المناسبات الدينية - قصائد وأغاني من التراث الشعبي الفلسطيني, وبتغير الأحوال والزمان وتوالي الكوارث, اختفى (الحكواتي) كما اختفى الشيخ (الطبانجي), وشاعر الربابة وخيال الظل وأشياء أخرى جميلة من حياتنا!
المسحراتي
كان لكل حي من أحياء القدس, مسحراتي خاص من أبناء الحي, يقوم بعمله كل ليلة حاملا (البازة) يضرب عليها بقطعة من الجلد, وقد يصحبه غلام يحمل فانوسا لينير له الطريق, وينشد المسحراتي بصوت شجي ابتهالات دينية ومدائح, منادياً أصحاب البيوت وأولادهم بأسمائهم (قوموا لسحوركم.. خلي النبي يزوركم)!.. (يا نايم إصحى.. وحد الله), وكان للمسحراتية بالقدس تقليد خاص في ليالي رمضان, حيث يجتمعون في إحدى المقاهي أو المضافات, فيتحلقون حول مائدة مضاءة بالشموع ومع كل مسحراتي (بازة) وفانوس وسلة فواكه ومكسرات, وبعد أن يباركهم (شيخ الطائفة) كانوا يتساجلون بالمدائح النبوية!
المساجد والتكايا والزوايا
القدس, مدينة التاريخ, منذ اليوم الذي سطر فيه التاريخ صحائفه الأولى, وحتى يومنا هذا, تحكي أحجار الكنائس والبيوت والمساجد والأسبلة والزوايا والتكايا قصة الإنسان. وهي (بيت الأنبياء) ومن آفاقها امتلأت سماء الدنيا بالإيمان, وبالإضافة إلى المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة, كانت مساجد ومدارس القدس مراكز للإشعاع العلمي والثقافي - كما أشار جميع الرحالة المسلمين والأجانب - حيث كانت تعقد بها مجالس العلم والإفتاء والمناظرات, وتشهد إقبالا رائعا من أعلام الفكر وطلاب العلم الوافدين من أرجاء العالم الإسلامي, خاصة في شهر رمضان, ومن هذه المساجد: المدرسة (الأشرفية) بجوار باب السلسلة (أحد أبواب الحرم الشريف) وبالقرب منها: المدرسة (التنكزية), والمدرسة (الأفضلية) بحارة المغاربة, والمدرسة (الجاولية) عند الزاوية الشمالية للحرم, والمدرسة (الخاتونية) في باب الحديد غربي الحرم, والمدرسة (الطشتمرية) عند ملتقى طريق باب السلسلة وطريق حارة الشرف, والمدرسة الناصرية على برج الرحمة من السور الشرقي للقدس.
وقد كان بالقدس وحدها, كما أشار الرحالة التركي (أوليا جلبي) في القرن السابع عشر الميلادي, تكايا لسبعين طريقة صوفية, من أشهرها: (التكية المولوية) بحارة السعدية, التي أنشأتها الدولة العثمانية لأتباع الطريقة (المولوية), و(تكية خاصكي سلطان) في عقبة المفتي, وكان نزلاء هذه التكايا يحظون بالرواتب والأطعمة والملابس, كما يعم الخير أيضاً فقراء الزوايا والأضرحة والملاجئ, فيتذوق المحرومون نعمة الخيرات ويتمتع الجميع بروح التآخي.
كما كانت مقامات وأضرحة الأولياء, تحظى بعناية خاصة - قبيل هذا الشهر الكريم - سواء بالإصلاح والترميم أو تقديم الهدايا كالسجاد والقناديل والشموع والبخور وإعداد الوجبات للفقراء وأبناء السبيل باسم (الولي) أو صاحب المقام تبركاً.
ومن أشهر هذه المقامات بالقدس: عبادة بن الصامت, سلمان الفارسي, شداد بن أوس, الشيخ ريحان, الشيخ جراح, الشيخ حيدر, شرف الدين موسى العلمي, محمود الأزبكي.
ومن الزوايا الشهيرة بالقدس: الزاوية (النصرية) بباب برج الرحمة بالسور الشرقي للحرم, الزاوية (الختنية) خارج السور الجنوبي للمسجد الأقصى, الزاوية (الوفائية) عند باب الناظر بسور الحرم, وزوايا (الدركاه), الشيخ بدر الدين شرفات, المغاربة, (النقشبندية, البسطامية, الرفاعية, الطواشية, اللؤلؤية, اليونسية, الهنود, الصمادية). هذه المساجد والزوايا والتكايا والمقامات, كانت تغص بالعابدين ما بين راكع وساجد, تتضوع منها روائح البخور الزكية, ولا تسمع إلا الدعاء وطلب المغفرة من قلوب سليمة وأرواح تفيض بالإيمان, ودروس الوعظ وحلقات علوم القرآن, وأصوات المقرئين وكأنها أصوات من السماء, في جو من الجلال يسري في النفوس ويهزها بذكر الله.
في رحاب الأقصى
كانت مدينة القدس وساحة الحرم الشريف - خلال شهر رمضان - خاصة في العشر الأواخر, تشهد توافد أعلام المسلمين وعامتهم من سائر الأقطار العربية والإسلامية.
ومن أجمل ما قرأت (خواطر) د.عبدالوهاب عزام عن زيارته للقدس الشريف في شهر رمضان 1362هـ/1943م, والدكتور عبدالوهاب عزام (1893 - 1959) هو أحد أعلام مصر والعروبة في القرن العشرين, وكان له أطيب الأثر وأجمل الذكر في مجالات السياسة والفكر والأدب, شغل منصب عميد كلية الآداب بجامعة القاهرة خلال الفترة من 1945 إلى 1948, وعمل سفيرا لمصر في المملكة العربية السعودية وفي باكستان, ثم مديرا لجامعة الرياض.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر