أحمد سعدات... لم يعد لديك ما يشبعهم
بقلم: عيسى قراقع
ماذا بقي لديك لم يأخذوه سوى الروح؟ هي الوحيدة المختبئة بين ضلوعك والسماء، وما عليك سوى أن تجادل المطلق كي يبقيك حياً على أرض زنزانة ليس فيها أكثر من جسد يصارع البقاء.
خمسة عشر عاماً في السجن، طريق لا يفهمه الفلاسفة الجدد، ولا المؤرخين الجدد، لأن كل ما فيك هو صوت، وفي الصوت فكرة، ومن يعش على فكرةٍ يصل إلى الحلم، ولأنهم عاشوا على خطيئة فما زالوا يتعثّرون بك وبحلمٍ يشبه ليلاً يحتضر بالموت.
إني عجبت من دولةٍ تعتقل أحمد سعدات، كلما اقتربت منه انفجرت في وجهها أوهام الأساطير، وكلما وضعته في زنزانةٍ أضاءت بين يديه النجوم، ويصير الماضي غده ووقته الجميل.
أحمد سعدات يألف السجن: سقف الزنزانة، الجدران الخشنة، النافذة الصغيرة، الباب المغلق، الحارس المتوتّر، نهارٌ يتبخّر وعتمة صامته، عالمه قناعاته وما ملكت يداه من غيوم...هو القرار، وهم التائهون بين لائحة اتهامٍ وأسيرٍ يحدّد أين تكون خطاه.
أحمد سعدات لم يعد لديك ما يشبعهم: هدموا جدران سجن أريحا فوق رأسك، كنت هادئاً هادئاً تنظر بسخرية إلى من يحاصروك في ليلة خسوفٍ وغفلةٍ من البحر والناس، فخرجت إلى المشهد نخلةً باسقة، ودخلوا هم إلى المشهد صدىً لرؤياك.
في المحكمة العسكرية الإسرائيلية قلت للقاضي أن كل عملك هو باطل، ولستم أكثر من جهازٍ يطيل عمر الاحتلال، احتفظ بالملف فلن تجد شاهداً على نفسي سواي، أنا الدليل الوحيد الذي يعرف أين تصل رحلتي، ويعرف أن الأرض لا تحتمل الغياب.
حكموك ثلاثين عاماً ولم يشبعوا، وضعوك في العزل الانفرادي ولم يشبعوا، منعوا عنك الزيارة والسجائر والملابس والجريدة والكتب والكنتينة ولم يشبعوا، فلكي تحلم لا يلزمك شيء، ولكي يحلموا هم يلزمهم حربٌ وسجّانون ووحدات قمعٍ ولجنة وزارية خاصّة لتشديد الإجراءات عليك.
ما يستفزّهم هو إصرارك أن وجودك هنا مؤقّت، وأن حياتك هناك بين القدس والأقصى وبحرين وكنيستين، وأن وجودهم معلّقٌ بذاكرتك المزدحمة وبقدرتك على ملء الوقت بالأسماء.
أحمد سعدات لم يعد لديك ما يشبعهم، لقد أخذوا الأرض وحقول الزيتون، شيّدوا ما استطاعوا من مستوطنات، اختبأوا وراء الجدار والحواجز والأسلاك والبنادق، اعتقلوا الصغير والكبير ونهبوا الماء وجففوا الآبار، ولم يشبعوا، لكنك ما زلت تقول: ستحدث أشياءٌ أخرى وتسقط القوّة يوماً، ويرتفع الحق عالياً فوق أعالي السيف.
أحمد سعدات لم يعد لديك ما يشبعهم: اجتمعوا وقرروا سنّ تشريعاتٍ عنصرية ضد الأسرى، أباحت محاكمهم العسكرية ضرب الفلسطينيين، جعلوا للتعذيب قانوناً، وللإعدامات وسرقة الأعضاء من أجساد الموتى نصوص، احتفظوا برفات الشهداء في مقابر عسكرية مجهولة ولم يشبعوا، لكنك ما زلت تقول: للحرية رائحة كالمكان تدلّ الغائبين.
يتمنّى سعدات أن يتحرر السجّان من لباسه ومسدسه وأغلاله وثقافته ويعود عارياً إلى البحر، ليعتذر عما فعلت يداه ويغتسل من ذلك الليل الطويل.
يتمنى سعدات أن ينام الصدى قليلاً ويهدأ الملح في الجروح النازفة، لأن الحياة لا تعود إلى نفوسٍ ميّته تعيش بين الفولاذ والقمع والدخان وتحتجز الآلاف من البشر في معسكراتها وتدّعي بعد أكثر من ستين عاماً وستين مذبحة أنها ما زالت تدافع عن نفسها.
تمنى سعدات أن يجد أمامه شريكاً إسرائيلياً حقيقياً في السلام، يتخلّى قليلاً عما تعلّمه على يد الحاخامان العنصريين، أن يقرأ أشعار لوركا ومحمود درويش والخيام وأبو فراس الحمداني، أن يتحرر من عقدة الخوف والاحتلال والسيطرة على الآخرين.
يسألهم أحمد سعدات: لماذا لا نلتقي إلا في الزنزانة وجهاً لوجه، الحرب ترغمكم أن تكونوا جلادين في السجون، والحرب ترغمني أن أكون أسيراً أفتّش عن حريتي في البراهين، وأحرركم من جنونكم ويأسكم المعدني الثقيل.
ليس مصير الأسرى رهينة لصفقةٍ أو حسن نوايا عندما يصير السلام شكلاً من أشكال الحرب، والدولة الموعودة قفصٌ لضحايا يؤدّون دورهم خلف الظلال.
أنت من ميّزت التشابه بين بابين: باب الخروج وباب الدخول، وقلت ما بعد الموت حياة، وما بعد السجن حياة. عندما قدت الموت إلى عناصره الأولى: الماء والتراب والنار والهواء.
أنت من تطرد السجن من الغموض لترى أبعد مما يرون: بلادٌ تستيقظ بين يديك كرغيف خبز، أناشيد تمتلئ بالفجر والرايات، شعبٌ أكبر من خريطته يتوسّع في الزمان وفي الوجود.
ستة شهور أخرى في زنزانة العزل الإنفرادي، هكذا قررت الدولة العبرية، ورموك إلى تلك المقبرة، لكن الوقت عندك ليس صفراً، فأنت القديم غداً والجديد الذي يفيض عما ينتظرون.
لم يعد لديك ما يشبعهم، موتك لا يشبعهم، وحياتك بين الظلمة والقضبان لا تشبعهم، دمك المكشوف المضيء في كل مكان لا يشبعهم، تعتصرك الزنزانة الصغيرة ويعتصرهم اسمك وهو ينام في المعنى ويمضي في التاريخ.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر