من ذاكرة لا تشيخ: أنا..لاجئ من قرية سمخ../ إبراهيم مالك
(...حفظا للذاكرة التاريخية، ذاكرة الإنسان التي لا يُعقل أن تشيخ ولا يصح أن تشيخ، فالذاكرة التاريخية، كما هي مُجربة شاهد لا يموت).
لا أقول ذلك مفاخرة، انطلاقا من عصبويّة قرويّة ضيقة، تحبس عقل المرء وما يمثّله من وعي ٍ خلفَ سِياجات متحجرة، بل لتسجيل حقيقة انتماء،انتماء الى مكان، له مكانة قدسية في نفسي، وإن حرمت دفء سمائه وعبق ترابه وعذوبة ماء بحيرته وكنت لا أزال، يومها،غض الإهاب، لا أعي الكثير مما يدور حولي من طوفان طاغٍ وعاصفة هوجاء.
ففيها، في قرية سمخ، وُلِدْتُ.
أتيت إلى الحياة، سنوات قليلة، قبل الهجيج، عشت فيها مع أهلي في حيفا، حيث كان أبي، حسين ابراهيم مالك، يعمل موظفا في سكة الحديد البريطانية.
كبُرْتُ في كفرياسيف وكبُرَتْ معي النكبة وتدافعَتْ، تطِلُّ برؤوسها، خيبات الأمل المتكررة، أو ما أسماه بعضنا، خيانات هذا الزمن، وعنى خيانات بعض ناسه.
.....
كنا، أبي وزوجتاه شقيقتي، أخواي وأنا، نسكن،هانئين، حينها، في بيت مستأجر يقع قريبا من درج رئيس البلدية الأسبق، حسن شكري، في موقع يتوسّط حيّ المحطّة العربي وحيّ الهدار اليهودي في وسط الكرمل، في مدينة حيفا.
فأنا ولدتُ يوم 26 أيار1942في سمخ، إحدى قرى غور الأردن المطلة على الشاطىء الجنوبي لبحيرة طبريا، لكن طفولتي المبكرة قضيتها في حيفا.
وقد شاءت الأحداث الدموية في عام 1948 أن تسقط سمخ في أيدي القوّات اليهودية المهاجمة أياما قليلة قبل سقوط حيفا. فهُجّرنا من حيفا، عبر البحر، إلى عكا، شمالا، ومن ثم إلى الجليل، شرقا، مرورا بالمكر فالبعنة ويركا، وصولا إلى كفرياسيف، حيثُ قرّر والدي البقاء قريبا من أصدقاء، يعرفهم من العمل في حيفا، مثل طيب الذكر، المرحوم أبي خالد–حنا دلّي.
لم نعد من يومها إلى قريتنا وبيتنا في سمخ ولم نبقَ في حيفا، مُنِعْنا من العودة بالقوة وبالإخافة المُميتة، بمختلف القوانين والوسائل، أبسطها الحكم العسكري. بقينا لاجئين وغرباء في كفرياسيف، يعيش والدي حلمين ومأساتين في آن، غرسهما فينا، نحن أولاده. كان موزع المشاعر بينهما، فلم يكن قادرا على حسم ما يريد ويطمح، فكلاهما حلو وموجع، حلم الحنين إلى ما كان وطنه، الجزائر، (الذي بقي يعيش مأساة الرحيل عنها بعد الاحتلال الفرنسي الإستعماري لها)وحلم العودة إلى ما صارت وطنه، مسقط رأس زوجته الثانية، التي هي أمّي، حلم قضاء أيامه الأخيرة المتبقّية من حياته، أيام الشيخوخة، بين أهلها وقريبا من شقيقته الثانية، أم محمّد خديجة مالك مغربي، التي كانت زوّجت إلى عم أمي (أبو محمّد صالح حُسين مغربي) في قرية سمخ.
.....
في طرقات سمخ المتربة درجتُ طفلا صغيرا، طفلا راح يحبو ويتعلّم خطواته الأولى.
سمخ مسقط رأسي، وان أكن عرفت في طفولتي الواعية، قليلا، مدينة حيفا. كبرت وأتممت دراستي الابتدائية والثانوية فيما صار وطني الثاني:
كفرياسيف، التي أحسنت تربيتي، كما أظن، ورعت شبابي، وأسهم مناخ ناسها التنويري العلماني والتقدمي في بلورة بدايات وعيي الاجتماعي والإنساني، لكنها لم تنسني حبّي وحنيني إلى وطني الأول، الوطن الأصغر:
سمخ، بل زادتني تعلّقا بهذا الانتماء وألهبت مشاعري الوطنية، منذ الطفولة، فكان العيش فيها، رغم جماليّاته واقعا "قسريا" فرضه الهجيج والترحيل القسري عن الوطن. ولكن مكنني البقاء فيها من البقاء في وطني الأكبر، كانت لي، لأهلي ولكثيرين غيري، ملاذا آمنا في السنوات الأولى للعاصفة القاتلة، التي انتابت الوطن الأكبر، فلسطين، فيغمرني شعور قوي، حتّى يومنا، أنني سأظلّ مدينا لكفرياسيف وناسها كثيرا.
لكن حقيقة ً، بقيت فيها غريبا أحن إلى سمخ، رغم احترامي الشديد وكبير تقديري للكثيرين من أهلها الطيّبين.
وكم يبدو هزيلا، ضالا" ومحزنا"، بل مكلفا الاعتقاد بأن الزمن كفيل بأن يُنسي الناس أوطانهم الصغيرة أو الكبيرة، وأنّ دورة الحياة القاسية بخاتمتها، الموت الجسدي، كفيلة بتحقيق النسيان وتحقيق ما لم تفعله القوّة المنفلتة.
فانتمائي إلى مسقط رأسي ليس مكتسبا بفعل منطق القوة أو الشراء المخادع أو السلب القسري، بشرعة القانون، الذي سنّ خصيصا لشرعنة السلب، أو حكايا عن وعد هي أقرب إلى الأساطير، لأنسى، إنمما اكتسبته بفعل هذه الصلة، عبر حبل السرّة، التي تربطني برحمها.
حقّي في سمخ لا يبطله تقادم الزمن ولا حتّى موتي ولا هرب العاجز باسم العقلانية
(...حفظا للذاكرة التاريخية، ذاكرة الإنسان التي لا يُعقل أن تشيخ ولا يصح أن تشيخ، فالذاكرة التاريخية، كما هي مُجربة شاهد لا يموت).
لا أقول ذلك مفاخرة، انطلاقا من عصبويّة قرويّة ضيقة، تحبس عقل المرء وما يمثّله من وعي ٍ خلفَ سِياجات متحجرة، بل لتسجيل حقيقة انتماء،انتماء الى مكان، له مكانة قدسية في نفسي، وإن حرمت دفء سمائه وعبق ترابه وعذوبة ماء بحيرته وكنت لا أزال، يومها،غض الإهاب، لا أعي الكثير مما يدور حولي من طوفان طاغٍ وعاصفة هوجاء.
ففيها، في قرية سمخ، وُلِدْتُ.
أتيت إلى الحياة، سنوات قليلة، قبل الهجيج، عشت فيها مع أهلي في حيفا، حيث كان أبي، حسين ابراهيم مالك، يعمل موظفا في سكة الحديد البريطانية.
كبُرْتُ في كفرياسيف وكبُرَتْ معي النكبة وتدافعَتْ، تطِلُّ برؤوسها، خيبات الأمل المتكررة، أو ما أسماه بعضنا، خيانات هذا الزمن، وعنى خيانات بعض ناسه.
.....
كنا، أبي وزوجتاه شقيقتي، أخواي وأنا، نسكن،هانئين، حينها، في بيت مستأجر يقع قريبا من درج رئيس البلدية الأسبق، حسن شكري، في موقع يتوسّط حيّ المحطّة العربي وحيّ الهدار اليهودي في وسط الكرمل، في مدينة حيفا.
فأنا ولدتُ يوم 26 أيار1942في سمخ، إحدى قرى غور الأردن المطلة على الشاطىء الجنوبي لبحيرة طبريا، لكن طفولتي المبكرة قضيتها في حيفا.
وقد شاءت الأحداث الدموية في عام 1948 أن تسقط سمخ في أيدي القوّات اليهودية المهاجمة أياما قليلة قبل سقوط حيفا. فهُجّرنا من حيفا، عبر البحر، إلى عكا، شمالا، ومن ثم إلى الجليل، شرقا، مرورا بالمكر فالبعنة ويركا، وصولا إلى كفرياسيف، حيثُ قرّر والدي البقاء قريبا من أصدقاء، يعرفهم من العمل في حيفا، مثل طيب الذكر، المرحوم أبي خالد–حنا دلّي.
لم نعد من يومها إلى قريتنا وبيتنا في سمخ ولم نبقَ في حيفا، مُنِعْنا من العودة بالقوة وبالإخافة المُميتة، بمختلف القوانين والوسائل، أبسطها الحكم العسكري. بقينا لاجئين وغرباء في كفرياسيف، يعيش والدي حلمين ومأساتين في آن، غرسهما فينا، نحن أولاده. كان موزع المشاعر بينهما، فلم يكن قادرا على حسم ما يريد ويطمح، فكلاهما حلو وموجع، حلم الحنين إلى ما كان وطنه، الجزائر، (الذي بقي يعيش مأساة الرحيل عنها بعد الاحتلال الفرنسي الإستعماري لها)وحلم العودة إلى ما صارت وطنه، مسقط رأس زوجته الثانية، التي هي أمّي، حلم قضاء أيامه الأخيرة المتبقّية من حياته، أيام الشيخوخة، بين أهلها وقريبا من شقيقته الثانية، أم محمّد خديجة مالك مغربي، التي كانت زوّجت إلى عم أمي (أبو محمّد صالح حُسين مغربي) في قرية سمخ.
.....
في طرقات سمخ المتربة درجتُ طفلا صغيرا، طفلا راح يحبو ويتعلّم خطواته الأولى.
سمخ مسقط رأسي، وان أكن عرفت في طفولتي الواعية، قليلا، مدينة حيفا. كبرت وأتممت دراستي الابتدائية والثانوية فيما صار وطني الثاني:
كفرياسيف، التي أحسنت تربيتي، كما أظن، ورعت شبابي، وأسهم مناخ ناسها التنويري العلماني والتقدمي في بلورة بدايات وعيي الاجتماعي والإنساني، لكنها لم تنسني حبّي وحنيني إلى وطني الأول، الوطن الأصغر:
سمخ، بل زادتني تعلّقا بهذا الانتماء وألهبت مشاعري الوطنية، منذ الطفولة، فكان العيش فيها، رغم جماليّاته واقعا "قسريا" فرضه الهجيج والترحيل القسري عن الوطن. ولكن مكنني البقاء فيها من البقاء في وطني الأكبر، كانت لي، لأهلي ولكثيرين غيري، ملاذا آمنا في السنوات الأولى للعاصفة القاتلة، التي انتابت الوطن الأكبر، فلسطين، فيغمرني شعور قوي، حتّى يومنا، أنني سأظلّ مدينا لكفرياسيف وناسها كثيرا.
لكن حقيقة ً، بقيت فيها غريبا أحن إلى سمخ، رغم احترامي الشديد وكبير تقديري للكثيرين من أهلها الطيّبين.
وكم يبدو هزيلا، ضالا" ومحزنا"، بل مكلفا الاعتقاد بأن الزمن كفيل بأن يُنسي الناس أوطانهم الصغيرة أو الكبيرة، وأنّ دورة الحياة القاسية بخاتمتها، الموت الجسدي، كفيلة بتحقيق النسيان وتحقيق ما لم تفعله القوّة المنفلتة.
فانتمائي إلى مسقط رأسي ليس مكتسبا بفعل منطق القوة أو الشراء المخادع أو السلب القسري، بشرعة القانون، الذي سنّ خصيصا لشرعنة السلب، أو حكايا عن وعد هي أقرب إلى الأساطير، لأنسى، إنمما اكتسبته بفعل هذه الصلة، عبر حبل السرّة، التي تربطني برحمها.
حقّي في سمخ لا يبطله تقادم الزمن ولا حتّى موتي ولا هرب العاجز باسم العقلانية
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر