في اليوم الثالث عشر من يناير 1964 بدأ كمال ناصر يسجل مذكراته، ولكنه لم يكتب إلا هذه الصفحات القليلة والتي نشرتها مجلة "شؤون فلسطينية" العدد 44 نيسان أبريل 1975، والتي كانت محفوظة في قسم الوثائق بمركز الأبحاث ببيروت ، وقد نشرت عقب اغتياله مع رفيقيه أبو يوسف النجار وكمال عدوان.
يذكر أن كمال ناصر من مواليد غزة عام 1924 من أسرة أرثوذكسية ، ويعتبر من مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي في رام الله، وناضل في الأردن وسوريا ولبنان والكويت حتى أصبح مسؤولاً للإعلام في م ت ف، وكان يرأس تحرير مجلة "فلسطين الثورة" وهو شاعر وأديب وطني .
مذكرات لاجئ سياسي
لقد كنت دائماً أتوق وأحلم في كتابة مذكراتي، أمنية طالما راودتني، ولكنني لم أكن أتعجلها، فما زال العمر كما يبدو متسعاً لإنسان لم يبلغ بعد الأربعين من عمره، وما زال يطمع في أن يعيش الأحداث ويسهم في صناعاتها حتى تتوفر له المادة والتجربة كاملتين لا يشوبها لف أو نقصان كنت أحلم في أن تكون مذكراتي شبه اعترافات صادقة أدونها، مواكباً كل حياتي، شأن كل من حولي على مائدة الوجود يجب أن ينهي حياتي بأمر يحتال به على الخلود، وكنت أود أن أقوم بذلك وأنا في العقد السادس أو السابع من عمري حتى تجيء اعترافاتي الإنسانية كاملة صادقة لا تتأثر بالظروف أو الأحداث المعاصرة، فأنا من هواة كتابة الاعترافات في محراب التاريخ، أكثر من كاتب مذكرات تمليها أحداث معينة، ووقائع يزيفها المزيفون بوعي أو بدون وعي.
فما الذي حدث لي اليوم؟ ما الذي أجلسني- أنا الذي لا أحسن الجلوس أبداً-وراء مكتبي لأدون أو أكتب هذه المذكرات؟! ما الذي حركني فجأة بالقلم ووضعه بين أناملي؟!، ولملم الأفكار فجعلها تتداعى وتنمو في خاطري فتجري أسطراً سودا تؤلفها كلمات كنت أحب لها أن تموت على لساني مهما ثقل بها، وتخنق في صدري آمالا أبوح بها حتى ينضج الزمن، فيقرأها من يقرأها للعبر وللتسلية لا أكثر ولا أقل.
لست أدري؟ فقد يكون هناك مليون سبب وسبب، وقد لا يكون هناك أي سبب يبرر هذا التعجل وكل الذي أدريه أنني أجلس اليوم وراء مكتب أزرق كالح في فندق متواضع نظيف في حي المرجة من مدينة دمشق، دمشق قلعة التحدي كما يحب أن يسميها بعض الرفاق، أو دمشق، بستان هشام كما يحب أن يسميها أولئك الذين عرفوا بالانفصاليين.
إنني أجلس وراء مكتب أزرق كالح فخم في فندق نظيف بحي المرجة من مدينة دمشق أكتب وأكتب وأكتب، بدون انقطاع أو ملل، أريد أن أنتهي بسرعة، أريد أن أهرب إلى عالم جديد، دنيا جديدة، فأنا مرهق وحزين ومثقل القلب، الأفكار التي تدور برأسي تؤلمني لم أعد أقوى حملها، يجب أن أتخلص منها، فقد ارتاح، وتعود ابتسامة إلى وجهي، والذي يظهر أنني لم ابتسم منذ أمد طويل هكذا تقول لي مرآتي والتجاعيد قاسية على جبيني إذن فلابد أن ارتاح، أن أكتب شيئاً وأن أقوله للناس فلربما اشترك بعضهم في تحمل عبء سنوات سبع عشتها وما أزال أعيشها وسط دوامة قاسية عاتية لا ترحم، تجرني وتبصقني، وتعود فتأكلني لتجرني وتبصقني دون أن أستطيع السيطرة عليها وتمزيق تياراتها اللئيمة الحاقدة.
