بقلم:صقر أبو فخر
في سنة 2008 تداول الإعلام الأميركي كثيراً اسم رشيد الخالدي الذي كان أصدر في سنة 2006 بالانكليزية كتابه «The Iron cage» الذي نال قدراً مهماً من الاهتمام في الأوساط الأكاديمية والإعلامية الأميركية([).
لا يتحدث هذا الكتاب عن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، بل عن أسباب فشل الفلسطينيين في إقامة دولة لهم. ويلاحظ الخالدي أن الدول التي عملت على تأسيس دولة لليهود في فلسطين، أي الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والاتحاد السوفياتي وفرنسا، صوّتت في الأمم المتحدة سنة 1947 على إقامة دولة عربية في فلسطين إلى جانب الدولة اليهودية. لكن هذه الدول نفسها التي اندفعت بحمية إلى دعم دولة إسرائيل، أدارت ظهورها، في الوقت نفسه، وبلا اكتراث، لما قامت به إسرائيل، أي منع قيام دولة عربية للفلسطينيين.
تشدد هذه الدراسة، على فشل الفلسطينيين في إقامة دولة وطنية خاصة بهم. غير أن المؤلف لم يرغب في مقارنة المجتمع الفلسطيني بالمجتمع اليهودي، بل رغب في مقارنته بالمجتمعات العربية المجاورة، فوجد أن المجتمع الفلسطيني كان متقدما على جيرانه إن لم يتفوق عليهم. وكان للمجتمع الفلسطيني «شعور متطور للغاية» بهويته الوطنية منذ أوائل عشرينيات القرن الماضي (ص 35 ـ 36)، ومع ذلك فشل المجتمع الفلسطيني في تحقيق طموحاته الوطنية، بينما تمكنت الشعوب المجاورة، بما في ذلك اليهود، من تحقيق تلك الطموحات.
هنا لا بد من الإشارة إلى أن الشعور بالهوية الوطنية الفلسطينية لم يتبلور تماماً في فلسطين إلا بعد انحسار ثورة 1936. قبل ذلك كانت مطالب الحركة الوطنية الفلسطينية كما وردت في ميثاق 1919، وفي مقررات المؤتمر السوري العام سنة 1920، وفي قرارات المؤتمرات القومية في فلسطين، فضلاً عن مواثيق بعض الأحزاب، تتلخص في ثلاث نقاط هي التالية: إنهاء الانتداب البريطاني، وقف الهجرة اليهودية، الانضمام إلى الوطن الأم سوريا. لكن وفي سنة 1936 تراجعت «الكتلة الوطنية» السورية، جراء إغراء المعاهدة السورية ـ الفرنسية، عن أهدافها القومية وقبلت استقلال لبنان، وتخلت جزئياً عن ثورة 1936. وكان من عقابيل ذلك أن بدأت الهوية الوطنية الفلسطينية بالتبلور في مواجهة الهجرة اليهودية الصهيونية من جهة، وبالتزامن مع ضعف الرابط المباشر بالبلاد السورية.
يتعرض المؤلف بالنقد للرواية الفلسطينية عن النكبة التي تمادت في الادعاء بأن الفلسطينيين واجهوا قوة أقوى منهم بكثير، وأن الجيوش العربية تخاذلت، ولا سيما الجيش الأردني، الذي كان يقوده ضباط إنكليز متواطئون مع الصهيونية (ص45). وهذا الكتاب محاولة نقدية جادة لتعقب الأسباب العميقة لهذه الكارثة التي دعيت «النكبة».
بريطانيا والإخفاق الفلسطيني
يتساءل الكاتب عما حل بالمجتمع الفلسطيني المدني والقروي الذي انهار بسرعة أذهلت حتى الصهيونيين في ذلك الحين. وفي محاولة الإجابة ينقض الرواية الإسرائيلية التي طالما روّجت أن سبب فرار الفلسطينيين هو أنهم بدأوا حرباً ضد المجتمع اليهودي وخسروها، وأن الدول العربية قامت كذلك بالهجوم على الدولة الوليدة وخسرت الحرب. وأن رحيل الفلسطينيين كان النتيجة البدهية لهزيمتهم (ص42). وفي هذا السياق رأى المؤلف أن أسباب الفشل الفلسطيني في ثورة 1936، ثم في قرار التقسيم سنة 1947، وكذلك في القتال عامي 1947 و1948، تعود إلى بداية الانتداب البريطاني وإلى الشروط المجحفة التي وضعتها عصبة الأمم آنذاك. ومن مفارقات هذه الشروط على سبيل المثال، أن فلسطين، كولاية عثمانية، كانت إسلامية على الغالب، لكنها كانت تحت سيطرة دولة مسيحية كانت تريد إقامة وطن قومي يهودي فيها (ص92). ولاحظ الكاتب كيف أن ثلاثة بلدان هي فلسطين وايرلندا والهند وقعت جميعها تحت سيطرة الانتداب الانكليزي، لكنها خضعت للتلاعب بالهويات الدينية، ثم للتقسيم بعد أحداث داخلية دامية (ص89).
فشل النخبة
لعل أبرز ما في هذا الكتاب هو دراسة أحوال النخبة السياسية الفلسطينية وانقساماتها. ويُقصد بالنخبة هنا «الوجهاء» الذين تصدروا الحياة السياسية في فلسطين في العهدين العثماني والبريطاني أمثال آل الحسيني والنشاشيبي والخالدي وعبد الهادي والعلمي... الخ. ويستغرب الكاتب كيف أن المندوب السامي البريطاني هربرت صموئيل هو الذي اختار الحاج أمين الحسيني لمنصب الإفتاء، وهو، على صغر سنّه، لم يتلق معارف دينية إلا لسنتين في الأزهر، ولم تكن له حماسة دينية. ويعتقد أن اختيار الحاج أمين الحسيني لمنصب الإفتاء كان القصد منه إضعاف موقع موسى كاظم الحسيني الذي عُزل من رئاسة بلدية القدس بعد صدامات موسم النبي موسى بين العرب واليهود في سنة 1920. وسلّط المؤلف الضوء على براعة الحاج أمين في استخدام المؤسسة الدينية لبناء قاعدة شعبية واسعة من الأتباع التقليديين لعائلة الحـسيني، ومن الوطنيين الذين رأوا فيه زعيماً لحركتهم، ومن المنتفعين من شبكة المصالح التي كان يسيطر عليها، وذلك كله كان معاكسا لما جرى في الدول العربية التي بنى الزعماء حضورهم في سياق تأسيس أحزاب علمانية مثل سعد زغلول وحزب الوفد في مصــر، وشكري القوتــلي والكتلة الوطنية وحزب الشعب وعبد الرحــمن الشهبندر في سوريا... وهكذا (ص 100 ـ 101). ويكشف الكتاب أن الحاج أمين الحسيني ظل على ولائه للبريطانيين منذ تعـيينه مفتياً في سنة 1921 حتى سنة 1936. لكن، بعـد اندلاع الثــورة في تلك السنة، وجد انه سيفقد زعامته، إذا لم ينضم إلى هذه الثورة. وفي ما بعد حينما بات موضوع الوطن القومي اليهودي أمراً قريب المنال تحوّل المفتي إلى عدو لدود للبريطانيين وللصهيونيين معاً.
الفشل المتجدد
السؤال الرئيس في هذا الكتاب هو: لماذا فشل الفلسطينيون في سنة 1948، ولماذا فشلت تجربة منظمة التحرير الفلسطينية، ثم السلطة الوطنية الفلسطينية في إنشاء شكل ما من أشكال الدولة أو الكيان الوطني؟
أعتقد أن فشل النخبة الفلسطينية في حماية كيانها في سنة 1948، وفشل الثورة الفلسطينية المعاصرة في تأسيس كيان سياسي جديد للفلسطينيين، لهما أسباب أعمق وأبعد غوراً من الأسباب التي عرضها المؤلف في كتابه الذي بين أيدينا.
وفي هذا الحقل من الجدال السياسي سأتجرأ على الإجابة بالتالي: إن الصراع في فلسطين حالة خاصة في تاريخ الصراعات في العالم، وهو يختلف، اختلافا جوهريا، عن أي صراع آخر بين دولتين متجاورتين. فهو لا يشبه النزاع الهندي ـ الباكستاني على سبيل المثال، أو حتى صراع المحور والحلفاء في الحرب العالمية الثانية. ففي مثل تلك الصراعات ينتهي الأمر بانتصار أحد الطرفين على خصمه، فيفرض عليه شروط المنتصر.
أما الصراع في فلسطين فهو ليس صراعاً بين دولتين يمكن حله بمقادير من التفاوض والحرب، بل هو صراع بشري وجغرافي وسياسي وحضاري وتاريخي في آن واحد، أي انه صراع ممتد في الزمن بين مجموعتين بشريتين واحدة متسربلة بالقوة والأخرى متسربلة بالحق، وكل واحدة منهما تستند الى عناصر تاريخية ودينية وثقافية، أصحيحة كانت هذه العناصر أم زائفة، ولها، في الوقت نفسه، عمق بشري وسياسي يشد أزرها ويقوي بقاءها. وهذا الأمر يجعل من المحال إنهاء الصراع إلا بواحدة من نتيجتين: إما الإبادة أو الترحيل. لكن الصهيونية انتصرت على العرب في سنة 1948 انتصاراً ساحقاً، فبادرت قواتها الى ترحيل الفلسطينيين عن ديارهم. لكن الترحيل لم ينه الصراع، بل بدأ بداية جديدة. وبما أن الإبادة باتت من المحال في شروط عصرنا، فإن الصراع في فلسطين وعلى فلسطين لن ينتهي بفرض شروط المنتصر على الفلسطينيين، بل ان تفاعلات متمادية من شأنها أن تؤدي الى ظهور حل مطابق لموازين القوى في لحظة التسوية النهائية. ولعل كثيرين لم يلحظوا أن أهداف إسرائيل الاستراتيجية تغيرت كثيراً. لقد انتهت، منذ زمن طويل، استراتيجية التوسع الجغرافي، وفشلت فكرة تجميع يهود العالم كلهم في فلسطين. ومن المؤكد أن التخلي عن هاتين النقطتين لم يأت عن طيب خاطر، بل ان أكثر من ستين سنة من المقاومة، وعلى الرغم من الهزائم الكثيرة، أرغمت اسرائيل على التخلي عن بعض «ثوابتها» الاستراتيجية السابقة.
هل هزمنا حقاً؟
منذ أكثر من مئة سنة لم نكن، فلسطينيين وعرباً، في وضع الهجوم كي يقال اننا هزمنا. كنا في وضع الدفاع الدائم عن النفس أمام هجوم استعماري متلاحق. فنحن واقعون في أخطر بقعة في العالم، أي بين النفط وإسرائيل. وإسرائيل ليست مجرد حدث عابر في تاريخ أوروبا، انها المسألة اليهودية برمتها. وهي ليست مجرد نتيجة طبيعية لحرب خسرها العثمانيون في سنة 1918 فصدر إعلان بلفور، أو حرب خسرها العرب في سنة 1948 فظهرت إسرائيل الى الوجود، بل هي، في الجوهر، ذروة صراع ربما بدأ في منتصف القرن التاسع عشر حينما بدأت محاولات الاختراق الغربي لبلاد الشام.
هل هناك حل؟
يعتقد رشيد الخالدي أن «حل الدولتين» قد فشل، ويتوقع أن تتدافع الأمور نحو «حل الدولة الواحدة» تحت حكم إسرائيل، لان «من المستحيل إبقاء شعبين في بلد صغير منفصلين، أو إبقاء ذلك الكيان تحت حكم اليهود مثلما تبين في النهاية أن من المستحيل إبقاء جنوب أفريقيا تحت حكم البيض» (ص 251). ولنا في هذا الشأن رأي: هل «حل الدولة الواحدة» سينشأ نتيجة التفاوض بين الفلسطينيين وإسرائيل، أم نتيجة الكفاح المتواصل سياسياً وعسكرياً؟ فإذا كان البعض يعتقد أن «حل الدولة الواحدة» يمكن أن ينشأ نتيجة التفاوض، وجراء اقتناع الطرفين وقبولهما بهذه الحل فهو ساذج وبلا خبرة سياسية على الإطلاق. أما اذا كان المقصود التوصل الى هذا الحل من خلال التفاعلات التي ستنجم عن مسيرة طويلة من الكفاح السياسي والعسكري، والتفاوض في الوقت نفسه، فإن الحل الممكن، في هذا السياق، هو «حل الدولتين» الذي، وإن لم يتحقق حتى الآن، إلا أنه ما زال يعتبر الحل الوحيد الواقعي والقابل للتحقق، حتى لو لم يكن هو الحل التاريخي العادل.
إن تبني فكرة «الدولة الواحدة» نتيجة للاعتقاد أن «حل الدولتين» قد فشل يعكس تفكيراً ميكانيكياً، لا تفكيراً جدلياً وتاريخياً، بل انه أقرب الى التأمل السلبي في الوقائع السياسية الجارية أمام أعيننا.
ـــــــــــــــــ
(*) صدرت الترجمة العربية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت سنة 2008. وترجمها هشام عبد الله.
في سنة 2008 تداول الإعلام الأميركي كثيراً اسم رشيد الخالدي الذي كان أصدر في سنة 2006 بالانكليزية كتابه «The Iron cage» الذي نال قدراً مهماً من الاهتمام في الأوساط الأكاديمية والإعلامية الأميركية([).
لا يتحدث هذا الكتاب عن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، بل عن أسباب فشل الفلسطينيين في إقامة دولة لهم. ويلاحظ الخالدي أن الدول التي عملت على تأسيس دولة لليهود في فلسطين، أي الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والاتحاد السوفياتي وفرنسا، صوّتت في الأمم المتحدة سنة 1947 على إقامة دولة عربية في فلسطين إلى جانب الدولة اليهودية. لكن هذه الدول نفسها التي اندفعت بحمية إلى دعم دولة إسرائيل، أدارت ظهورها، في الوقت نفسه، وبلا اكتراث، لما قامت به إسرائيل، أي منع قيام دولة عربية للفلسطينيين.
تشدد هذه الدراسة، على فشل الفلسطينيين في إقامة دولة وطنية خاصة بهم. غير أن المؤلف لم يرغب في مقارنة المجتمع الفلسطيني بالمجتمع اليهودي، بل رغب في مقارنته بالمجتمعات العربية المجاورة، فوجد أن المجتمع الفلسطيني كان متقدما على جيرانه إن لم يتفوق عليهم. وكان للمجتمع الفلسطيني «شعور متطور للغاية» بهويته الوطنية منذ أوائل عشرينيات القرن الماضي (ص 35 ـ 36)، ومع ذلك فشل المجتمع الفلسطيني في تحقيق طموحاته الوطنية، بينما تمكنت الشعوب المجاورة، بما في ذلك اليهود، من تحقيق تلك الطموحات.
هنا لا بد من الإشارة إلى أن الشعور بالهوية الوطنية الفلسطينية لم يتبلور تماماً في فلسطين إلا بعد انحسار ثورة 1936. قبل ذلك كانت مطالب الحركة الوطنية الفلسطينية كما وردت في ميثاق 1919، وفي مقررات المؤتمر السوري العام سنة 1920، وفي قرارات المؤتمرات القومية في فلسطين، فضلاً عن مواثيق بعض الأحزاب، تتلخص في ثلاث نقاط هي التالية: إنهاء الانتداب البريطاني، وقف الهجرة اليهودية، الانضمام إلى الوطن الأم سوريا. لكن وفي سنة 1936 تراجعت «الكتلة الوطنية» السورية، جراء إغراء المعاهدة السورية ـ الفرنسية، عن أهدافها القومية وقبلت استقلال لبنان، وتخلت جزئياً عن ثورة 1936. وكان من عقابيل ذلك أن بدأت الهوية الوطنية الفلسطينية بالتبلور في مواجهة الهجرة اليهودية الصهيونية من جهة، وبالتزامن مع ضعف الرابط المباشر بالبلاد السورية.
يتعرض المؤلف بالنقد للرواية الفلسطينية عن النكبة التي تمادت في الادعاء بأن الفلسطينيين واجهوا قوة أقوى منهم بكثير، وأن الجيوش العربية تخاذلت، ولا سيما الجيش الأردني، الذي كان يقوده ضباط إنكليز متواطئون مع الصهيونية (ص45). وهذا الكتاب محاولة نقدية جادة لتعقب الأسباب العميقة لهذه الكارثة التي دعيت «النكبة».
بريطانيا والإخفاق الفلسطيني
يتساءل الكاتب عما حل بالمجتمع الفلسطيني المدني والقروي الذي انهار بسرعة أذهلت حتى الصهيونيين في ذلك الحين. وفي محاولة الإجابة ينقض الرواية الإسرائيلية التي طالما روّجت أن سبب فرار الفلسطينيين هو أنهم بدأوا حرباً ضد المجتمع اليهودي وخسروها، وأن الدول العربية قامت كذلك بالهجوم على الدولة الوليدة وخسرت الحرب. وأن رحيل الفلسطينيين كان النتيجة البدهية لهزيمتهم (ص42). وفي هذا السياق رأى المؤلف أن أسباب الفشل الفلسطيني في ثورة 1936، ثم في قرار التقسيم سنة 1947، وكذلك في القتال عامي 1947 و1948، تعود إلى بداية الانتداب البريطاني وإلى الشروط المجحفة التي وضعتها عصبة الأمم آنذاك. ومن مفارقات هذه الشروط على سبيل المثال، أن فلسطين، كولاية عثمانية، كانت إسلامية على الغالب، لكنها كانت تحت سيطرة دولة مسيحية كانت تريد إقامة وطن قومي يهودي فيها (ص92). ولاحظ الكاتب كيف أن ثلاثة بلدان هي فلسطين وايرلندا والهند وقعت جميعها تحت سيطرة الانتداب الانكليزي، لكنها خضعت للتلاعب بالهويات الدينية، ثم للتقسيم بعد أحداث داخلية دامية (ص89).
فشل النخبة
لعل أبرز ما في هذا الكتاب هو دراسة أحوال النخبة السياسية الفلسطينية وانقساماتها. ويُقصد بالنخبة هنا «الوجهاء» الذين تصدروا الحياة السياسية في فلسطين في العهدين العثماني والبريطاني أمثال آل الحسيني والنشاشيبي والخالدي وعبد الهادي والعلمي... الخ. ويستغرب الكاتب كيف أن المندوب السامي البريطاني هربرت صموئيل هو الذي اختار الحاج أمين الحسيني لمنصب الإفتاء، وهو، على صغر سنّه، لم يتلق معارف دينية إلا لسنتين في الأزهر، ولم تكن له حماسة دينية. ويعتقد أن اختيار الحاج أمين الحسيني لمنصب الإفتاء كان القصد منه إضعاف موقع موسى كاظم الحسيني الذي عُزل من رئاسة بلدية القدس بعد صدامات موسم النبي موسى بين العرب واليهود في سنة 1920. وسلّط المؤلف الضوء على براعة الحاج أمين في استخدام المؤسسة الدينية لبناء قاعدة شعبية واسعة من الأتباع التقليديين لعائلة الحـسيني، ومن الوطنيين الذين رأوا فيه زعيماً لحركتهم، ومن المنتفعين من شبكة المصالح التي كان يسيطر عليها، وذلك كله كان معاكسا لما جرى في الدول العربية التي بنى الزعماء حضورهم في سياق تأسيس أحزاب علمانية مثل سعد زغلول وحزب الوفد في مصــر، وشكري القوتــلي والكتلة الوطنية وحزب الشعب وعبد الرحــمن الشهبندر في سوريا... وهكذا (ص 100 ـ 101). ويكشف الكتاب أن الحاج أمين الحسيني ظل على ولائه للبريطانيين منذ تعـيينه مفتياً في سنة 1921 حتى سنة 1936. لكن، بعـد اندلاع الثــورة في تلك السنة، وجد انه سيفقد زعامته، إذا لم ينضم إلى هذه الثورة. وفي ما بعد حينما بات موضوع الوطن القومي اليهودي أمراً قريب المنال تحوّل المفتي إلى عدو لدود للبريطانيين وللصهيونيين معاً.
الفشل المتجدد
السؤال الرئيس في هذا الكتاب هو: لماذا فشل الفلسطينيون في سنة 1948، ولماذا فشلت تجربة منظمة التحرير الفلسطينية، ثم السلطة الوطنية الفلسطينية في إنشاء شكل ما من أشكال الدولة أو الكيان الوطني؟
أعتقد أن فشل النخبة الفلسطينية في حماية كيانها في سنة 1948، وفشل الثورة الفلسطينية المعاصرة في تأسيس كيان سياسي جديد للفلسطينيين، لهما أسباب أعمق وأبعد غوراً من الأسباب التي عرضها المؤلف في كتابه الذي بين أيدينا.
وفي هذا الحقل من الجدال السياسي سأتجرأ على الإجابة بالتالي: إن الصراع في فلسطين حالة خاصة في تاريخ الصراعات في العالم، وهو يختلف، اختلافا جوهريا، عن أي صراع آخر بين دولتين متجاورتين. فهو لا يشبه النزاع الهندي ـ الباكستاني على سبيل المثال، أو حتى صراع المحور والحلفاء في الحرب العالمية الثانية. ففي مثل تلك الصراعات ينتهي الأمر بانتصار أحد الطرفين على خصمه، فيفرض عليه شروط المنتصر.
أما الصراع في فلسطين فهو ليس صراعاً بين دولتين يمكن حله بمقادير من التفاوض والحرب، بل هو صراع بشري وجغرافي وسياسي وحضاري وتاريخي في آن واحد، أي انه صراع ممتد في الزمن بين مجموعتين بشريتين واحدة متسربلة بالقوة والأخرى متسربلة بالحق، وكل واحدة منهما تستند الى عناصر تاريخية ودينية وثقافية، أصحيحة كانت هذه العناصر أم زائفة، ولها، في الوقت نفسه، عمق بشري وسياسي يشد أزرها ويقوي بقاءها. وهذا الأمر يجعل من المحال إنهاء الصراع إلا بواحدة من نتيجتين: إما الإبادة أو الترحيل. لكن الصهيونية انتصرت على العرب في سنة 1948 انتصاراً ساحقاً، فبادرت قواتها الى ترحيل الفلسطينيين عن ديارهم. لكن الترحيل لم ينه الصراع، بل بدأ بداية جديدة. وبما أن الإبادة باتت من المحال في شروط عصرنا، فإن الصراع في فلسطين وعلى فلسطين لن ينتهي بفرض شروط المنتصر على الفلسطينيين، بل ان تفاعلات متمادية من شأنها أن تؤدي الى ظهور حل مطابق لموازين القوى في لحظة التسوية النهائية. ولعل كثيرين لم يلحظوا أن أهداف إسرائيل الاستراتيجية تغيرت كثيراً. لقد انتهت، منذ زمن طويل، استراتيجية التوسع الجغرافي، وفشلت فكرة تجميع يهود العالم كلهم في فلسطين. ومن المؤكد أن التخلي عن هاتين النقطتين لم يأت عن طيب خاطر، بل ان أكثر من ستين سنة من المقاومة، وعلى الرغم من الهزائم الكثيرة، أرغمت اسرائيل على التخلي عن بعض «ثوابتها» الاستراتيجية السابقة.
هل هزمنا حقاً؟
منذ أكثر من مئة سنة لم نكن، فلسطينيين وعرباً، في وضع الهجوم كي يقال اننا هزمنا. كنا في وضع الدفاع الدائم عن النفس أمام هجوم استعماري متلاحق. فنحن واقعون في أخطر بقعة في العالم، أي بين النفط وإسرائيل. وإسرائيل ليست مجرد حدث عابر في تاريخ أوروبا، انها المسألة اليهودية برمتها. وهي ليست مجرد نتيجة طبيعية لحرب خسرها العثمانيون في سنة 1918 فصدر إعلان بلفور، أو حرب خسرها العرب في سنة 1948 فظهرت إسرائيل الى الوجود، بل هي، في الجوهر، ذروة صراع ربما بدأ في منتصف القرن التاسع عشر حينما بدأت محاولات الاختراق الغربي لبلاد الشام.
هل هناك حل؟
يعتقد رشيد الخالدي أن «حل الدولتين» قد فشل، ويتوقع أن تتدافع الأمور نحو «حل الدولة الواحدة» تحت حكم إسرائيل، لان «من المستحيل إبقاء شعبين في بلد صغير منفصلين، أو إبقاء ذلك الكيان تحت حكم اليهود مثلما تبين في النهاية أن من المستحيل إبقاء جنوب أفريقيا تحت حكم البيض» (ص 251). ولنا في هذا الشأن رأي: هل «حل الدولة الواحدة» سينشأ نتيجة التفاوض بين الفلسطينيين وإسرائيل، أم نتيجة الكفاح المتواصل سياسياً وعسكرياً؟ فإذا كان البعض يعتقد أن «حل الدولة الواحدة» يمكن أن ينشأ نتيجة التفاوض، وجراء اقتناع الطرفين وقبولهما بهذه الحل فهو ساذج وبلا خبرة سياسية على الإطلاق. أما اذا كان المقصود التوصل الى هذا الحل من خلال التفاعلات التي ستنجم عن مسيرة طويلة من الكفاح السياسي والعسكري، والتفاوض في الوقت نفسه، فإن الحل الممكن، في هذا السياق، هو «حل الدولتين» الذي، وإن لم يتحقق حتى الآن، إلا أنه ما زال يعتبر الحل الوحيد الواقعي والقابل للتحقق، حتى لو لم يكن هو الحل التاريخي العادل.
إن تبني فكرة «الدولة الواحدة» نتيجة للاعتقاد أن «حل الدولتين» قد فشل يعكس تفكيراً ميكانيكياً، لا تفكيراً جدلياً وتاريخياً، بل انه أقرب الى التأمل السلبي في الوقائع السياسية الجارية أمام أعيننا.
ـــــــــــــــــ
(*) صدرت الترجمة العربية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت سنة 2008. وترجمها هشام عبد الله.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر