ولدت من رحم المعاناة وتخرجت من مدرسة الأحزان..
خنساء فلسطين تفتح قلبها وتروي مأساة عائلة فقدت 54 شهيداً في جريمة يقشعر لها الأبدان
الشاعرة رحاب كنعان:ـ
* استشهد أبي وأمي وخمسة من أشقائي وثلاثة من شقيقاتي ولحق بهم ابني
* التقيت بابنتي بعد 24 عاماً من الفقدان وكنت ولا زلت أحلم بالعيش معها
* لفظني المخاض في منافي لبنان وترعرعت بين جمر الشتات وتنقلت من مخيم إلى مخيم
* تعمق الجرح بشكل أكبر ومشى الحزن في ربوع شبابي تركاً بصماته المؤلمة
* لن نقبل التوطين والغربة فرضت علينا ولم نخترها
اعــداد : بــــنــــدقية مـــقــــاتــل ( رحـــاب كــنعــان).
لم يعرف التاريخ الإسلامي سوى خنساء واحدة، في حين عرف التاريخ الفلسطيني المعاصر خنساوات، فقدن فلذات أكبادهن في معركة الدفاع عن الوطن، ولعل من أبرز هؤلاء الخنساوات الشاعرة الفلسطينية رحاب كنعان التي فقدت 54 شهيداً من أفراد عائلتها في جريمة يقشعر لها الأبدان.. أحد ملاجئ تل الزعتر في لبنان كان مسرح الجريمة عندما تمحترمت صواريخ الموت لتضرب أعمدة إحدى البنايات التي انهارت بالكامل، ويسقط الركام فوق الملجأ الذي يحتوي على المئات من الفلسطينيين الذين هربوا من نيران الحرب ولجأوا إلى هذا الملجأ لعلهم يجدوا فيه الأمن المفقود، لكن الموت لاحقهم حتى في ملجأهم.. رحلت خنساء فلسطين من لبنان بعد خروج منظمة التحرير في عام 82، واستقرت في تونس تاركة ابنها وابنتها مع طليقها دون أن تعرف عنهما أي شيء، وشاءت الأقدار أن يسقط ابنها هو الآخر شهيداً ليلتحق بعائلته، وتتجدد الأحزان، حينها أيقنت أن ابنتها قد استشهدت هي الأخرى، إلا أن القدر أراد أن يجمع شملهما بعد 24 عاماً من الفقدان والفراق، عندها كانت المفاجأة التي لم تكن تتوقعها.
الشاعرة الفلسطينية رحاب كنعان التي فتحت قلبها وسردت وقائع مؤلمة، فالدموع لم تفارق أعينها.. والبكاء على فقدان الأحباء تجدد خلال اللقاء كلما سردت مشاهد المأساة التي عايشتها، لكنها كانت صابرة وراضية بقضاء ربها وقدره، حيث تعيش الآن مع أبنائها الثلاثة في غزة وفاء التي حصلت على درجة الماجستير في الصيدلة، وسمير المتخصص في تحليل الأغذية وحسين طبيب الأشعة.
محطات مؤلمة ( لــقــــاء مــع خــنـــســـاء فــلــســــطيــن)
* لقبت بخنساء فلسطين.. لماذا أطلق عليك هذا اللقب؟ ومن الذي أطلقه ؟
- لقبت بخنساء فلسطين عندما فقدت قافلة من الشهداء من أهلي وأبناء عائلتي، 51 شهيداً في تل الزعتر و3 شهداء في صبرا وشاتيلا، حيث لقبني الإخوة في النادي الثقافي في تونس بخنساء فلسطين، عندها قلت لهم " تشبهونني بالخنساء والخنساء مني، إذ بكت اثنان الأهل وأربعة الفؤاد، فما لبكائي عشرة الأهل والحادي فؤادي"، قالوا لي أنت بذلك تصبحين خنساء العالم، فقلت لهم دعوني على مستوى خنساء جرحي وشعبي، فبقيت على لقب خنساء فلسطين، حيث لفظني المخاض في منافي لبنان، وترعرعت بين جمر الشتات، وتنقلت من مخيم إلى مخيم، فكانت رحلة عذاب طويلة ومريرة لشعبنا في لبنان بين المخيمات.. في بداية الأمر كنا في مخيم تل الزعتر، حيث استشهد أهلي في عام 1976، وهم أبي وأمي وأشقائي الخمسة وشقيقاتي الثلاثة، عندها قلت" تستغربون لكثرة شعري بالرثاء فهل من قدم سواي من الشهداء، خمسة من صلب أبي ذكور وثلاثة عذارى ومن حملتني وحملته في الأحشاء، ومن كد عليّ دون عنا " حيث بلغ عدد شهداء عائلتي 51 شهيداً في ذلك العام من الأهل والأقارب، وبعدها انتقلنا ما بين صبرا وشاتيلا ومخيمات أخرى في لبنان، حيث كنت حينذاك متزوجة في صبرا وشاتيلا، وأعيش مع ابنتي ميمنة وابني ماهر الذي استشهد فيما بعد، حيث عايشنا جميع حروب لبنان الأهلية، وكان الجرح كبيراً، ورحلة عذاب كبيرة جداً، تحملنا خلالها مآسي ومصاعب كبيرة، وكنا نتهم على أننا احتلال فلسطيني للبنان، ولكننا كنا دوماً ولا زلنا نردد أننا لسنا أكثر من لاجئين نعيش في لبنان بشكل مؤقت، ولا يمكن أن نقبل بوطن غير وطننا فلسطين، ولا يمكن أن نستبدل وطننا، وأن هذه ما هي إلا مرحلة في تاريخ شعبنا الفلسطيني فرضت علينا ولم نخترها، فمازلنا وسنبقى نحتفظ بمفتاح العودة، وننتظر العودة إلى أرض الوطن، وفي عام 76 ُخلع مخيم تل الزعتر بشكل نهائي نتيجة المجزرة التي يشهد لها التاريخ، حيث ألفت كتاباً عام 2001 حول هذا المخيم وما شهده من مجزرة إلى ما بعد الخروج من لبنان، فكنت أضحي بعمري من أجل جلب أحد من شهدائي لدفنه في مقبرة صبرا وشاتيلا، رغم أنني أثناء الحرب كنت أحاول أدخل المخيم من أجل تقديم الواجب الوطني.
*ماذا كان دورك في المخيم ؟ وهل كان للمرأة الفلسطينية دور في مقاومة الاحتلال؟
- كنت متواجدة في مخيم تل الزعتر بشكل دائم أثناء الحروب المتقطعة، لكن في الحرب الأخيرة التي استشهد فيها أهلي لم أكن في المخيم، أما المرأة الفلسطينية فقد كانت تساعد المقاتلين من خلال تقديم الخدمات لهم، مثل غسيل الملابس وجلب الماء والطهي وتقديم الطعام، حيث كان كوب الماء يوازي كوب الدم في ذلك الوقت، فكان للمرأة دور كبير في مساندة المقاتلين، وقامت المرأة الفلسطينية بدور يشرف التاريخ الفلسطيني، والتاريخ النضالي.
جريمة وحشية
* هل لك أن تطلعينا على ظروف استشهاد عائلتك في تل الزعتر؟
- كان أهلي في ملجأ تحت بناية مكونة من ثمانية طوابق، داخل هذا الملجأ ما يقارب خمسمائة شخص لجأوا إليه للاحتماء من نيران الصواريخ، حيث تجمع الأهل في هذه البناية التي كانت قريبة من مساكنهم، وكان أفراد العائلة موزعين على عدة ملاجئ، حيث أوصت والدتي بألا يجتمع أفراد العائلة في ملجأ واحد حتى نتفادى وقوع ضحايا في كل العائلة، لكن إرادة الله عز وجل فاقت كل شيء، حيث اجتمع كل الأقارب في هذا الملجأ، وكانت الفاجعة الكبرى عندما سقطت الصواريخ التفريغية مستهدفة أعمدة الدور الأول من البناية التي انهارت طوابقها الثمانية فوق الملجأ فانطبق على الشهداء، حيث استشهد في هذا الملجأ ما بين 400-500 شهيد من بينهم 51 شهيداً من عائلتي، وبعد ذلك استشهد ابني، مع اثنين من أبناء خالتي، ليرتفع عدد شهداء عائلتي إلى 54 شهيداً.
* أين كنت في هذا الوقت؟
- كنت في صبرا وشاتيلا، حيث خرجت قبل الحصار الأخير بعدة أيام.
* عندما تلقيت نبأ قصف الملجأ.. هل توقعت أن يكون هو نفس الملجأ الذي تقطنه عائلتك ؟
- لا لم أتوقع ذلك، ولم أتخيله، حيث توقعت أن يستشهد اثنان أو ثلاثة من عائلتي فقط، لأني كنت حينها مع أختي أزود أسرتي في الملجأ بالطعام، وعندما علمت بموضوع القصف توقعت أن يكون جرح أو استشهد اثنان أو ثلاثة من العائلة، لكنني لم أتوقع أن يستشهد 51 شخصاً من عائلتي.. في ذلك الوقت أقاموا مستشفى ميداني في مقر الجامعة العربية لاستقبال جرحى القصف، وكنت أخرج كلما يأتي فوج من الجرحى أتفقدهم، وأثناء تفقدي الجرحى تفاجأت بأستاذي مصاباً فحضنته وسلمت عليه، عندها بكى وأنا بكيت، سألته عن عائلتي فقال لي" اسمعي يا عمو.. لا تصدقي كلام أي أحد يقابلك، واستمري حتى تصلي للحقيقة" حيث أراد أن يوصل لي رسالة للأسف لم تصلن في حينها، مفاد هذه الرسالة ألا أتفاجأ من أول خبر، فلم يستطع إبلاغي نبأ استشهاد عائلتي، وحاول يجرعني المصاب بالتدريج، فلم آخذ بكلام أستاذي، وواصلت الطريق والبحث عن عائلتي إلى أن اصطدمت بزميلتي في الدراسة وهي أيضاً مصابة، فسألتها عن عائلتي، فأجابتني بجرأة قائلة" كل آل حمزة استشهدوا " فلم أتمالك نفسي في حينها، وسألتها كيف حصل هذا ؟ فقالت: في قصف الملجأ، فأجبتها أن أهلي في ملجأ بوتاجي، فقالت لي" لقد جاء أهلك إلى هذا الملجأ قبل ثلاثة أيام" بعدها لم استفق من الصدمة، حيث أغمي عليّ ولم أفق إلا عند شقيقاتي المتزوجات في مدينة صور، وعلى إثرها بدأت كتاباتي عبارة عن عتابا ونواح، وتعمق الجرح بشكل أكبر حتى مشى الحزن في ربوع شبابي تاركاً بصماته الأليمة، لكنني حمدت ربي على هذا المصاب الكبير، وأعتز بهذا الفضل من ربي، فهؤلاء 54 وساماً، وأؤمن بقضاء ربي وقدره وأحمده عليه، وأتمنى أن يكرمني ربي بالشهادة.
* كم كان عمرك في ذلك الوقت؟
- كان عمري 26 عاماً، وكنت في أمس الحاجة لمن يقف إلى جانبي، حيث كنت أعاني من مشاكل عائلية مع زوجي وعلى وشك الانفصال عنه، فجاء هذا المصاب وكان كارثة بالنسبة لي.
لقاء الأحبة
* شهد العالم على شاشات التلفاز اللقاء الذي جمعك مع ابنتك بعد 24 عاماً من الفقدان.. هل لك أن تطلعينا على هذه القصة وكيف التقيت بابنتك بعد هذه الفترة؟
- عندما استشهد أهلي انفصلت عن زوجي وبقي ابني ماهر وابنتي ميمنة عند والدهما، بعدها سكنت عند شقيقاتي المتزوجات، وتنقلت بين بيوت شقيقاتي وأقاربي، ومن ثم شاءت الأقدار أن أتزوج ثانية من رجل آخر في عام 1979، وبعد حرب عام 1982 عندما خرجت المقاومة الفلسطينية والفدائيين من لبنان، خرج زوجي مع الفدائيين، وجاءت مجزرة صبرا وشاتيلا، حيث كان نصيبي أن أعيش هذه المجزرة حتى أشرب الجرح الفلسطيني بكل كؤوسه، وبعدها التحقت بزوجي في تونس، في حينه لم أكن أعلم أي شي عن ابني وابنتي، وقطع خط الاتصال بيني وبين أبنائي.. في عام 1986 عدت إلى لبنان لأرى أبنائي، ولكن للأسف لم أعثر عليهما، فتوقعت أن يكونا قد استشهدا وأن الناس أرادوا إخفاء الحقيقة عني حتى لا أصطدم ثانية، فعدت إلى تونس، وفي نفس الشهر كنت أقرأ مجلة فلسطين الثورة فوجدت اسم ابني ماهر من بين أسماء الشهداء، حيث تركت ابني في سن الخامسة، لكنه استشهد في سن الثانية عشرة، فحمدت ربي على هذا البلاء، حيث دفن في المسجد، وأذكر أنه في ذلك العام كان الحصار شديداً والحرب الأهلية في لبنان كادت أن تقضي على كل شيء، لدرجة أن المفتي أصدر فتوى بجواز أكل لحم الشهيد نتيجة عدم توفر الطعام، عندها تحرك ضمير العالم واستطاعوا فك الحصار عن الناس، حيث حفر المواطنون المسجد ودفنوا الشهداء بداخله، وكان ابني من بينهم، وفي عام 2001 عندما نزلت إلى لبنان زرته، وحضنت قبره الذي يحتوي على أكثر من عشرين شهيداً وبعدها أصبحت أتخيل ابني عندما أمر من أمام أي مسجد.
* ولكن كيف عثرت على ابنتك بعد غياب 24 عاماً ؟
- عندما علمت بنبأ استشهاد ابني توقعت أن تكون ابنتي قد استشهدت هي الأخرى، فكان بحوزتي رقم هاتف خالتي في لبنان، كنت أتصل به دوماً، لكنه لم ينجح الاتصال، وبعد خروجنا من تونس عدت إلى غزة مع زوجي، وبعد أن توفى زوجي في عام 1999 رحلت من منزلي إلى منزل آخر، وفي أثناء ترتيب أوراقي عثرت على رقم هاتف خالتي بين الأوراق، فقلت في نفسي "كم اتصلت بك يا خالتي على هذا الرقم دون جدوى؟"، وفي إحدى الأيام كنت عند جارتي المسنة فأخذت سماعة الهاتف وطلبت رقم خالتي، وهنا كانت المفاجأة عندما نجح الاتصال فشعرت جسمي يرتعش من الفرحة، فأجابت ابنة خالتي، عندها قلت لها أنا رحاب من فلسطين، من أنت؟ فقالت لي: ابنة خالتك، فسلمت عليها وأبلغتها برقم هاتفي فوراً خشيت أن أفقد الاتصال، وسألتها عن ابنتي ميمنة، فأجابتني أنها بخير وعلى قيد الحياة، عندها لم تسعني الفرحة، وأبلغتها أنني سـأتصل بعد غد في نفس الوقت، وطلبت منها أن تحضر لي ابنتي كي أتحدث إليها، وفي اليوم التالي أبلغتني جارتي صاحبة الهاتف أن أحضر إليها لأرد على الهاتف، وهنا كانت المفاجأة عندما علمت أن الذي على الهاتف هي ابنتي، فقالت لي" ياماما أنا ميمنة" عندها لم أتمالك نفسي من الفرحة، ولم أفتكر من كلامها سوى أنها طلبت مني أن أقول لها باستمرار "يا ماما" فقد حرمت من هذه الكلمة، بعدها تواصلت الاتصالات بيننا بعد انقطاع دام 24 عاماً.
لقاء تلفزيوني
* كيف تم الترتيب اللقاء التلفزيوني الأول مع ابنتك ؟
- في يوم من الأيام كنت في إحدى الجمعيات وشاهدت في التلفاز برنامجاً للقاء أسرى محررين في لبنان مع ذويهم، فطلبت منهم ترتيب لقاء بيني وبين ابنتي عن طريق التلفاز، وبالفعل تم هذا اللقاء من خلال قناة المنار الفضائية، وكانت المرة الأولى التي أشاهد فيها ابنتي، لكن ابنتي شاهدتني على شاشة فضائية فلسطين، حيث كنت ضيفة إحدى اللقاءات حول عيد الأم، مع المذيعة تمام أبو سليم، عندها شاهدتني ابنتي، وكنت أشعر خلال اللقاء أن ابنتي تشاهدني، بعدها تم ترتيب لقاء بيني وبين ابنتي من خلال قناة المنار، أنا هنا في غزة وابنتي في لبنان، فلم أتمالك نفسي عندما شاهدت ابنتي ومن الفرحة حضنت التلفاز، وفي نفس اللقاء كان على جانب ابنتي شقيقاتي وزوجة أخي، حيث لم أشاهدهن منذ نحو سبعة عشر عاماً، لكنني لم أعرفهن إلا في نهاية اللقاء عندما طلبت مني المذيعة أن أوجه رسالة إلى شقيقاتي، عندها ضربت يدي على صدري من الصدمة بدون وعي، فمكثت أشهر أعاني من الألم الذي سببته لي هذه الضربة، ثم انتهى اللقاء التلفزيوني الذي كان له أثر كبير وهز العالم، وبعد هذا اللقاء بأسبوع أو أكثر بقليل اتصلت بي قناة أبو ظبي وأرادت ترتيب لقاءً آخر على غرار لقاء قناة المنار، فرحبت بالفكرة، خاصة وأنني سأشاهد ابنتي ثانية، وبالفعل تم اللقاء، الذي كان له صدى كبير في نفسي، وتمكنت من رؤية ابنتي هذه المرة بشكل أفضل من المرة السابقة التي انهارت فيها دموعي من شدة الفرح، وبعد خروجي من الأستوديو خرجت إلى غرفة مدير القناة في غزة عبد السلام أبو عسكر الذي أكن له كل احترام وتقدير، فهو لم يتمالك نفسه وبكى من شدة الموقف، عندها قال لي إن شاء الله ستشاهدين ابنتك قريباً على أرض الواقع، فقلت له كيف ؟ فأجابني أنه خلال 72 ساعة ستكونين في أبو ظبي وستشاهدين ابنتك، عندها لم أتمالك نفسي وأردت أن أقبل قدمه، إلا أنه رفض ذلك بشدة، وقبل رأسي، بعدها أجرى الإخوة في وزارة الشؤون المدنية الترتيبات اللازمة لسفري لأبو ظبي، وسافرت إلى هناك، حيث كنت أعلم أنني سألتقي بابنتي، وعندما وصلت المطار استقبلوني وأخذوا مني أوراقي وكنت أبحث بنظري عن ابنتي، كنت أتوقع أن التقي بها في المطار، لكن لم أجدها، فسألتهم أين ابنتي؟ فلم يجيبوا وأنكروا معرفتهم بذلك، وأجابني أمن المطار أن لديهم تعليمات باستقبالي مع أولادي، وأنهم لا يعلمون أي شيء عن ابنتي في لبنان، وفي نفس اللحظة هبطت الطائرة التي على متنها ابنتي، عندها اصطحبني إلى خلف جدار حتى لا أشاهد ابنتي، وفي هذه اللحظة جاء الأخ جابر عبيد مذيع القناة الذي أجرى اللقاء معي، واصطحبني إلى الفندق، فتوقعت في حينه أن يكون اللقاء مع ابنتي في الفندق، ولم أفقد الأمل.. تخيلت ابنتي على سرير الغرفة، ففتحت الباب وقبل أن أنطق بكلمة حبيبتي لكنني صدمت عندما لم أجد ابنتي، عندها قلت لهم لم أعد احتمل أي شيء، أرجو ألا تحرقوا قلبي أكثر من ذلك.. لقد جئت على أمل لقاء ابنتي، فقال لي:" أعذرينا يا أمي.. نحن نحاول وإن شاء الله يكون خيراً" أرادوا أن يشعلوا نار الشوق والحنين في قلبي، وفي نفس الوقت كانت ابنتي في فندق آخر وعاملوها بنفس معاملتي، عندها توقعت أن ألتقي مع ابنتي في الأستوديو أثناء اللقاء، في هذه الليلة لم أنم، فكتبت قصيدة لابنتي، نشرتها في ديوان شعري "شلال الفصول الثمانية" وكنت أتخيلها عند اللقاء، وفي صباح اليوم التالي سألتهم عن ابنتي، فلم أجدها، فقالوا لي أنهم يريدون إجراء لقاء معي عن الأم الفلسطينية، والمرأة الفلسطينية وعن خنساء فلسطين وحاولوا إقناعي أن ابنتي لم تصل بعد إلى أبو ظبي، من خلال بعض الكلمات مثل " أن ظروف لبنان معقدة بخصوص الفلسطينيين، ولكن نحن نحاول ولم نستسلم بعد، وإن شاء الله نتمكن في الغد أو بعد غد من إحضار ابنتك، ولابد أن نجمعكم مع بعضكم البعض"، فدخلت إلى الأستوديو وحاولت أن أسيطر على نفسي خلال اللقاء، وكل تفكيري في ابنتي، في هذه اللحظة كان أبنائي الثلاثة الذين جاؤوا معي من غزة في غرفة أخرى وكانت ابنتي تصعد على السلم، عندها سمعت صوتي، فقالت هذا صوت ماما، فأجابوها أن هذا لقاء قديم، وفي هذه اللحظة صرخت وقلت لهم ابنتي هنا، فقمت من على الكرسي وعندها دخلت ابنتي الأستوديو ولك أن تتخيل كيف كان اللقاء، فحضنتها بلهفة قوية وذرفت الدموع من عيني وبكيت أمام العالم، عندها خرج أبنائي من الغرفة على صوت صراخي واجتمعنا مع بعضنا بعد 24 عاماً من الحرمان والفقدان.
قلب حنون
* كم يوم مكثت مع ابنتك في أبو ظبي؟
- مكثنا في أبو ظبي 21 يوماً وكنت أتوقع أن يكون هذا اللقاء مثمراً أكثر من ذلك، وهنا أسجل شكري لدولة الإمارات العربية المتحدة وقناة أبو ظبي على استضافتهم لنا، وأخص بالذكر الشيخة فاطمة التي استطاعت بقلبها الحنون أن تحطم جدار 24 عاماً من الحرمان وأن ألتقي بابنتي وأحضنها، لكن كنت أتمنى أن تقدم لنا أي شيء يديم استمرارنا مع بعضنا البعض بشكل دائم، كما أنني بنيت آمالاً على الشيخة فاطمة أن تساعدنا في التخفيف من وطأة الحياة التي كنا نمر بها، من خلال مساعدتي في تأمين مسكن لأبنائي، أو مساعدتي في تكاليف زواج أحد أبنائي، لكن للأسف لم أستطع مقابلتها، والشيء الذي ألمني هو ما أطلقه الناس من إشاعات مغرضة بعد عودتي إلى أرض الوطن، بأنني حصلت على ملايين الدولارات من الإمارات، حيث ساهمت هذه الإشاعات بقطع المساعدات التي كنت أتلقاها من بعض المؤسسات..!.
خنساء فلسطين تفتح قلبها وتروي مأساة عائلة فقدت 54 شهيداً في جريمة يقشعر لها الأبدان
الشاعرة رحاب كنعان:ـ
* استشهد أبي وأمي وخمسة من أشقائي وثلاثة من شقيقاتي ولحق بهم ابني
* التقيت بابنتي بعد 24 عاماً من الفقدان وكنت ولا زلت أحلم بالعيش معها
* لفظني المخاض في منافي لبنان وترعرعت بين جمر الشتات وتنقلت من مخيم إلى مخيم
* تعمق الجرح بشكل أكبر ومشى الحزن في ربوع شبابي تركاً بصماته المؤلمة
* لن نقبل التوطين والغربة فرضت علينا ولم نخترها
اعــداد : بــــنــــدقية مـــقــــاتــل ( رحـــاب كــنعــان).
لم يعرف التاريخ الإسلامي سوى خنساء واحدة، في حين عرف التاريخ الفلسطيني المعاصر خنساوات، فقدن فلذات أكبادهن في معركة الدفاع عن الوطن، ولعل من أبرز هؤلاء الخنساوات الشاعرة الفلسطينية رحاب كنعان التي فقدت 54 شهيداً من أفراد عائلتها في جريمة يقشعر لها الأبدان.. أحد ملاجئ تل الزعتر في لبنان كان مسرح الجريمة عندما تمحترمت صواريخ الموت لتضرب أعمدة إحدى البنايات التي انهارت بالكامل، ويسقط الركام فوق الملجأ الذي يحتوي على المئات من الفلسطينيين الذين هربوا من نيران الحرب ولجأوا إلى هذا الملجأ لعلهم يجدوا فيه الأمن المفقود، لكن الموت لاحقهم حتى في ملجأهم.. رحلت خنساء فلسطين من لبنان بعد خروج منظمة التحرير في عام 82، واستقرت في تونس تاركة ابنها وابنتها مع طليقها دون أن تعرف عنهما أي شيء، وشاءت الأقدار أن يسقط ابنها هو الآخر شهيداً ليلتحق بعائلته، وتتجدد الأحزان، حينها أيقنت أن ابنتها قد استشهدت هي الأخرى، إلا أن القدر أراد أن يجمع شملهما بعد 24 عاماً من الفقدان والفراق، عندها كانت المفاجأة التي لم تكن تتوقعها.
الشاعرة الفلسطينية رحاب كنعان التي فتحت قلبها وسردت وقائع مؤلمة، فالدموع لم تفارق أعينها.. والبكاء على فقدان الأحباء تجدد خلال اللقاء كلما سردت مشاهد المأساة التي عايشتها، لكنها كانت صابرة وراضية بقضاء ربها وقدره، حيث تعيش الآن مع أبنائها الثلاثة في غزة وفاء التي حصلت على درجة الماجستير في الصيدلة، وسمير المتخصص في تحليل الأغذية وحسين طبيب الأشعة.
محطات مؤلمة ( لــقــــاء مــع خــنـــســـاء فــلــســــطيــن)
* لقبت بخنساء فلسطين.. لماذا أطلق عليك هذا اللقب؟ ومن الذي أطلقه ؟
- لقبت بخنساء فلسطين عندما فقدت قافلة من الشهداء من أهلي وأبناء عائلتي، 51 شهيداً في تل الزعتر و3 شهداء في صبرا وشاتيلا، حيث لقبني الإخوة في النادي الثقافي في تونس بخنساء فلسطين، عندها قلت لهم " تشبهونني بالخنساء والخنساء مني، إذ بكت اثنان الأهل وأربعة الفؤاد، فما لبكائي عشرة الأهل والحادي فؤادي"، قالوا لي أنت بذلك تصبحين خنساء العالم، فقلت لهم دعوني على مستوى خنساء جرحي وشعبي، فبقيت على لقب خنساء فلسطين، حيث لفظني المخاض في منافي لبنان، وترعرعت بين جمر الشتات، وتنقلت من مخيم إلى مخيم، فكانت رحلة عذاب طويلة ومريرة لشعبنا في لبنان بين المخيمات.. في بداية الأمر كنا في مخيم تل الزعتر، حيث استشهد أهلي في عام 1976، وهم أبي وأمي وأشقائي الخمسة وشقيقاتي الثلاثة، عندها قلت" تستغربون لكثرة شعري بالرثاء فهل من قدم سواي من الشهداء، خمسة من صلب أبي ذكور وثلاثة عذارى ومن حملتني وحملته في الأحشاء، ومن كد عليّ دون عنا " حيث بلغ عدد شهداء عائلتي 51 شهيداً في ذلك العام من الأهل والأقارب، وبعدها انتقلنا ما بين صبرا وشاتيلا ومخيمات أخرى في لبنان، حيث كنت حينذاك متزوجة في صبرا وشاتيلا، وأعيش مع ابنتي ميمنة وابني ماهر الذي استشهد فيما بعد، حيث عايشنا جميع حروب لبنان الأهلية، وكان الجرح كبيراً، ورحلة عذاب كبيرة جداً، تحملنا خلالها مآسي ومصاعب كبيرة، وكنا نتهم على أننا احتلال فلسطيني للبنان، ولكننا كنا دوماً ولا زلنا نردد أننا لسنا أكثر من لاجئين نعيش في لبنان بشكل مؤقت، ولا يمكن أن نقبل بوطن غير وطننا فلسطين، ولا يمكن أن نستبدل وطننا، وأن هذه ما هي إلا مرحلة في تاريخ شعبنا الفلسطيني فرضت علينا ولم نخترها، فمازلنا وسنبقى نحتفظ بمفتاح العودة، وننتظر العودة إلى أرض الوطن، وفي عام 76 ُخلع مخيم تل الزعتر بشكل نهائي نتيجة المجزرة التي يشهد لها التاريخ، حيث ألفت كتاباً عام 2001 حول هذا المخيم وما شهده من مجزرة إلى ما بعد الخروج من لبنان، فكنت أضحي بعمري من أجل جلب أحد من شهدائي لدفنه في مقبرة صبرا وشاتيلا، رغم أنني أثناء الحرب كنت أحاول أدخل المخيم من أجل تقديم الواجب الوطني.
*ماذا كان دورك في المخيم ؟ وهل كان للمرأة الفلسطينية دور في مقاومة الاحتلال؟
- كنت متواجدة في مخيم تل الزعتر بشكل دائم أثناء الحروب المتقطعة، لكن في الحرب الأخيرة التي استشهد فيها أهلي لم أكن في المخيم، أما المرأة الفلسطينية فقد كانت تساعد المقاتلين من خلال تقديم الخدمات لهم، مثل غسيل الملابس وجلب الماء والطهي وتقديم الطعام، حيث كان كوب الماء يوازي كوب الدم في ذلك الوقت، فكان للمرأة دور كبير في مساندة المقاتلين، وقامت المرأة الفلسطينية بدور يشرف التاريخ الفلسطيني، والتاريخ النضالي.
جريمة وحشية
* هل لك أن تطلعينا على ظروف استشهاد عائلتك في تل الزعتر؟
- كان أهلي في ملجأ تحت بناية مكونة من ثمانية طوابق، داخل هذا الملجأ ما يقارب خمسمائة شخص لجأوا إليه للاحتماء من نيران الصواريخ، حيث تجمع الأهل في هذه البناية التي كانت قريبة من مساكنهم، وكان أفراد العائلة موزعين على عدة ملاجئ، حيث أوصت والدتي بألا يجتمع أفراد العائلة في ملجأ واحد حتى نتفادى وقوع ضحايا في كل العائلة، لكن إرادة الله عز وجل فاقت كل شيء، حيث اجتمع كل الأقارب في هذا الملجأ، وكانت الفاجعة الكبرى عندما سقطت الصواريخ التفريغية مستهدفة أعمدة الدور الأول من البناية التي انهارت طوابقها الثمانية فوق الملجأ فانطبق على الشهداء، حيث استشهد في هذا الملجأ ما بين 400-500 شهيد من بينهم 51 شهيداً من عائلتي، وبعد ذلك استشهد ابني، مع اثنين من أبناء خالتي، ليرتفع عدد شهداء عائلتي إلى 54 شهيداً.
* أين كنت في هذا الوقت؟
- كنت في صبرا وشاتيلا، حيث خرجت قبل الحصار الأخير بعدة أيام.
* عندما تلقيت نبأ قصف الملجأ.. هل توقعت أن يكون هو نفس الملجأ الذي تقطنه عائلتك ؟
- لا لم أتوقع ذلك، ولم أتخيله، حيث توقعت أن يستشهد اثنان أو ثلاثة من عائلتي فقط، لأني كنت حينها مع أختي أزود أسرتي في الملجأ بالطعام، وعندما علمت بموضوع القصف توقعت أن يكون جرح أو استشهد اثنان أو ثلاثة من العائلة، لكنني لم أتوقع أن يستشهد 51 شخصاً من عائلتي.. في ذلك الوقت أقاموا مستشفى ميداني في مقر الجامعة العربية لاستقبال جرحى القصف، وكنت أخرج كلما يأتي فوج من الجرحى أتفقدهم، وأثناء تفقدي الجرحى تفاجأت بأستاذي مصاباً فحضنته وسلمت عليه، عندها بكى وأنا بكيت، سألته عن عائلتي فقال لي" اسمعي يا عمو.. لا تصدقي كلام أي أحد يقابلك، واستمري حتى تصلي للحقيقة" حيث أراد أن يوصل لي رسالة للأسف لم تصلن في حينها، مفاد هذه الرسالة ألا أتفاجأ من أول خبر، فلم يستطع إبلاغي نبأ استشهاد عائلتي، وحاول يجرعني المصاب بالتدريج، فلم آخذ بكلام أستاذي، وواصلت الطريق والبحث عن عائلتي إلى أن اصطدمت بزميلتي في الدراسة وهي أيضاً مصابة، فسألتها عن عائلتي، فأجابتني بجرأة قائلة" كل آل حمزة استشهدوا " فلم أتمالك نفسي في حينها، وسألتها كيف حصل هذا ؟ فقالت: في قصف الملجأ، فأجبتها أن أهلي في ملجأ بوتاجي، فقالت لي" لقد جاء أهلك إلى هذا الملجأ قبل ثلاثة أيام" بعدها لم استفق من الصدمة، حيث أغمي عليّ ولم أفق إلا عند شقيقاتي المتزوجات في مدينة صور، وعلى إثرها بدأت كتاباتي عبارة عن عتابا ونواح، وتعمق الجرح بشكل أكبر حتى مشى الحزن في ربوع شبابي تاركاً بصماته الأليمة، لكنني حمدت ربي على هذا المصاب الكبير، وأعتز بهذا الفضل من ربي، فهؤلاء 54 وساماً، وأؤمن بقضاء ربي وقدره وأحمده عليه، وأتمنى أن يكرمني ربي بالشهادة.
* كم كان عمرك في ذلك الوقت؟
- كان عمري 26 عاماً، وكنت في أمس الحاجة لمن يقف إلى جانبي، حيث كنت أعاني من مشاكل عائلية مع زوجي وعلى وشك الانفصال عنه، فجاء هذا المصاب وكان كارثة بالنسبة لي.
لقاء الأحبة
* شهد العالم على شاشات التلفاز اللقاء الذي جمعك مع ابنتك بعد 24 عاماً من الفقدان.. هل لك أن تطلعينا على هذه القصة وكيف التقيت بابنتك بعد هذه الفترة؟
- عندما استشهد أهلي انفصلت عن زوجي وبقي ابني ماهر وابنتي ميمنة عند والدهما، بعدها سكنت عند شقيقاتي المتزوجات، وتنقلت بين بيوت شقيقاتي وأقاربي، ومن ثم شاءت الأقدار أن أتزوج ثانية من رجل آخر في عام 1979، وبعد حرب عام 1982 عندما خرجت المقاومة الفلسطينية والفدائيين من لبنان، خرج زوجي مع الفدائيين، وجاءت مجزرة صبرا وشاتيلا، حيث كان نصيبي أن أعيش هذه المجزرة حتى أشرب الجرح الفلسطيني بكل كؤوسه، وبعدها التحقت بزوجي في تونس، في حينه لم أكن أعلم أي شي عن ابني وابنتي، وقطع خط الاتصال بيني وبين أبنائي.. في عام 1986 عدت إلى لبنان لأرى أبنائي، ولكن للأسف لم أعثر عليهما، فتوقعت أن يكونا قد استشهدا وأن الناس أرادوا إخفاء الحقيقة عني حتى لا أصطدم ثانية، فعدت إلى تونس، وفي نفس الشهر كنت أقرأ مجلة فلسطين الثورة فوجدت اسم ابني ماهر من بين أسماء الشهداء، حيث تركت ابني في سن الخامسة، لكنه استشهد في سن الثانية عشرة، فحمدت ربي على هذا البلاء، حيث دفن في المسجد، وأذكر أنه في ذلك العام كان الحصار شديداً والحرب الأهلية في لبنان كادت أن تقضي على كل شيء، لدرجة أن المفتي أصدر فتوى بجواز أكل لحم الشهيد نتيجة عدم توفر الطعام، عندها تحرك ضمير العالم واستطاعوا فك الحصار عن الناس، حيث حفر المواطنون المسجد ودفنوا الشهداء بداخله، وكان ابني من بينهم، وفي عام 2001 عندما نزلت إلى لبنان زرته، وحضنت قبره الذي يحتوي على أكثر من عشرين شهيداً وبعدها أصبحت أتخيل ابني عندما أمر من أمام أي مسجد.
* ولكن كيف عثرت على ابنتك بعد غياب 24 عاماً ؟
- عندما علمت بنبأ استشهاد ابني توقعت أن تكون ابنتي قد استشهدت هي الأخرى، فكان بحوزتي رقم هاتف خالتي في لبنان، كنت أتصل به دوماً، لكنه لم ينجح الاتصال، وبعد خروجنا من تونس عدت إلى غزة مع زوجي، وبعد أن توفى زوجي في عام 1999 رحلت من منزلي إلى منزل آخر، وفي أثناء ترتيب أوراقي عثرت على رقم هاتف خالتي بين الأوراق، فقلت في نفسي "كم اتصلت بك يا خالتي على هذا الرقم دون جدوى؟"، وفي إحدى الأيام كنت عند جارتي المسنة فأخذت سماعة الهاتف وطلبت رقم خالتي، وهنا كانت المفاجأة عندما نجح الاتصال فشعرت جسمي يرتعش من الفرحة، فأجابت ابنة خالتي، عندها قلت لها أنا رحاب من فلسطين، من أنت؟ فقالت لي: ابنة خالتك، فسلمت عليها وأبلغتها برقم هاتفي فوراً خشيت أن أفقد الاتصال، وسألتها عن ابنتي ميمنة، فأجابتني أنها بخير وعلى قيد الحياة، عندها لم تسعني الفرحة، وأبلغتها أنني سـأتصل بعد غد في نفس الوقت، وطلبت منها أن تحضر لي ابنتي كي أتحدث إليها، وفي اليوم التالي أبلغتني جارتي صاحبة الهاتف أن أحضر إليها لأرد على الهاتف، وهنا كانت المفاجأة عندما علمت أن الذي على الهاتف هي ابنتي، فقالت لي" ياماما أنا ميمنة" عندها لم أتمالك نفسي من الفرحة، ولم أفتكر من كلامها سوى أنها طلبت مني أن أقول لها باستمرار "يا ماما" فقد حرمت من هذه الكلمة، بعدها تواصلت الاتصالات بيننا بعد انقطاع دام 24 عاماً.
لقاء تلفزيوني
* كيف تم الترتيب اللقاء التلفزيوني الأول مع ابنتك ؟
- في يوم من الأيام كنت في إحدى الجمعيات وشاهدت في التلفاز برنامجاً للقاء أسرى محررين في لبنان مع ذويهم، فطلبت منهم ترتيب لقاء بيني وبين ابنتي عن طريق التلفاز، وبالفعل تم هذا اللقاء من خلال قناة المنار الفضائية، وكانت المرة الأولى التي أشاهد فيها ابنتي، لكن ابنتي شاهدتني على شاشة فضائية فلسطين، حيث كنت ضيفة إحدى اللقاءات حول عيد الأم، مع المذيعة تمام أبو سليم، عندها شاهدتني ابنتي، وكنت أشعر خلال اللقاء أن ابنتي تشاهدني، بعدها تم ترتيب لقاء بيني وبين ابنتي من خلال قناة المنار، أنا هنا في غزة وابنتي في لبنان، فلم أتمالك نفسي عندما شاهدت ابنتي ومن الفرحة حضنت التلفاز، وفي نفس اللقاء كان على جانب ابنتي شقيقاتي وزوجة أخي، حيث لم أشاهدهن منذ نحو سبعة عشر عاماً، لكنني لم أعرفهن إلا في نهاية اللقاء عندما طلبت مني المذيعة أن أوجه رسالة إلى شقيقاتي، عندها ضربت يدي على صدري من الصدمة بدون وعي، فمكثت أشهر أعاني من الألم الذي سببته لي هذه الضربة، ثم انتهى اللقاء التلفزيوني الذي كان له أثر كبير وهز العالم، وبعد هذا اللقاء بأسبوع أو أكثر بقليل اتصلت بي قناة أبو ظبي وأرادت ترتيب لقاءً آخر على غرار لقاء قناة المنار، فرحبت بالفكرة، خاصة وأنني سأشاهد ابنتي ثانية، وبالفعل تم اللقاء، الذي كان له صدى كبير في نفسي، وتمكنت من رؤية ابنتي هذه المرة بشكل أفضل من المرة السابقة التي انهارت فيها دموعي من شدة الفرح، وبعد خروجي من الأستوديو خرجت إلى غرفة مدير القناة في غزة عبد السلام أبو عسكر الذي أكن له كل احترام وتقدير، فهو لم يتمالك نفسه وبكى من شدة الموقف، عندها قال لي إن شاء الله ستشاهدين ابنتك قريباً على أرض الواقع، فقلت له كيف ؟ فأجابني أنه خلال 72 ساعة ستكونين في أبو ظبي وستشاهدين ابنتك، عندها لم أتمالك نفسي وأردت أن أقبل قدمه، إلا أنه رفض ذلك بشدة، وقبل رأسي، بعدها أجرى الإخوة في وزارة الشؤون المدنية الترتيبات اللازمة لسفري لأبو ظبي، وسافرت إلى هناك، حيث كنت أعلم أنني سألتقي بابنتي، وعندما وصلت المطار استقبلوني وأخذوا مني أوراقي وكنت أبحث بنظري عن ابنتي، كنت أتوقع أن التقي بها في المطار، لكن لم أجدها، فسألتهم أين ابنتي؟ فلم يجيبوا وأنكروا معرفتهم بذلك، وأجابني أمن المطار أن لديهم تعليمات باستقبالي مع أولادي، وأنهم لا يعلمون أي شيء عن ابنتي في لبنان، وفي نفس اللحظة هبطت الطائرة التي على متنها ابنتي، عندها اصطحبني إلى خلف جدار حتى لا أشاهد ابنتي، وفي هذه اللحظة جاء الأخ جابر عبيد مذيع القناة الذي أجرى اللقاء معي، واصطحبني إلى الفندق، فتوقعت في حينه أن يكون اللقاء مع ابنتي في الفندق، ولم أفقد الأمل.. تخيلت ابنتي على سرير الغرفة، ففتحت الباب وقبل أن أنطق بكلمة حبيبتي لكنني صدمت عندما لم أجد ابنتي، عندها قلت لهم لم أعد احتمل أي شيء، أرجو ألا تحرقوا قلبي أكثر من ذلك.. لقد جئت على أمل لقاء ابنتي، فقال لي:" أعذرينا يا أمي.. نحن نحاول وإن شاء الله يكون خيراً" أرادوا أن يشعلوا نار الشوق والحنين في قلبي، وفي نفس الوقت كانت ابنتي في فندق آخر وعاملوها بنفس معاملتي، عندها توقعت أن ألتقي مع ابنتي في الأستوديو أثناء اللقاء، في هذه الليلة لم أنم، فكتبت قصيدة لابنتي، نشرتها في ديوان شعري "شلال الفصول الثمانية" وكنت أتخيلها عند اللقاء، وفي صباح اليوم التالي سألتهم عن ابنتي، فلم أجدها، فقالوا لي أنهم يريدون إجراء لقاء معي عن الأم الفلسطينية، والمرأة الفلسطينية وعن خنساء فلسطين وحاولوا إقناعي أن ابنتي لم تصل بعد إلى أبو ظبي، من خلال بعض الكلمات مثل " أن ظروف لبنان معقدة بخصوص الفلسطينيين، ولكن نحن نحاول ولم نستسلم بعد، وإن شاء الله نتمكن في الغد أو بعد غد من إحضار ابنتك، ولابد أن نجمعكم مع بعضكم البعض"، فدخلت إلى الأستوديو وحاولت أن أسيطر على نفسي خلال اللقاء، وكل تفكيري في ابنتي، في هذه اللحظة كان أبنائي الثلاثة الذين جاؤوا معي من غزة في غرفة أخرى وكانت ابنتي تصعد على السلم، عندها سمعت صوتي، فقالت هذا صوت ماما، فأجابوها أن هذا لقاء قديم، وفي هذه اللحظة صرخت وقلت لهم ابنتي هنا، فقمت من على الكرسي وعندها دخلت ابنتي الأستوديو ولك أن تتخيل كيف كان اللقاء، فحضنتها بلهفة قوية وذرفت الدموع من عيني وبكيت أمام العالم، عندها خرج أبنائي من الغرفة على صوت صراخي واجتمعنا مع بعضنا بعد 24 عاماً من الحرمان والفقدان.
قلب حنون
* كم يوم مكثت مع ابنتك في أبو ظبي؟
- مكثنا في أبو ظبي 21 يوماً وكنت أتوقع أن يكون هذا اللقاء مثمراً أكثر من ذلك، وهنا أسجل شكري لدولة الإمارات العربية المتحدة وقناة أبو ظبي على استضافتهم لنا، وأخص بالذكر الشيخة فاطمة التي استطاعت بقلبها الحنون أن تحطم جدار 24 عاماً من الحرمان وأن ألتقي بابنتي وأحضنها، لكن كنت أتمنى أن تقدم لنا أي شيء يديم استمرارنا مع بعضنا البعض بشكل دائم، كما أنني بنيت آمالاً على الشيخة فاطمة أن تساعدنا في التخفيف من وطأة الحياة التي كنا نمر بها، من خلال مساعدتي في تأمين مسكن لأبنائي، أو مساعدتي في تكاليف زواج أحد أبنائي، لكن للأسف لم أستطع مقابلتها، والشيء الذي ألمني هو ما أطلقه الناس من إشاعات مغرضة بعد عودتي إلى أرض الوطن، بأنني حصلت على ملايين الدولارات من الإمارات، حيث ساهمت هذه الإشاعات بقطع المساعدات التي كنت أتلقاها من بعض المؤسسات..!.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر