الفنان غسان جود

الفنان التشكيلي الفلسطيني (غسان جود) من مواليد مخيم خان دنون للاجئين الفلسطينيين بريف مدينة دمشق عام 1970، من والدَيْن فلسطينيَّيْن مُهجَّرَيْن من بلدة "الصالحية" عقب نكبة فلسطين الكبرى عام 1948. تفتَّحت مواهبه بمدارس وكالة الغوث الدولية (الأونروا) طفلاً ويافعاً، واستمرت معه بعد تخرجه من دار المعلمين بمدينة دمشق عام 1991، وعمله مدرِّسًا للمرحلة الابتدائية في مدارس الأونروا ما مكّنه من الاهتمام الخاص برسوم الأطفال ورعاية مواهبهم داخل المخيم وخارجه. ولعلَ مشاركته في معارض اتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين قد أكسبته العضوية الفاعلة في صفوف الفنانين الشباب، عبر لوحات معبرة عن مساحة الوجع الفلسطيني والأمل، داخلاً في متن نصوصها واحة المعاناة والمعايشة اليومية لأبناء المخيم، ومنحازة لذاكرة مكانه البيئي المحيط.

لوحاته يُمكن لقارئ النصوص التشكيلية أن يتناولها في ثلاثة مواضع تعبيرية رئيسة، الأول: معنيٌّ برسم شخوص مستعارة من ذاكرة المخيم وسكانه الفلسطينيين، المحملين بالطيبة والبساطة وملامح الحزن المقيم في تقاسيم الوجوه، تسبر أغوار الزمن وتداعياته، ومعاناة الفلسطيني مع مخيمه ومسيرة حياته، وما لفها من جهد وتعب ومسارعة محمومة، ومواجهة ملحوظة لدوامة الحياة بقسوتها ومتطلباتها، تسبر مدارات الألم وسطوة النكبة ومؤثراتها المشهودة في حدقات العيون، وأخاديد الزمن المرسوم فوق الوجنات وبياض الشعر المغزول بالمعاناة.

والثاني: معنيٌّ بإبراز الطفولة في عفويتها وأحلامها وبراءة شجونها، وملامح تفكيرها المشغولة على الدوام في مدارات اللعب، متعدد التقنيات والدروب، تُغرد في مساحة المخيم كوطن مؤقت في رحلة مديدة بالهموم والأماني، والحلم المنشود بالعودة والمحمل برياح السلام، سلام العدل وإحقاق الحقوق، وأخرى معشبة بواقع الحياة اليومي الذي تعيشه الفتيات في أحضان الحلم وانتظار الآتي في لحظة صمت وتأمل. لوحات تفوح منها أنسام التجلي والمُخيلة السابحة في أتون الحلم، حلم النوم واليقظة، تستعير مظلتها الوجودية عبر تنويعات البساطة الشكلية وفطرية الوصف والتأليف التقني.

بينما الثالث: مجرد لوحات مشحونة بالقدس المدينة المقدسة ومساجدها وأوابدها ومكانتها الوجودية والدينية في مساحة الحلم الفلسطيني، يستعيرها الفنان من واحة صورة ضوئية هنا، وتشكيلية هناك، تجمع في متنها روح الانتماء وقدسية المكان وسيادته في كثير من لوحاته، ولسان حاله التشكيلي يقول: "القدس هي عاصمة دولة فلسطين الأبدية" مهما بلغ العدو الصهيوني في غِيِّه وهمجيته وعدوانيته، هي معقد الآمال، وقِبلة الفلسطينيين دائمة التوهج والتواجد في عقولهم وقلوبهم وأمانيهم، وحقهم المشروع في الوجود والحرية والعودة.

تعامله الفني والتقني في جموع لوحاته، ومساحة أفكاره مرهونٌ بعفويته الشكلية، وخبرته الذاتية المدربة في محترفه الشخصي، وغير محمولة بالدراسة الأكاديمية النمطية. وهذا الأثر نلحظه في جميع مكوناته، من حيث اختيار عناصر لوحاته ومفرداتها البسيطة غير المتكلفة، أو خطوطه وملوناته المنحازة لملونات محددة بعينها، تأخذ سياقاتها الوصفية من حدة لونية أحادية الجانب، موشاة ببعض ملونات مُختارة من دائرة الألوان الأساسية لضرورتها التعبيرية.

ويعتمد أيضاً على البِنْية الهندسية المبسطة التراكمية في توليفات المنازل والبيوت المنثورة في خلفيات اللوحات، كحاضنة لونية متممة لتوزع مفرداتها الأساسية في متن النصوص واللوحات، لا تعير النسب الذهبية الأكاديمية في متواليات الأشكال والملونات، بل ترنو إلى جموح التشكيل وإلى سطوة بصرية لمساحة الغواية الشكلية، وإلى إبراز لذاتية الفنان ومقدرته الشخصية على تفريغ انفعالاته على سطوح الخامات بتلقائية الوصف والتشكيل، مُستهدفاً عن سابق تصور وتصميم إدراج رمزية بصرية تُشير إلى معالم القدس وقبة الصخرة فيها، في كثير من لوحاته، بوصفها وشمًا وتوشِيَةً لونية ضرورية في جميع مرئياته ومكوناته.

مؤكداً في جميع تجلياته الوصفية على التناغم الشكلي ما بين العنصر الرئيسي في متن اللوحات، والمتجسد في شخوص إنسانية متفردة بذاتها الشكلية، لرجل عجوز تارة ، ونسوة في أعمار متفاوتة تارة أخرى، موزعة في عنصرها الأحادي خصوصاً، المعبر عن حالة رجل هنا أو امرأة هناك، متناغمة مع خلفيات لونية حاشدة بالعناصر الهندسية المؤتلفة، تجد فيها سطوةً للملونات الزرقاء متعددة الحدة اللونية والخصائص، تحتضن بعضاً من الأصفر والبني والأخضر في تداعيات مباشرة من علبة الألوان دون معالجات ومزج تقني فوق "باليت" الألوان.

القدس- كما أسلفنا- حاضرة باستمرار في لوحاته بصور تقنية وشكلية متعددة، وفي كل لوحة تجد إضافة لفكرة، وتوليفة لونية منسجمة وطريقة الفنان التعبيرية على رصف مكوناته، والتي تجد في بعضها ملامح شكلية مشغولة بسكين الرسم والتلوين كتقنية مناسبة. وأخرى تداعب ريشته العريضة والطَّلِقة تجانس السطوح والأشكال الموصوفة متوالية النصوص، كما هي الحال في لوحته الجامعة لسيدة فلسطينية معتمرة منديلها الأبيض، وعلى رأسها "بقجة" الهوية والمواطنة اللصيقة بمكانة القدس وما تبقى من ملامح شكلية لمسجد قبة الصخرة المشرفة، كرمزية مكشوفة على الهجرات الفلسطينية المتعددة الأماكن والتواريخ، منثورة في عفوية الوصف والإطالة الشكلية المتاحة في رسوم الأطفال للعنصر الأساسي ( المرأة) في الوسط، والمرئيات الموصوفة في الخلفية المتداعية في يمينها ويسارها، كصورة مطابقة في الخلفيات ، ومكررة الأشكال والتقنيات والمفردات.