اليوم هو الثالث عشر من شهر كانون الثاني من عام 1964 وملوك العرب ورؤساؤهم مجتمعون في القاهرة لبحث العدوان الصهيوني في تحويل نهر الأردن، ما أجمل وأروع هذا اللقاء بعد خصومة ضارية على أجهزة الأثير تستمر أكثر من سبع أعوام بين أخذ ورد، وهزال جد سخرت منه الدنيا وتشكت منه رفات الجدود!!
والحقيقة أن موضوع تحويل مجرى نهر الأردن موضوع خطير وهام لقد أجمعت كل المصادر العربية على تأييد هذه الخطة وأخطر من الخطر تجري محاولة لبحث قضية فلسطين من جذورها، قضية فلسطين كانت وستبقى حتى تحل، قضية الأمة العربية، القضية التي ارتبط بها شرف الأمة العربية كما أجمع كل الزعماء والساسة والخطباء في كل مناسبة، وكل مناقشة وبعد كل انقلاب منذ ستة عشر عاما، أي منذ اليوم الأول للمأتم الكبير الذي سار فيه حكام العرب وملوكهم ورؤساؤهم مطأطئي الرؤوس حزناً وألماً وربما خجلاً لمصرع الحبيبة فلسطين، بؤبؤ عين العرب وفلذة كبدهم.
أجل إنه اليوم الثالث عشر من شهر كانون الثاني من عام 1964 والزعماء والرؤساء العرب يتبادلون القبل والتحيات والأنخاب في القاهرة وتذر وكالات الأنباء وأجهزة الإعلام أخبار هذه القبل والتحيات والأنخاب، ويتفاءل العرب-بعض العرب، وترتفع المعنويات ترتفع الأصوات بالصلوات، وتنتابني الذكريات ويحملني الخيال إلى الماضي، وفجأة أجد نفسي في الشام في دمشق الشام أجلس وراء مكتبي الأزرق أتحدث مع نفسي في هلوسة حديث المحموم المريض، فأسألها وبصدق وكأنني أفيق من سبات طويل طويل: أين أنا؟ وماذا أفعل هنا؟ ماذا أفعل هنا في هذا الفندق المتواضع النظيف في ساحة المرجة من مدينة دمشق الشام؟؟ عام 1964! أحس بقساوة تقع على عيني فأغمضها على ذكريات مؤلمة، ليست بعيدة جداً تعود إلى ما بعد النكبة في فلسطين، لتصحو على أصداء نكسة الأردن حملتني بعيداً بعيداً عن كل شيء، ومرات تقاذفني ـ منذ سنوات سبع ـ في كل مكان، وإلى كل مكان.
بالقدر الذي تطبع فيه الرومانتيكية هذه المقدمة لمذكرات سياسية، بالقدر الذي يؤكد الكاتب به هكذا أحس وكان لا بد أن يكتبها أي المقدمة بالأسلوب الذي يعبر به عن صدق أحاسيسه.
أصداء من الأردن
سبع سنوات أجل سبع سنوات وأنا بعيد عن الأردن البلد الذي أصبحت بحكم النكبة أحمل جنسيته، فأنا فلسطيني ضاعت جنسيتي الأولى بسقوط بلدي في أيدي الصهاينة، وضاعت جنسيتي الثانية عندما طردت أو هربت من الأردن بعد اختفاء دام ما يزيد على السنة ونصف السنة، ولست حزيناً على ضياع الجنسيتين اللتين تتجسدان في جوازين للسفر، فضياع الوطن أو جزء منه، وانحراف في حكام الوطن أو بعض حكامه أكثر خسارة وألماً من ضياع الجنسية والتسكع على أبواب السفارات العربية طلباً لجنسية أو هوية مرور.
المهم أنه قد مر سبع سنوات على نزوحي الاضطراري من الأردن وكلمة نزوح ألطف وأخف على النفس من كلمة الهزيمة أو الهرب، وبالرغم أن الكثيرين من الرفاق قد ساعدوني وهوّنوا عليّ عنف التعبير ومعناه الذي يجرح، فبرروا الهزيمة والهرب وابتكروا ألف تفسير علمي لهما، وابتدعوا ألف نظرية وفلسفة فقالوا بسياسة التحرير من الخارج منهم من بالغ فحاول أن يطبق نظرية خطوتين إلى الوراء وواحدة إلى الأمام، واستشهدوا بعشرات الذين سلخوا ثلاثة أرباع حياتهم في الخارج من أجل الزحف المقدس وتحرير الداخل، ولكن كل ذلك لم يهون علي ومرت الأيام والسنون لتثبت لي الذي ارتكبته بخروجي أو هربي كان خطأ قاتلاً وكان لي أن استسلم وبرجولة للمحاكمة، أو أن أبقى مختفياً، أو أن أفتش عن طريقة أخرى للموت الشريف والاستشهاد كل ذلك كان أفضل وأرحم من أن يموت الإنسان كل يوم ألف مرة وحيداً غريباً إلا من إيمانه وكبريائه الشخصي، وقد يكون السخف وعدم الإيمان طرْحُ الموضوع بهذا الشكل المهين، لا سيما وقد لجأنا إلى بلاد عربية متحررة، نحن أعرف الناس أنها جزء لا يتجزأ من وطننا الكبير، وأن حكام هذه الدول قد عملوا ما في وسعهم للعناية بنا على صعيد الضيافة والرعاية الخاصة، ولكن بالرغم من هذه المسلمات فالقضية قضية اللجوء السياسي تبقى أكبر من ذلك، وأخطر من ذلك بكثير، وفكرة النزوح، وتغيير الساحة النضالية خطأ ارتكبه الكثيرون نحذر منه ونوصي بعدم اللجوء إليه، فمن حياتنا ومعاناتنا، وقلقنا الرهيب الذي عشناه متسكعين في عواصم الدول العربية خلال السبع سنوات الأخيرة نحب أن ننقل تجربتنا إلى أبنائنا ورفاقنا في النضال، بل إلى كل مناضل يحترم نفسه ونضاله ويحرص على أن يبقى كما هو دون تشويه في أحاسيسه وإيمانه ونظرته إلى الوجود.
إن أصلب الناس إيماناً ينهارون أمام أزمة اللجوء وفراغه، وإننا من خلال هذه الأزمة سنروي ذكريات سبع سنوات قضيناها متسكعين مع الوحش الكبير الذي تواضع الناس والعلماء عندما سموه باللجوء السياسي.
وقبل أن استطرد في سرد ذكرياتي ومذكراتي خلال السبع سنوات التي قضيتها لاجئاً متسكعاً مناضلاً بإيماني وقلمي وهذا أضعف الإيمان، بل أضعف تبرير لعملية النضال الحقيقية أحب أن أعود بعض الشيء إلى ذكريات لم تطمسها الأيام بعد، ذكريات وجودي في الأردن، فوق الأرض تحت الأرض، هذه الفترة الزمنية التي سبقت هربي من بلادي، أحب أن أشير إليها في هذه المذكرات، بل أحب أن أتحدث عنها والحديث ذو شجون.
قبل سبع سنوات على ما أذكر كنت نائباً لمنطقة رام الله في منطقة النواب الأردني، وبالرغم أن ذكريات هذه النيابة أصبحت باهتة في خيالي بعد أن أصبح ثلاثة أرباع قطط المنطقة نواباً لها في السنوات السبع الأخيرة مدة غيابي، إلا أنني أحب أن أشير أنني وصلت إلى مقعد النيابة لاهثاً ومتعباً ولكن بشرف وبعد نضال وطني دام سنوات طويلة، فلقد كان للنضال الوطني طعم في تلك الأيام على ما أذكر، وكان الطريق إلى البرلمان من خلال انتخابات حرة هو أقصى ما يطمع إليه المناضل العقائدي ليتمكن من رفع صوته والترويج لمبادئه ومثله، من خلال سلطة تزيد في المناضل بعد سنوات طويلة من التعب والضرب والسجون المختلفة التي مر بها معظم أحرار بلدنا في تلك الفترة أي بعد نكبة فلسطين حتى عام 1956 حتى تسلمت ما أسميناه بالحركة الوطنية زمام الحكم.
وللحركة الوطنية في الأردن تاريخ وذكريات أهميتها في تاريخ وتطورات الأحداث في المنطقة، ولكن الذي لا شك فيه أن جزءاً من هذه الذكريات مضحك ومبكٍ في وقت واحد، وإنني في معرض الحديث عن هذه الحركة أود لو يتسم حديثي بالموضوعية التامة دون أن أتطرق إلى الجانب المأساوي في تاريخها، ولكن كثرة التناقضات التي ظهرت فيما بعد، والمعلومات التي أطلعت عليها شكلت عندي قناعات نهائية في كثير من الأمور سأمر عليها في حديثي، ولكنها مع ذلك لم تستطع أن تقلل من الجانب المأساوي، وبالتالي المضحك المبكي من تاريخ هذه الحركة ووجودها.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر