كان الأمن القومي وما يزال المسألة التي تشغل بال الأمم والحكومات مهما بلغ حجم القوّة التي تحت تصرّفها ونوعها. وتوفير الأمن على نسبيّته يشير إلى نجاح السياسة الخارجية للدولة وقدرة أجهزتها المختصّة على بلوغ الأهداف المرسومة، وذلك من منطلق أن الأهداف السياسية الخارجية تُحدّد وفقاً لاعتبارات الأمن القومي.
والحقيقة ما يزال الحديث عن "أمن قومي عربي" حديثاً عن أمن يفترض السعي إليه وإيجاده، ويناضل من أجله طلائعيون من أصحاب الوعي القومي، لذلك قد يكون الحديث مزيجاً من الواقع والأمل، وفيه الحقائق والأمنيات والمخاوف والطموحات.
ونحن هنا نعترف مع المختصيّن العرب أنّ الأمن القومي العربي مازال مفهوماً مُتحرّكاً من حيث الاتفاق مع تعريفه وتحديده ورسم معالمه. وما زالت صلته بالأمن القطري ضبابية غائمة. فأين يبدأ القومي وينتهي، وأين أوّل القطري وأين آخره؟!.. وما هي معايير الخطر القومي، وما هي حدود السيادة القطرية في تجاوز مفهوم الأمن القومي؟!.. وأين هذه الحدود، هل رُسمت، ومن يرسمها؟! ما هي القوى القطرية التي يمكن احتسابها في خانة الأمن القومي، وكيف يمكن تحويل هذه القوى القطرية إلى قدرات قومية تنظمها وتعبئها وتطوّرها وتستخدمها قيادات قومية متخصّصة؟!. وما هي القيادات والمؤسّسات والأجهزة التي يجب أنْ تتولى شؤون الأمن القومي بجوانبه السياسيّة والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلميّة؟!.
كيف يمكن الانتقال من الأمن القومي كأمل منشود وجهد فكر مبذول إلى الأمن القومي كسياسات واستراتيجيات وخطط وبرامج؟!. ثمّة إشكاليات وتساؤلات كثيرة وهامّة مطروحة أمام الباحثين والمفكّرين والسياسيّين والمختصّين بشؤون الأمن القومي العربي. ولا تدّعي هذه الدراسة أنها ستجيب على جميع هذه التساؤلات، أو تقدّم حلولاً ناجزة لمسائل التحدّي العلمي التقني الذي يواجه الأمن العربي بوصفه أحد أشكال التحدّيات الضخمة في بداية القرن القادم. وكلّ ما تطمح الدراسة إليه، أن تساعد في عرض أبرز الرؤى والأطروحات والأفكار والمعطيات، التي من شأنها إعطاء تصوّر أقرب إلى الواقع، وتحفيز الأذهان للتفكير في مسألة تُعدّ من أخطر المسائل، التي تواجه الأمّة العربيّة في صراعها الاستراتيجي مع الصهيونية العالمية، وقاعدتها الإقليمية الاستيطانية -التوسّعية- "إسرائيل".
وإذا عدنا إلى بعض الوثائق الرسميّة مثل معاهدة "الدفاع المشترك" والتعاون الاقتصادي المبرمة في حزيران / يونيو عام 1950 في الإسكندرية، وميثاق التضامن العربي الذي تم التوصّل إليه في أيلول/ سبتمبر عام 1965 في الدار البيضاء، فإننا سنلاحظ أن مسألة الأمن القومي ليست بعيدة عن أذهان القادة العرب. بيد أن التساؤلات تنصرف إلى الممارسات العملية ومدى الجديّة في التطبيق.
ولكن ما هو المفهوم العربي للأمن القومي؟! وما نوع التحدّي العلمي التقني الذي يواجهه؟!.
أوّلاً: المفهوم العربي للأمن القومي
ما زال الفكر السياسي العربي بعيداً عن صياغة محدّدة لمفهوم الأمن القومي في الوقت الذي باتت مفاهيم كثيرة للأمن القومي في كثير من الدول واضحة ومحدّدة، كالأمن القومي الأمريكي والفرنسي و(الإسرائيلي). فقد تعدّدت الآراء في هذا الخصوص، ودون الدخول في التفصيلات نستطيع أن نحدّد ثلاثة اتجاهات متباينة. الأول يتجاهل فكرة الأمن القومي العربي، والثاني ينظر إلى المفهوم في إطار ما يجب أن يكون، في حين ينظر إليه الاتجاه الثالث كمرادف لمفهوم الأمن الإقليمي.
1- الأمن القومي كمرادف للأمن الوطني:
يركّز هذا الاتجاه على الأمن القومي، ويستخدم مصطلح الأمن القومي للإشارة إليه. ويبدو هذا المنهج واضحاً في عدد كبير من الكتابات وبخاصّة المصرية، كالحديث عن الأمن القومي المصري.
وقد أخذ أصحاب هذا الاتجاه مصطلح الأمن القومي عن الفكر الأمريكي، حيث وجد المفهوم صياغته الأولى في آراء عدد من الكتّاب ذوي الاتجاهات المختلفة. فقد رأى العسكريون أنّ الأمن القومي يعني القدرة العسكرية على حماية الدولة والدفاع عنها إزاء أي عدوان خارجي. ورأى السياسيون أنه مجموعة المبادئ التي تفرضها أبعاد التكامل القومي في نطاق التحرّك الخارجي. ورأى علماء الاجتماع أنه يمثّل قدرة الدولة على حماية قيمها الداخلية من أي تهديد خارجي. وبالتالي فإنّ مفهوم الأمن القومي بهذا التحديد يقترن بالدولة وجوداً وعدماً.
2-الأمن القومي كمطلب قومي:
يركز هذا الاتجاه على الفكرة القومية رغم غياب الدولة العربية الواحدة من جهة، ووجود الأقطار العربية وما يسودها من تناقضات من جهة أخرى. فالأمن القومي العربي يتمثّل هنا في: "قدرة الأمة العربية من خلال نظامها السياسي الواحد -المفترض- على حماية الكيان الذاتي العربي، ونظام القيم العربية التاريخية، المادية والمعنوية، من خلال منظومة الوسائل الاقتصادية والسياسية والعسكريّة، حمايتها من خطر التهديد المباشر أو غير المباشر خارج الحدود أي دولياً أو داخل الحدود بدءاً بالتخلف وحالات التبعية وانتهاءً (بإسرائيل). وهو التهديد الذي سبّب ولا يزال حالة من الهزيمة والانكسار العربي تمثلت مظاهره في فقدان الإرادة العربية لاستقلاليتها وفي تعطيل عمليات التنمية، وبروز دور الشركات متعددة الجنسية، وفي تضخيم الظاهرة الصهيونية إلى حد الاعتراف بشرعيتها وهي المظاهر التي قد تنتهي بتهديد حق البقاء الإرادي للجسد العربي".
وبهذا يصبح الأمن القومي تعبيراً عن ثلاثة مطالب لا بدّ للأمة العربية من تحقيقها، الأول فكرة "الضرورة" التي تعني حق الدفاع عن النفس وما يرتبط بها من حشد للقدرات العلمية والتقنية والعسكرية ذات مواصفات عالية.
والثاني "وحدة الإرادة" في مواجهة "قوة الخطر" ونقصد بها الوحدة العربية النابعة من خصائص الوجود القومي. والثالث حق التنمية وبناء الذات انطلاقاً من حقيقة التكامل بين مختلف أجزاء الوطن العربي، وبتفاعل هذه المطالب وتحويلها إلى متغيّرات إجرائية نكون أمام أوجه القوّة وأوجه الضعف في الجسد العربي-.
3-الأمن القومي كبديل للأمن الإقليمي:
يركّز هذا الاتجاه على فكرة الأمن المشترك للأقطار العربية بحيث يصبح الأمن القومي مرادفاً للأمن الإقليمي. وهو أكثر شيوعاً، بين المهتمّين بقضايا الأمن القومي، من الاتجاهين السابقين.
فمثلاً يؤكّد الباحثان محمد عنتر وعفاف الباز أنّ "الأمن العربي ينطبق عليه مفهوم الأمن الإقليمي، فالمفهوم هنا يشمل أكثر من دولة واحدة في منطقة جغرافية معيّنة تربطها روابط وصلات مُعيّنة. وفي معناه العام ينصرف الأمن العربي إلى تلك الحالة من الاستقرار الذي يشمل المنطقة العربية كلها بعيداً عن أي نوع من أنواع التهديد سواء من الداخل أم من الخارج".
ويرى باحثٌ عربيٌ متخصّص أنّ الأمن القومي ".. ما تقوم به الدولة أو مجموعة الدول التي يضمّها نظام جماعي واحد من إجراءات في حدود طاقتها، للحفاظ على كيانها ومصالحها في الحاضر والمستقبل مع مراعاة المتغيرات المحليّة والدوليّة". ويرى "أنّ الأمن الجماعي ضرورة حتمية لتحقيق الأمن العربي لما له من فوائد عديدة، على أن يتم الالتزام بقواعد وأصول العمل الجماعي".
ومن خلال إدراك طبيعة الاختلاف بين مفهوم الأمن القومي كما عرفه الفكر الغربي ومفهوم الأمن القومي العربي وفقاً لخصائص الواقع العربي، يرى عددٌ من الباحثين العرب: "أنّه تأمين المناعة الإقليمية والاستقرار السياسي والتكامل الاقتصادي بين أجزاء الوطن العربي، وتعزيز آليات وقواعد العمل المشترك بما فيها القدرة الدفاعية لوقف الاختراقات الخارجية للجسم العربي... وتصليب العلاقة التي تبدو هلامية في الوقت الراهن بين وحدات النظام العربي وما يتطلّبه ذلك من اعتماد الحوار والتفاوض لإنهاء الخلافات والصراعات الدائرة بين هذه الوحدات"(.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر