مقدمة
من مهام علم التاريخ، حين يدعي العلمية، تفنيد الأسطورة بالبحث في أصل نشوئها ووظيفتها، وبكتابة تاريخ الوقائع في مقابلها، وبميل إلى معرفة الحقيقة كما كانت دون ادعائها، وبمنهجية تنزع نحو العلمية. ولا شك أن الأيديولوجية بما فيها من غايات وأهداف سياسية وزوايا نظر ومصالح، تتحكم في سردية التاريخ وفي الانتقائية (حتى غير الواعية للوقائع، ناهيك بالواعية) وفي الحجم والوزن الممنوح لهذه الواقعة في مقابل تلك.
كما أن الأيديولوجية تتحكم وتتجلى بالتحقيب وتقسيم الزمان. فهذا التقسيم المحكوم بما تسمى خصائص كل حقبة هو غالبا عمل أيديولوجي. ومن هنا لا بد من تعرّض وتعريض عملية التأريخ والمؤرخين إلى نقد صارم. ومن هنا أهمية الحرية الأكاديمية في هذا السياق تحديدا، إذ لا بد من حوار أكاديمي حر بين المؤرخين لا يتوقف عند مقدسات ومحرمات.
ولا بد من مراجعة عمليات التأريخ بين فترة وأخرى، ليس لمجرد اكتشاف وقائع جديدة أو الكشف عنها، ولا لمجرد اجتراح وسائل جديدة في النقد والبحث والتفكيك والتركيب، بل أيضا لأن خطابا سياسيا سائدا هُزِمَ حمَلتُه، أو ضعف داخليا وبات أكثر عرضة للنقد، أو أدى وظيفته، ولم يعد صاحب الشأن، الدولة، مثلا بحاجة له.
فاكتشفنا فجأة أن هذا الخطاب قد صمم كتب التاريخ أيديولوجيًّا من وجهة نظره، فتحكم باختيار البداية والعصر الذهبي وعصر الانحطاط. واكتشفنا أن هذه ليست هي البداية بالضرورة، وأنه انتقى وقائع وأهمل غيرها. وبدل أن يفكك الأسطورة استخدمها أو تأثر بها وببنيتها وبسرديتها، فخدمها في عملية كتابة التاريخ، أو سخرها في خدمته. واكتشفنا أن كليهما كان مسخرا في خدمة هدف سياسي لحركات قومية أو دينية أو في خدمة نظام حكم.
وانفضحت وما زالت تنفضح تواريخ أيديولوجية لدول تكتب تاريخا من زاوية نظر حدودها الموجودة، كأنه يوجد تاريخٌ موحدٌ لقطعة الأرض هذه بالتحديد يميزها عن وسواها على مر العصور، وكأن للجماعة البشرية التي تعيش عليها أيضا تاريخ موحد ومنفصل عن غيره.. والأهم من ذلك لموضوعنا أن التاريخ حين يكتب أيديولوجيّا يبدو في بعض الأحيان كمن يزيل القشور والوقائع الني تسمى عارضة. ويكتشف التاريخَ المضمر الذي يجب اكتشافُه ليبرر هذه الحدود السياسية، ودورَ هذه الأقلية أو الأكثرية الإثنية أو الطائفية الحاكمة بدلا من الأغلبية الديمقراطية.
ومع ذلك فإن البنية المعرفية لهذا كله تمكِّنُ من الإثبات والنفي والتفنيد والمناقشة. وبذلك تختلف عن الأسطورة بحد ذاتها، وعن التاريخ المقدس ذاته.
فالأخيران يعبّران عن إيمان منتشر عند جماعات بشريةٍ حول حكاية الأشياء وليس تاريخها. وتمنح الحكايةُ المتضمنةُ في كلِّ أسطورة معنى ومغزى لجماعات بشرية: أصلها ورسالتها، وسبب وجودها، و"حقها التاريخي" الممنوح لها والمشتق من الأسطورة. ولأنه قضية إيمانية فإن النقاش والمحاورة فيه أصعب. والإيمانُ مراتبٌ رغم كل شيء، هذا برأيي المتواضع. فهنالك فرق بين إيمان بحقائق بسيطة يمكن تكذيبها وإيمان بالله عز وجل. وعندما تُعرَض رواية تاريخية متماسكة بديلة لرواية تاريخية معتنقة اعتقادا يمكن زعزعةُ إيمانٍ بوقائعٍ جزئية عن جهل أو عن تقليد على خلاف الإيمان بقوة إلهية خارج الطبيعة لا حقائق تدحضها.
وإذا ارتبط التاريخ المقدس بالدين نفسه، فإن المشكلة هنا هي التعامل مع الكتب المقدسة كأنها كتب تاريخ إذ يتم التعامل مع مغاز ومعان إلهية كأنها وقائع تاريخية. وهنا يشقُّ النقد، ويصعب النقاش. والوسيلة الأفضل طبعا هي ليست النقاش الصدامي، بل فصل التاريخ المقدس بوقائعه ورموزه وأماكنه وعجائبه ومآثره عن التاريخ الدنيوي الذي يحاول العقل البشري المحدود أن يستعيده بالوثائق والحفريات، وبمقارنة الأدلة والشهادات والمرويات والمذكرات وغير ذلك.. وقبل كل شيء بالعقل السليم الرافض للتسليم بالخرافات أو بالمعتقدات كأنها تاريخ حقيقي. ويبقى التاريخ المقدس كتاريخ يمنحُ معاني ومغازي، أو يولّدُ العبر كما تسمى في كتب التاريخ الإسلامية، وهي بامتياز كتب الأخبار والوقائع والعبر المتواشجة.
ولكن السياسة تأبى هذا الفصل. والسياسة حالة دنيوية من القوى والمصالح. وهي تسخِّرُ الأسطورة والتاريخ المقدسَ، تسخِّرهما في التبرير والتعليل، وفي بناء الوعي والتعبئة والتجييش، وفي اكتساب الشرعية. وفي كل خطاب قومي، ناهيك بصراع قومي، يختلط التاريخ المقدس والتاريخ الدنيوي. وللتاريخ المقدس مناسبات ومعارك وأعوام، وأماكن للذاكرة، تتقاطع جميعها مع أحداث يريدها الوعي السياسي مفاصل تاريخية تشكّل وتصوغ الإدراكَ والشرعية.
ولكن لا يختلطُ التاريخ المقدس بالتاريخ الدنيوي، لكي لا نقول المدَّنس، كما يختلطُ في القدس. ومصدر التاريخ المقدس هنا هو نصوص مقدّسة إلهية تروي قصةً، أو حكاية، عن المدينة. وقد ساهمت هذه النصوص وهذه القصص في تشكل وعي شعوب كاملة بعيدة وقريبة عن التاريخ والقوى المتصارعة فيه، وعن الخير والشر، وعن مسار التاريخ وصولا إلى القارئ نفسه. والمدينة حاضرة بشكل مركزي فيها. وقد أثَّرت بنيةُ هذه القصص على جيل كاملٍ من المؤرخين الغربيين والمستشرقين الذين نشؤوا على هذه القصص في البيت والمدرسة وفي الأدب والفن، وتعاملوا مع التوراة، وما يسمى مسيحيا بالعهد القديم كأنه كتاب تاريخ أو كأنه سيرة شعب. فبحثوا كعلماء ناضجين عن أدلة تثبته، وعن مواقع تأكّده. وحفروا في الأرض، وفي بالهم أن الموجودات هي مسميات لأسماء جاهزة في أذهانهم. الأداة منطق دائري يسند ذاته بأدلة تبدو مادية وعلمية. ولكن المنتوج أيديولوجي بشكل صارخ. وهو سياسي في خدمة سياسات ترى سكان البلاد الحاليين في فلسطين سكانا طارئين عابرين. فهم عابرون وطارئون على تاريخ البلاد الحقيقي القائم في أذهان هؤلاء.
ولا يقوم الحق، ولا القانون الدولي، ولا العلاقات بين الشعوب إلا على أساس حق السكان على وطنهم الذي ولدوا فيه أبا عن جد، والذي فلحوا أرضه واستصلحوها، ورووها بعرقهم، وكتبوا فيها الملاحم والقصائد، وأقاموا فيه حاضراتهم وتوارثوها. وتخيلوا لو تعاملنا مع السكان في كل بلد في العالم كأنهم حالة طارئة على تاريخ هذا البلد القديم والحقيقي والمقدس، وأن لهذا التاريخ المقدس حملة آخرين، ومتشفين يرون في السكان ركاما فوضويا، أو مجرد ديكور، أو أداة حفر في أفضل الحالات.
تخيلوا لو قررنا أن هذا التاريخ المقدس هو الذي يمنح الحق على البلد؟ طبعا لا يمكن تخيّل ذلك حتى بحق شعوب تعيش حيث تعيش منذ بضع مئات من السنين، ونعرف عينيا متى هاجرت ومتى توطنت، إذ إنها فعلت ذلك بعد أن نشأ علم تاريخ حديث مكتوب، ناهيك بدول لم تكن قائمة وأصبحت قائمة بفعل عمليات توحيد وانفصال طيلة القرنين الأخيرين في أوروبا وغيرها.
فلسطين والتاريخ المقدس
ولكن هذا ما يجري بشأن فلسطين وفيها. وهذه هي الإستراتيجية الأيديولوجية المتبعة إذا صح التعبير لمصادرة فلسطين من أهلها. إنها الاستعاضة بحق تاريخي مقدس عن حق السكان الموجوين بفعل وجودهم المتسلسل والمتواصل منذ مئات وآلاف السنين كما يفهمون هم "ذاتهم" ويعرّفونها. وهي الناتجة عن اختلاط الثقافات والشعوب وتلاقحها على أرضهم منذ كنعان وحتى هيمنت الثقافة العربية الإسلامية مشكِّلةً بوتقة صهر في الوقت ذاته. إنها استبدال التاريخ المعاش بتاريخ آخر، هو بنظر المستعمرين التاريخ الحقيقي والمقدس الذي يؤسس لكيان آخر غير الكيان القائم، وعلى أنقاضه.
هؤلاء ينتجون خطابا أيديولوجيا يعاد استخدامه في خدمة سياسة توسعية استعمارية. ولا يجب أن يولد هذا المجهود المنتشر من المبعوثين المدنيين للدول الاستعمارية في أيام الإمبراطورية العثمانية، والمبشرين مرورا بالقادة الصهاينة، وحتى آخر مراسل صحفي وصل البلاد رد فعل علميا نقديا. فقد كاد يسيطر على الخطاب السياسي والإعلامي وحتى الجامعي الغربي، ناهيك عن الإسرائيلي، بخصوص فلسطين وحق اليهود التاريخي فيها. وتظهر الصهيونية الحديثة والمحدثة كممثل لهذا التاريخ اليهودي المفترض.
ولا شك أن تفنيد هذا الخطاب بوسائل علمية تأريخية وبالحجة والمنطق هو رد الفعل الطبيعي، الذي لا بد من تشجيعه، خاصة حينما يأتي من علماء في أقسام التاريخ والأركيولوجيا في الجامعة التي تخون الأمانة عندما تؤسس للتاريخ المقدس لدين من الديانات كأنه هو التاريخ العالمي، وهي تدري كيف يجري تسخير ذلك سياسيا في احتلال بلد وطرد أهله.
ولكن رد الفعل الآخر يأتي من المقموعين المصادرة أرضهم والمشردين والمحاصرين بالمستوطنين وبهذه الروايات والأساطير التي تقتحم بيوتهم وحاراتهم وتهدمها، أو تعيد تسميتها وتقسيمها، أو تشردهم وتقيم بدل قراهم مستوطنات بأسماء توراتية، أو تحوّلهم إلى أقلية في وطنهم، وتعتبرهم حرفيا مهاجرين وضيوفا دخلوا إسرائيل. خلافا للواقع الحاضر البديهي أنها هي دخلت عليهم. فمن يكتب تاريخا مزورا يميل عادة للكتابة المزروة عن الحاضر. وإذا كان يكذب ويشوه ما نشهده بأم العين فكيف نأتمنه على الماضي.
ويكون رد الفعل أساسا بالمقاومة والصراع. وتستند المقاومة إلى شرعية الوجود على الأرض وإلى رفض الاستعمار باعتباره عملية سطو مسلح وعدوان. وهي لا تقوم لا على القانون الدولي من جهة، ولا على التاريخ المقدس من جهة أخرى. ولكن رد الفعل المقاوم هذا يستدعي أيضا مصادر شرعية ووطنية ودينية وخطابا مقابلا للخطاب التوراتي وتاريخا مقدسا آخر، أو قراءة مخالفة لنفس التاريخ المقدس، ولنفس الأمكنة. فهو يستثمر تراث الشعب وتاريخه ودينه في عملية المقاومة.
والمشكلة أنه كلما تبيّن عجز الدول العربية، أو تبين عدم رغبتها في مواجهة أو مقاومة إسرائيل (كقوة دنيوية قامت بالفعل الحربي والاستيطاني وبالتخطيط السياسي وبالتطبيق الاستيطاني وبعملية بناء الأمة والمؤسسات وكلها أمور دنيوية جدا)، تضخم دور التاريخ المقدس المعارض والمناقض للتاريخ المقدس الصهيوني، وزاد دور الإيمان في عملية التعبئة والتجييش لجماهير تلك الدول التي تقاعست عن القيام بدورها.
وبما أن القدس هي بؤرة التاريخ المقدس الصهيوني وعاصمته، خلافا لتاريخه الدنيوي من بودابس وفيينا وباريس ووارسو وبريست ليتوفسك وأوديسا إلى تل أبيب والكيبوتس والموشاف و"جيش الدفاع" الدنيوية جدا جميعها، فإن عملية التعبئة الصهيونية بشكل خاص منذ عام 67 تجري حول القدس.
وكل ما يسمى قدسا بموجب الخطاب الصهيوني الذي يلتقي في القدس بشكل مطلق، ويتطابق مع الخطاب القومي الديني، يصبح مقدسا وغيرَ قابل للتفاوض. ولذلك فلا بد من توسيع القدس. وبعملية التوسيع هذه تتخذ الصهيونية وحكومة إسرائيل مكان الآلهة فهي تسمي مناطق تبعد عن القدس عشرة كيلومترات باسم القدس أو تعتبرها جزءا من القدس، فتصبح بذلك غير قابلة للتفاوض.
من مهام علم التاريخ، حين يدعي العلمية، تفنيد الأسطورة بالبحث في أصل نشوئها ووظيفتها، وبكتابة تاريخ الوقائع في مقابلها، وبميل إلى معرفة الحقيقة كما كانت دون ادعائها، وبمنهجية تنزع نحو العلمية. ولا شك أن الأيديولوجية بما فيها من غايات وأهداف سياسية وزوايا نظر ومصالح، تتحكم في سردية التاريخ وفي الانتقائية (حتى غير الواعية للوقائع، ناهيك بالواعية) وفي الحجم والوزن الممنوح لهذه الواقعة في مقابل تلك.
كما أن الأيديولوجية تتحكم وتتجلى بالتحقيب وتقسيم الزمان. فهذا التقسيم المحكوم بما تسمى خصائص كل حقبة هو غالبا عمل أيديولوجي. ومن هنا لا بد من تعرّض وتعريض عملية التأريخ والمؤرخين إلى نقد صارم. ومن هنا أهمية الحرية الأكاديمية في هذا السياق تحديدا، إذ لا بد من حوار أكاديمي حر بين المؤرخين لا يتوقف عند مقدسات ومحرمات.
ولا بد من مراجعة عمليات التأريخ بين فترة وأخرى، ليس لمجرد اكتشاف وقائع جديدة أو الكشف عنها، ولا لمجرد اجتراح وسائل جديدة في النقد والبحث والتفكيك والتركيب، بل أيضا لأن خطابا سياسيا سائدا هُزِمَ حمَلتُه، أو ضعف داخليا وبات أكثر عرضة للنقد، أو أدى وظيفته، ولم يعد صاحب الشأن، الدولة، مثلا بحاجة له.
فاكتشفنا فجأة أن هذا الخطاب قد صمم كتب التاريخ أيديولوجيًّا من وجهة نظره، فتحكم باختيار البداية والعصر الذهبي وعصر الانحطاط. واكتشفنا أن هذه ليست هي البداية بالضرورة، وأنه انتقى وقائع وأهمل غيرها. وبدل أن يفكك الأسطورة استخدمها أو تأثر بها وببنيتها وبسرديتها، فخدمها في عملية كتابة التاريخ، أو سخرها في خدمته. واكتشفنا أن كليهما كان مسخرا في خدمة هدف سياسي لحركات قومية أو دينية أو في خدمة نظام حكم.
وانفضحت وما زالت تنفضح تواريخ أيديولوجية لدول تكتب تاريخا من زاوية نظر حدودها الموجودة، كأنه يوجد تاريخٌ موحدٌ لقطعة الأرض هذه بالتحديد يميزها عن وسواها على مر العصور، وكأن للجماعة البشرية التي تعيش عليها أيضا تاريخ موحد ومنفصل عن غيره.. والأهم من ذلك لموضوعنا أن التاريخ حين يكتب أيديولوجيّا يبدو في بعض الأحيان كمن يزيل القشور والوقائع الني تسمى عارضة. ويكتشف التاريخَ المضمر الذي يجب اكتشافُه ليبرر هذه الحدود السياسية، ودورَ هذه الأقلية أو الأكثرية الإثنية أو الطائفية الحاكمة بدلا من الأغلبية الديمقراطية.
ومع ذلك فإن البنية المعرفية لهذا كله تمكِّنُ من الإثبات والنفي والتفنيد والمناقشة. وبذلك تختلف عن الأسطورة بحد ذاتها، وعن التاريخ المقدس ذاته.
فالأخيران يعبّران عن إيمان منتشر عند جماعات بشريةٍ حول حكاية الأشياء وليس تاريخها. وتمنح الحكايةُ المتضمنةُ في كلِّ أسطورة معنى ومغزى لجماعات بشرية: أصلها ورسالتها، وسبب وجودها، و"حقها التاريخي" الممنوح لها والمشتق من الأسطورة. ولأنه قضية إيمانية فإن النقاش والمحاورة فيه أصعب. والإيمانُ مراتبٌ رغم كل شيء، هذا برأيي المتواضع. فهنالك فرق بين إيمان بحقائق بسيطة يمكن تكذيبها وإيمان بالله عز وجل. وعندما تُعرَض رواية تاريخية متماسكة بديلة لرواية تاريخية معتنقة اعتقادا يمكن زعزعةُ إيمانٍ بوقائعٍ جزئية عن جهل أو عن تقليد على خلاف الإيمان بقوة إلهية خارج الطبيعة لا حقائق تدحضها.
وإذا ارتبط التاريخ المقدس بالدين نفسه، فإن المشكلة هنا هي التعامل مع الكتب المقدسة كأنها كتب تاريخ إذ يتم التعامل مع مغاز ومعان إلهية كأنها وقائع تاريخية. وهنا يشقُّ النقد، ويصعب النقاش. والوسيلة الأفضل طبعا هي ليست النقاش الصدامي، بل فصل التاريخ المقدس بوقائعه ورموزه وأماكنه وعجائبه ومآثره عن التاريخ الدنيوي الذي يحاول العقل البشري المحدود أن يستعيده بالوثائق والحفريات، وبمقارنة الأدلة والشهادات والمرويات والمذكرات وغير ذلك.. وقبل كل شيء بالعقل السليم الرافض للتسليم بالخرافات أو بالمعتقدات كأنها تاريخ حقيقي. ويبقى التاريخ المقدس كتاريخ يمنحُ معاني ومغازي، أو يولّدُ العبر كما تسمى في كتب التاريخ الإسلامية، وهي بامتياز كتب الأخبار والوقائع والعبر المتواشجة.
ولكن السياسة تأبى هذا الفصل. والسياسة حالة دنيوية من القوى والمصالح. وهي تسخِّرُ الأسطورة والتاريخ المقدسَ، تسخِّرهما في التبرير والتعليل، وفي بناء الوعي والتعبئة والتجييش، وفي اكتساب الشرعية. وفي كل خطاب قومي، ناهيك بصراع قومي، يختلط التاريخ المقدس والتاريخ الدنيوي. وللتاريخ المقدس مناسبات ومعارك وأعوام، وأماكن للذاكرة، تتقاطع جميعها مع أحداث يريدها الوعي السياسي مفاصل تاريخية تشكّل وتصوغ الإدراكَ والشرعية.
ولكن لا يختلطُ التاريخ المقدس بالتاريخ الدنيوي، لكي لا نقول المدَّنس، كما يختلطُ في القدس. ومصدر التاريخ المقدس هنا هو نصوص مقدّسة إلهية تروي قصةً، أو حكاية، عن المدينة. وقد ساهمت هذه النصوص وهذه القصص في تشكل وعي شعوب كاملة بعيدة وقريبة عن التاريخ والقوى المتصارعة فيه، وعن الخير والشر، وعن مسار التاريخ وصولا إلى القارئ نفسه. والمدينة حاضرة بشكل مركزي فيها. وقد أثَّرت بنيةُ هذه القصص على جيل كاملٍ من المؤرخين الغربيين والمستشرقين الذين نشؤوا على هذه القصص في البيت والمدرسة وفي الأدب والفن، وتعاملوا مع التوراة، وما يسمى مسيحيا بالعهد القديم كأنه كتاب تاريخ أو كأنه سيرة شعب. فبحثوا كعلماء ناضجين عن أدلة تثبته، وعن مواقع تأكّده. وحفروا في الأرض، وفي بالهم أن الموجودات هي مسميات لأسماء جاهزة في أذهانهم. الأداة منطق دائري يسند ذاته بأدلة تبدو مادية وعلمية. ولكن المنتوج أيديولوجي بشكل صارخ. وهو سياسي في خدمة سياسات ترى سكان البلاد الحاليين في فلسطين سكانا طارئين عابرين. فهم عابرون وطارئون على تاريخ البلاد الحقيقي القائم في أذهان هؤلاء.
ولا يقوم الحق، ولا القانون الدولي، ولا العلاقات بين الشعوب إلا على أساس حق السكان على وطنهم الذي ولدوا فيه أبا عن جد، والذي فلحوا أرضه واستصلحوها، ورووها بعرقهم، وكتبوا فيها الملاحم والقصائد، وأقاموا فيه حاضراتهم وتوارثوها. وتخيلوا لو تعاملنا مع السكان في كل بلد في العالم كأنهم حالة طارئة على تاريخ هذا البلد القديم والحقيقي والمقدس، وأن لهذا التاريخ المقدس حملة آخرين، ومتشفين يرون في السكان ركاما فوضويا، أو مجرد ديكور، أو أداة حفر في أفضل الحالات.
تخيلوا لو قررنا أن هذا التاريخ المقدس هو الذي يمنح الحق على البلد؟ طبعا لا يمكن تخيّل ذلك حتى بحق شعوب تعيش حيث تعيش منذ بضع مئات من السنين، ونعرف عينيا متى هاجرت ومتى توطنت، إذ إنها فعلت ذلك بعد أن نشأ علم تاريخ حديث مكتوب، ناهيك بدول لم تكن قائمة وأصبحت قائمة بفعل عمليات توحيد وانفصال طيلة القرنين الأخيرين في أوروبا وغيرها.
فلسطين والتاريخ المقدس
ولكن هذا ما يجري بشأن فلسطين وفيها. وهذه هي الإستراتيجية الأيديولوجية المتبعة إذا صح التعبير لمصادرة فلسطين من أهلها. إنها الاستعاضة بحق تاريخي مقدس عن حق السكان الموجوين بفعل وجودهم المتسلسل والمتواصل منذ مئات وآلاف السنين كما يفهمون هم "ذاتهم" ويعرّفونها. وهي الناتجة عن اختلاط الثقافات والشعوب وتلاقحها على أرضهم منذ كنعان وحتى هيمنت الثقافة العربية الإسلامية مشكِّلةً بوتقة صهر في الوقت ذاته. إنها استبدال التاريخ المعاش بتاريخ آخر، هو بنظر المستعمرين التاريخ الحقيقي والمقدس الذي يؤسس لكيان آخر غير الكيان القائم، وعلى أنقاضه.
هؤلاء ينتجون خطابا أيديولوجيا يعاد استخدامه في خدمة سياسة توسعية استعمارية. ولا يجب أن يولد هذا المجهود المنتشر من المبعوثين المدنيين للدول الاستعمارية في أيام الإمبراطورية العثمانية، والمبشرين مرورا بالقادة الصهاينة، وحتى آخر مراسل صحفي وصل البلاد رد فعل علميا نقديا. فقد كاد يسيطر على الخطاب السياسي والإعلامي وحتى الجامعي الغربي، ناهيك عن الإسرائيلي، بخصوص فلسطين وحق اليهود التاريخي فيها. وتظهر الصهيونية الحديثة والمحدثة كممثل لهذا التاريخ اليهودي المفترض.
ولا شك أن تفنيد هذا الخطاب بوسائل علمية تأريخية وبالحجة والمنطق هو رد الفعل الطبيعي، الذي لا بد من تشجيعه، خاصة حينما يأتي من علماء في أقسام التاريخ والأركيولوجيا في الجامعة التي تخون الأمانة عندما تؤسس للتاريخ المقدس لدين من الديانات كأنه هو التاريخ العالمي، وهي تدري كيف يجري تسخير ذلك سياسيا في احتلال بلد وطرد أهله.
ولكن رد الفعل الآخر يأتي من المقموعين المصادرة أرضهم والمشردين والمحاصرين بالمستوطنين وبهذه الروايات والأساطير التي تقتحم بيوتهم وحاراتهم وتهدمها، أو تعيد تسميتها وتقسيمها، أو تشردهم وتقيم بدل قراهم مستوطنات بأسماء توراتية، أو تحوّلهم إلى أقلية في وطنهم، وتعتبرهم حرفيا مهاجرين وضيوفا دخلوا إسرائيل. خلافا للواقع الحاضر البديهي أنها هي دخلت عليهم. فمن يكتب تاريخا مزورا يميل عادة للكتابة المزروة عن الحاضر. وإذا كان يكذب ويشوه ما نشهده بأم العين فكيف نأتمنه على الماضي.
ويكون رد الفعل أساسا بالمقاومة والصراع. وتستند المقاومة إلى شرعية الوجود على الأرض وإلى رفض الاستعمار باعتباره عملية سطو مسلح وعدوان. وهي لا تقوم لا على القانون الدولي من جهة، ولا على التاريخ المقدس من جهة أخرى. ولكن رد الفعل المقاوم هذا يستدعي أيضا مصادر شرعية ووطنية ودينية وخطابا مقابلا للخطاب التوراتي وتاريخا مقدسا آخر، أو قراءة مخالفة لنفس التاريخ المقدس، ولنفس الأمكنة. فهو يستثمر تراث الشعب وتاريخه ودينه في عملية المقاومة.
والمشكلة أنه كلما تبيّن عجز الدول العربية، أو تبين عدم رغبتها في مواجهة أو مقاومة إسرائيل (كقوة دنيوية قامت بالفعل الحربي والاستيطاني وبالتخطيط السياسي وبالتطبيق الاستيطاني وبعملية بناء الأمة والمؤسسات وكلها أمور دنيوية جدا)، تضخم دور التاريخ المقدس المعارض والمناقض للتاريخ المقدس الصهيوني، وزاد دور الإيمان في عملية التعبئة والتجييش لجماهير تلك الدول التي تقاعست عن القيام بدورها.
وبما أن القدس هي بؤرة التاريخ المقدس الصهيوني وعاصمته، خلافا لتاريخه الدنيوي من بودابس وفيينا وباريس ووارسو وبريست ليتوفسك وأوديسا إلى تل أبيب والكيبوتس والموشاف و"جيش الدفاع" الدنيوية جدا جميعها، فإن عملية التعبئة الصهيونية بشكل خاص منذ عام 67 تجري حول القدس.
وكل ما يسمى قدسا بموجب الخطاب الصهيوني الذي يلتقي في القدس بشكل مطلق، ويتطابق مع الخطاب القومي الديني، يصبح مقدسا وغيرَ قابل للتفاوض. ولذلك فلا بد من توسيع القدس. وبعملية التوسيع هذه تتخذ الصهيونية وحكومة إسرائيل مكان الآلهة فهي تسمي مناطق تبعد عن القدس عشرة كيلومترات باسم القدس أو تعتبرها جزءا من القدس، فتصبح بذلك غير قابلة للتفاوض.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر