د.محمود محارب
المقدمة:
تهدف هذه الدراسة إلقاء الضوء على المخابرات اليهودية الصهيونية في العقد الأول ونيف من تأسيسها، في العام 1918، ومتابعة تطورها المؤسساتي ونشاطها التجسسي على العرب في الفترة المذكورة. وتستند الدراسة، أساساً، على المصادر باللغة العبرية، التي تشمل الكتابات والمذكرات المنشورة لقادة ونشطاء المخابرات، والكتب والدراسات البحثية المتخصصة بهذا الشأن، علاوة على الوثائق والملفات الأولية المتعلقة بنشأة المخابرات والمتناثرة في الأرشيفات الإسرائيلية.
إن تاريخ المخابرات اليهودية الصهيونية هو تاريخ مؤسسات وقيادات وأشخاص ومبادرات ونجاحات وإخفاقات. ودراسة هذا التاريخ فيه العبر والدروس الكثيرة. فهو يكشف طبيعة هذه المخابرات ودورها الحقيقي، وبالتالي ينزلها من عالم الخيال والمبالغات ويضعها في عالم الواقع. وأهم من ذلك بكثير أنه يفتح الباب على مصراعيه لقراءة ودراسة حقيقة العلاقات الصهيونية مع النخب العربية وخاصة في البلدان المجاورة لفلسطين في العقدين ونيف اللذين سبقا قيام إسرائيل. فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إدراك طبيعة علاقات الحركة الصهيونية مع النخب العربية، وخاصة الحاكمة، في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي وطبيعة الصراع العربي الإسرائيلي وخاصة حرب 1948، بدون العودة إلى هذه الوثائق المتعقلة بتلك الفترة.
ساهم عاملان أساسيان في دفع قيادة مجتمع المستوطنين والمهاجرين الصهيونيين في فلسطين إلى جمع المعلومات عن الشعب العربي الفلسطيني وإجراء دراسات حوله وتحليل واقعه والتجسس عليه. تمثل العامل الأول في السعي الصهيوني المتواصل للاستيلاء على الأراضي العربية وامتلاكها لإقامة المستوطنات اليهودية عليها. فمن أجل السيطرة على أكثر ما يمكن من الأراضي العربية دأب الصهيونيون ومؤسساتهم على جمع المعلومات عن الأراضي العربية الفلسطينية وعن طبيعتها وعن نوعية ملكيتها وعن مالكيها. فقد اهتم الصهيونيون في معرفة هوية المالكين، إذا ما كانوا مالكين أجانب من خارج فلسطين أو مالكين يهود من فلسطين أو مالكين من البعثات والقنصليات الأجنبية في فلسطين أو مالكين عرب فلسطينيين. وقد اهتم الصهيونيون، في جمع معلوماتهم عن مالكي الأراضي، بأوضاعهم الاقتصادية وبعلاقاتهم الاجتماعية و بإمكانيات توريطهم في ديون ليسهل ابتزازهم.
أما العامل الثاني، وهو الأكثر خطورة في نظر الصهيونيين، فتمثل في المقاومة العربية الفلسطينية للمشروع الصهيوني الذي هدف إلى تحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود وطرد الشعب العربي الفلسطيني من فلسطين.
ومن الملاحظ أن الاهتمام الصهيوني المخابراتي في جمع المعلومات والتجسس على الشعب العربي الفلسطيني وعلى العرب عموماً ارتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى تطور حركة التحرر الوطني الفلسطيني وبوتيرة النضال الوطني الفلسطيني. فكلما تصاعد وتعاظم النضال الوطني الفلسطيني، ازداد الاهتمام المخابراتي الصهيوني بالعرب والتجسس عليهم. ففي أعقاب انتفاضتي 1920 و 1921، اللتين فاجأتا القيادة الصهيونية، ازداد الاهتمام المخابراتي والنشاط التجسسي الصهيوني على العرب. كذلك ازداد النشاط الصهيوني التجسسي على العرب في أعقاب ثورة البراق في العام 1929 والتي فاجأت القيادة الصهيونية.
وقد ارتفعت وتيرة النشاط المخابراتي التجسسي على العرب أثناء الغليان الشعبي الفلسطيني في المنتصف الأول من الثلاثينات وما رافقه من مظاهرات وإضرابات واعتصامات وقيام منظمات شبابية وجمعيات سرية وظهور أحزاب سياسية فلسطينية على مسرح النضال الوطني الفلسطيني. وتكثف النشاط المخابراتي الصهيوني ووصل إلى مستوى غير مسبوق أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى، والتي فاجأت بدورها القيادة الصهيونية، والتي امتدت من العام 1936 – 1939.
علاوة على الصراع الذي دار في فلسطين بين الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية من ناحية والصهيونية والاستعمار البريطاني من ناحية أخرى، جرى صراع آخر موازٍ له، تارة علني وأخرى خفي، بين الحركة الوطنية الفلسطينية والحركة الصهيونية المدعومة من الاستعمار البريطاني، على الرأي العام العربي وعلى مواقف ودعم النخب العربية التي كانت تحكم أو تشارك في حكم بلادها مع الاستعمار البريطاني أو الفرنسي. فلكون النضال الوطني الفلسطيني اجتذب اهتمام الرأي العام العربي واستقطب المئات ومن ثم الآلاف من الشباب العرب، من الأقطار العربية، الذين انخرطوا في النضال الوطني والقومي العربي، ولكون النضال الوطني الفلسطيني طرح نفسه بقوة على النخب العربية الحاكمة أو الشريكة في حكم بلادها مع الاستعمار، فإن قيادة الوكالة اليهودية، عبر جهاز مخابراتها، أولت اهتماماً بالرأي العام العربي وبالنخب العربية، محاولة وساعية بجدية إلى استقطابهم ونيل تأييدهم ضد الشعب العربي الفلسطيني وحركته الوطنية.
وكانت القيادة الصهيونية قد اهتمت مبكراً بإقامة علاقات مع الأمير عبد الله، أمير إمارة شرق الأردن، منذ تأسيس الإمارة في العام 1921. وأثناء الثورة الفلسطينية الكبرى 36- 1939 سعت الوكالة اليهودية، عبر جهاز مخابراتها "المكتب العربي"، إلى ترقية العلاقة بينها وبين أمير شرق الأردن إلى درجة عالية من التفاهم والتحالف على أرضية المصالح المشتركة بينهما. كذلك اهتم المكتب العربي التابع للوكالة اليهودية أثناء ثورة 36 – 1939 الفلسطينية بكل من سورية ولبنان، على إثر تحولهما إلى مراكز للثوار الفلسطينيين ومركز إسناد هام للثورة الفلسطينية. وقد ازداد الاهتمام المخابراتي بهذين البلدين بعد خروج المفتي الحاج أمين الحسيني من فلسطين على إثر محاولة السلطات البريطانية اعتقاله، ولجوئه إلى بيروت في العام 1937.
كذلك اهتمت المخابرات الصهيونية في الثلاثينات بالعراق لكونها أول دولة عربية تنال استقلالها ولما كانت تمتلكه هذه الدولة من طاقات كامنة، علاوة على دورها العام في المشرق العربي. وبعد انتقال الحاج أمين الحسيني، في بداية الحرب العالمية الثانية إلى العراق، ازداد اهتمام المخابرات الصهيونية بالعراق وبما يجري على أرضها من أحداث. وفي أوائل الأربعينات أبدت المخابرات الصهيونية اهتماماً متزايداً بمصر. وعشية تأسيس جامعة الدول العربية ونتيجة لتبوء مصر قيادة العمل العربي وبروز دورها الإقليمي في المنطقة، استحوذت مصر، وما يجرى على أرضها، على الاهتمام الصهيوني المخابراتي، فباتت مصر،عشية إقامة جامعة الدول العربية، تحتل قصب السبق في النشاط المخابراتي الصهيوني. وقد ازداد هذا الاهتمام والنشاط مع قدوم الحاج أمين الحسيني إلى القاهرة من باريس في العام 1946.
المؤسسات الصهيونية المخابراتية
تعود جذور تأسيس أول مؤسسة صهيونية متخصصة بالمخابرات والتجسس على العرب إلى أواخر العام 1918. فقبل أن تضع الحرب العالمية الأولى أوزارها، وعندما كانت بريطانيا، صاحبة وعد بلفور، تحتل نصف فلسطين، وصلت إلى فلسطين في نيسان(ابريل) 1918 "اللجنة الصهيونية" (فاعد هاتسيريم) (the Zionist Comission) برئاسة حاييم وايزمان، النجم الصاعد في الحركة الصهيونية والذي أصبح في العام 1921 رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية(1). وكانت مهمة "اللجنة الصهيونية"، التي كان قد شكلها حاييم وايزمان من مقره في بريطانيا، بالتعاون مع الحكومة البريطانية، قيادة مجتمع المستوطنين والمهاجرين اليهود في فلسطين وتمثيلهم أمام السلطات البريطانية والعمل لوضع وعد بلفور موضع التنفيذ (2). أولى حاييم وايزمان أهمية قصوى للعمل المخابراتي والتجسس على العرب وبذل جهوداً كبيرة في أعقاب الحرب العالمية الأولى لإقامة مؤسسة مخابراتية صهيونية في فلسطين (3).
بعد مشاورات ومداولات عديدة بين حاييم وايزمان، وأعضاء "اللجنة الصهيونية" في القدس، وكان من بينهم زئيف جابوتينسكي، الذي أسس فيما بعد التيار التصحيحي في الحركة الصهيونية، وأصبح قائداً له، قررت "اللجنة الصهيونية" في القدس، في نهاية العام 1918، تأسيس "مكتب المعلومات" (مسراد هيديعوت) كمؤسسة تابعة لها (4). وحددت "اللجنة الصهيونية" مهاماً لهذا المكتب، أهمها دراسة أوضاع الشعب العربي الفلسطيني وجمع المعلومات عنه والتجسس عليه. وكان الهدف السياسي المباشر حينئذ، عند تأسيس "مكتب المعلومات"، جمع المعلومات ووضعها تحت تصرف "اللجنة الصهيونية" في القدس والقيادة الصهيونية، لكي يتمكن القادة الصهيونيون من دحض أية "ادعاءات" تأتي من قبل بعض القادة البريطانيين المعادين للصهيونية أو من قبل رجال الإدارة البريطانية، حول عظمة المقاومة العربية لوعد بلفور، الأمر الذي قد يؤثر على تغيير السياسة البريطانية من الوعد (5).
كانت تجربة مجتمع المستوطنين والمهاجرين اليهود في فلسطين، في تلك الفترة، في العمل التجسسي وجمع المعلومات، محدودة. واقتصرت هذه التجربة على شبكة التجسس اليهودية في فلسطين "نيلي" التي عملت لصالح المخابرات البريطانية في السنتين الأخيرتين من الحرب العالمية الأولى ضد تركيا (6)، وعلى منظمة هاشومير (الحارس) شبه العسكرية، التي كانت قد أنشئت لحراسة المستوطنات الصهيونية في العام 1909(7).
كلفت "اللجنة الصهيونية" في القدس ليفي إسحاق شنيئرسون، أحد أبرز النشيطين السابقين في شبكة "نيلي" التجسسية، بتأسيس ورئاسة "مكتب المعلومات"(. وحالما تسلم منصبه ومهامه جند ليفي شنيئرسون إلى "مكتب المعلومات"، العديد من ذوي الخبرة في العمل السري، وخاصة ممن كانوا في شبكة "نيلي"(9). كذلك افتتح شنيئرسون مقراً لـ "مكتب المعلومات" في مدينة يافا. وعمل "مكتب المعلومات" من مقره هذا فترة قصيرة، حتى بداية العام 1920، حيث انتقل المقر إلى مدينة القدس (10).
بعد أن فرش العديد من الموظفين والمخبرين في أنحاء عديدة من فلسطين باشر "مكتب المعلومات" عمله برصد تحركات الشعب العربي الفلسطيني وجمع المعلومات حوله وحول أملاكه وأراضيه، وحول أهم التطورات والتغيرات في صفوفه. لقد أولى "مكتب المعلومات" أهمية قصوى لرصد ومراقبة ومتابعة نشاطات الحركة الوطنية الفلسطينية، التي باشرت بتنظيم صفوفها في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وخاصة نشاط الجمعيات الإسلامية - المسيحية والمؤتمرات الوطنية والفعاليات السياسية المختلفة ونشاطات النوادي العربية سواء السياسية أو الثقافية.
وفي سياق تحريه عن القيادات الفلسطينية، فتح "مكتب المعلومات" "بطاقات" للشخصيات والقيادات الفلسطينية العليا وللنشيطين الميدانيين البارزين. وكذلك فتح "بطاقات" للعديد من العائلات الفلسطينية الكبيرة في مناطق متعددة من فلسطين(11).وأجرى العديد من الدراسات عن مناطق متعددة في فلسطين، عن سكانها وأملاكهم، واهتم بالعشائر العربية في النقب وذلك في سياق برنامج طموح لمسح كل فلسطين، لم يتم إلا جزء منه (12). وأولى "مكتب المعلومات" اهتماماً خاصاً بكبار ملاك الأراضي سواء كان هؤلاء الملاك من العرب الفلسطينيين أو من العرب في خارج فلسطين، وتحسس نقاط الضعف فيهم كي يتمكن من ابتزازهم.
بلغت ميزانية مكتب المعلومات في سنة عمله الأولى، في العام 1919، 1528 جنيه إسترليني. وجاء هذا من صندوق خاص، نظمه أساساً حاييم وايزمان، وليس من الميزانية المخصصة إلى "اللجنة الصهيونية" التي أقامت وأشرفت على "مكتب المعلومات" (13).
منذ تأسيسه درج "مكتب المعلومات" على تقديم الخدمات المخابراتية إلى سلطات الاحتلال البريطاني وأجهزته المتعددة. فقد ترجم "مكتب المعلومات" إلى الإنجليزية الأخبار والتقارير التي كانت تصله، والمتعلقة بوجود السلاح بأيدي الفلسطينيين أو بفلسطينيين مطلوبين لسلطات الاحتلال البريطاني، وما شابه ذلك، وسلمها مباشرة وبدون تأخير إلى قسم التحقيقات الجنائي في الشرطة البريطانية الـ CID (Criminal Investigations Department)(14).
وبعد فترة قصيرة من تأسيسه، أخذ مكتب المعلومات، مع ارتفاع وتيرة النضال الوطني الفلسطيني، يقدم تقريراً أسبوعياً إلى مكتب المندوب السامي البريطاني في فلسطين وإلى الإدارة الصهيونية في لندن، لتقوم بدورها بتسليم التقرير إلى وزارة الحربية البريطانية(15).
المقدمة:
تهدف هذه الدراسة إلقاء الضوء على المخابرات اليهودية الصهيونية في العقد الأول ونيف من تأسيسها، في العام 1918، ومتابعة تطورها المؤسساتي ونشاطها التجسسي على العرب في الفترة المذكورة. وتستند الدراسة، أساساً، على المصادر باللغة العبرية، التي تشمل الكتابات والمذكرات المنشورة لقادة ونشطاء المخابرات، والكتب والدراسات البحثية المتخصصة بهذا الشأن، علاوة على الوثائق والملفات الأولية المتعلقة بنشأة المخابرات والمتناثرة في الأرشيفات الإسرائيلية.
إن تاريخ المخابرات اليهودية الصهيونية هو تاريخ مؤسسات وقيادات وأشخاص ومبادرات ونجاحات وإخفاقات. ودراسة هذا التاريخ فيه العبر والدروس الكثيرة. فهو يكشف طبيعة هذه المخابرات ودورها الحقيقي، وبالتالي ينزلها من عالم الخيال والمبالغات ويضعها في عالم الواقع. وأهم من ذلك بكثير أنه يفتح الباب على مصراعيه لقراءة ودراسة حقيقة العلاقات الصهيونية مع النخب العربية وخاصة في البلدان المجاورة لفلسطين في العقدين ونيف اللذين سبقا قيام إسرائيل. فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إدراك طبيعة علاقات الحركة الصهيونية مع النخب العربية، وخاصة الحاكمة، في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي وطبيعة الصراع العربي الإسرائيلي وخاصة حرب 1948، بدون العودة إلى هذه الوثائق المتعقلة بتلك الفترة.
ساهم عاملان أساسيان في دفع قيادة مجتمع المستوطنين والمهاجرين الصهيونيين في فلسطين إلى جمع المعلومات عن الشعب العربي الفلسطيني وإجراء دراسات حوله وتحليل واقعه والتجسس عليه. تمثل العامل الأول في السعي الصهيوني المتواصل للاستيلاء على الأراضي العربية وامتلاكها لإقامة المستوطنات اليهودية عليها. فمن أجل السيطرة على أكثر ما يمكن من الأراضي العربية دأب الصهيونيون ومؤسساتهم على جمع المعلومات عن الأراضي العربية الفلسطينية وعن طبيعتها وعن نوعية ملكيتها وعن مالكيها. فقد اهتم الصهيونيون في معرفة هوية المالكين، إذا ما كانوا مالكين أجانب من خارج فلسطين أو مالكين يهود من فلسطين أو مالكين من البعثات والقنصليات الأجنبية في فلسطين أو مالكين عرب فلسطينيين. وقد اهتم الصهيونيون، في جمع معلوماتهم عن مالكي الأراضي، بأوضاعهم الاقتصادية وبعلاقاتهم الاجتماعية و بإمكانيات توريطهم في ديون ليسهل ابتزازهم.
أما العامل الثاني، وهو الأكثر خطورة في نظر الصهيونيين، فتمثل في المقاومة العربية الفلسطينية للمشروع الصهيوني الذي هدف إلى تحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود وطرد الشعب العربي الفلسطيني من فلسطين.
ومن الملاحظ أن الاهتمام الصهيوني المخابراتي في جمع المعلومات والتجسس على الشعب العربي الفلسطيني وعلى العرب عموماً ارتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى تطور حركة التحرر الوطني الفلسطيني وبوتيرة النضال الوطني الفلسطيني. فكلما تصاعد وتعاظم النضال الوطني الفلسطيني، ازداد الاهتمام المخابراتي الصهيوني بالعرب والتجسس عليهم. ففي أعقاب انتفاضتي 1920 و 1921، اللتين فاجأتا القيادة الصهيونية، ازداد الاهتمام المخابراتي والنشاط التجسسي الصهيوني على العرب. كذلك ازداد النشاط الصهيوني التجسسي على العرب في أعقاب ثورة البراق في العام 1929 والتي فاجأت القيادة الصهيونية.
وقد ارتفعت وتيرة النشاط المخابراتي التجسسي على العرب أثناء الغليان الشعبي الفلسطيني في المنتصف الأول من الثلاثينات وما رافقه من مظاهرات وإضرابات واعتصامات وقيام منظمات شبابية وجمعيات سرية وظهور أحزاب سياسية فلسطينية على مسرح النضال الوطني الفلسطيني. وتكثف النشاط المخابراتي الصهيوني ووصل إلى مستوى غير مسبوق أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى، والتي فاجأت بدورها القيادة الصهيونية، والتي امتدت من العام 1936 – 1939.
علاوة على الصراع الذي دار في فلسطين بين الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية من ناحية والصهيونية والاستعمار البريطاني من ناحية أخرى، جرى صراع آخر موازٍ له، تارة علني وأخرى خفي، بين الحركة الوطنية الفلسطينية والحركة الصهيونية المدعومة من الاستعمار البريطاني، على الرأي العام العربي وعلى مواقف ودعم النخب العربية التي كانت تحكم أو تشارك في حكم بلادها مع الاستعمار البريطاني أو الفرنسي. فلكون النضال الوطني الفلسطيني اجتذب اهتمام الرأي العام العربي واستقطب المئات ومن ثم الآلاف من الشباب العرب، من الأقطار العربية، الذين انخرطوا في النضال الوطني والقومي العربي، ولكون النضال الوطني الفلسطيني طرح نفسه بقوة على النخب العربية الحاكمة أو الشريكة في حكم بلادها مع الاستعمار، فإن قيادة الوكالة اليهودية، عبر جهاز مخابراتها، أولت اهتماماً بالرأي العام العربي وبالنخب العربية، محاولة وساعية بجدية إلى استقطابهم ونيل تأييدهم ضد الشعب العربي الفلسطيني وحركته الوطنية.
وكانت القيادة الصهيونية قد اهتمت مبكراً بإقامة علاقات مع الأمير عبد الله، أمير إمارة شرق الأردن، منذ تأسيس الإمارة في العام 1921. وأثناء الثورة الفلسطينية الكبرى 36- 1939 سعت الوكالة اليهودية، عبر جهاز مخابراتها "المكتب العربي"، إلى ترقية العلاقة بينها وبين أمير شرق الأردن إلى درجة عالية من التفاهم والتحالف على أرضية المصالح المشتركة بينهما. كذلك اهتم المكتب العربي التابع للوكالة اليهودية أثناء ثورة 36 – 1939 الفلسطينية بكل من سورية ولبنان، على إثر تحولهما إلى مراكز للثوار الفلسطينيين ومركز إسناد هام للثورة الفلسطينية. وقد ازداد الاهتمام المخابراتي بهذين البلدين بعد خروج المفتي الحاج أمين الحسيني من فلسطين على إثر محاولة السلطات البريطانية اعتقاله، ولجوئه إلى بيروت في العام 1937.
كذلك اهتمت المخابرات الصهيونية في الثلاثينات بالعراق لكونها أول دولة عربية تنال استقلالها ولما كانت تمتلكه هذه الدولة من طاقات كامنة، علاوة على دورها العام في المشرق العربي. وبعد انتقال الحاج أمين الحسيني، في بداية الحرب العالمية الثانية إلى العراق، ازداد اهتمام المخابرات الصهيونية بالعراق وبما يجري على أرضها من أحداث. وفي أوائل الأربعينات أبدت المخابرات الصهيونية اهتماماً متزايداً بمصر. وعشية تأسيس جامعة الدول العربية ونتيجة لتبوء مصر قيادة العمل العربي وبروز دورها الإقليمي في المنطقة، استحوذت مصر، وما يجرى على أرضها، على الاهتمام الصهيوني المخابراتي، فباتت مصر،عشية إقامة جامعة الدول العربية، تحتل قصب السبق في النشاط المخابراتي الصهيوني. وقد ازداد هذا الاهتمام والنشاط مع قدوم الحاج أمين الحسيني إلى القاهرة من باريس في العام 1946.
المؤسسات الصهيونية المخابراتية
تعود جذور تأسيس أول مؤسسة صهيونية متخصصة بالمخابرات والتجسس على العرب إلى أواخر العام 1918. فقبل أن تضع الحرب العالمية الأولى أوزارها، وعندما كانت بريطانيا، صاحبة وعد بلفور، تحتل نصف فلسطين، وصلت إلى فلسطين في نيسان(ابريل) 1918 "اللجنة الصهيونية" (فاعد هاتسيريم) (the Zionist Comission) برئاسة حاييم وايزمان، النجم الصاعد في الحركة الصهيونية والذي أصبح في العام 1921 رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية(1). وكانت مهمة "اللجنة الصهيونية"، التي كان قد شكلها حاييم وايزمان من مقره في بريطانيا، بالتعاون مع الحكومة البريطانية، قيادة مجتمع المستوطنين والمهاجرين اليهود في فلسطين وتمثيلهم أمام السلطات البريطانية والعمل لوضع وعد بلفور موضع التنفيذ (2). أولى حاييم وايزمان أهمية قصوى للعمل المخابراتي والتجسس على العرب وبذل جهوداً كبيرة في أعقاب الحرب العالمية الأولى لإقامة مؤسسة مخابراتية صهيونية في فلسطين (3).
بعد مشاورات ومداولات عديدة بين حاييم وايزمان، وأعضاء "اللجنة الصهيونية" في القدس، وكان من بينهم زئيف جابوتينسكي، الذي أسس فيما بعد التيار التصحيحي في الحركة الصهيونية، وأصبح قائداً له، قررت "اللجنة الصهيونية" في القدس، في نهاية العام 1918، تأسيس "مكتب المعلومات" (مسراد هيديعوت) كمؤسسة تابعة لها (4). وحددت "اللجنة الصهيونية" مهاماً لهذا المكتب، أهمها دراسة أوضاع الشعب العربي الفلسطيني وجمع المعلومات عنه والتجسس عليه. وكان الهدف السياسي المباشر حينئذ، عند تأسيس "مكتب المعلومات"، جمع المعلومات ووضعها تحت تصرف "اللجنة الصهيونية" في القدس والقيادة الصهيونية، لكي يتمكن القادة الصهيونيون من دحض أية "ادعاءات" تأتي من قبل بعض القادة البريطانيين المعادين للصهيونية أو من قبل رجال الإدارة البريطانية، حول عظمة المقاومة العربية لوعد بلفور، الأمر الذي قد يؤثر على تغيير السياسة البريطانية من الوعد (5).
كانت تجربة مجتمع المستوطنين والمهاجرين اليهود في فلسطين، في تلك الفترة، في العمل التجسسي وجمع المعلومات، محدودة. واقتصرت هذه التجربة على شبكة التجسس اليهودية في فلسطين "نيلي" التي عملت لصالح المخابرات البريطانية في السنتين الأخيرتين من الحرب العالمية الأولى ضد تركيا (6)، وعلى منظمة هاشومير (الحارس) شبه العسكرية، التي كانت قد أنشئت لحراسة المستوطنات الصهيونية في العام 1909(7).
كلفت "اللجنة الصهيونية" في القدس ليفي إسحاق شنيئرسون، أحد أبرز النشيطين السابقين في شبكة "نيلي" التجسسية، بتأسيس ورئاسة "مكتب المعلومات"(. وحالما تسلم منصبه ومهامه جند ليفي شنيئرسون إلى "مكتب المعلومات"، العديد من ذوي الخبرة في العمل السري، وخاصة ممن كانوا في شبكة "نيلي"(9). كذلك افتتح شنيئرسون مقراً لـ "مكتب المعلومات" في مدينة يافا. وعمل "مكتب المعلومات" من مقره هذا فترة قصيرة، حتى بداية العام 1920، حيث انتقل المقر إلى مدينة القدس (10).
بعد أن فرش العديد من الموظفين والمخبرين في أنحاء عديدة من فلسطين باشر "مكتب المعلومات" عمله برصد تحركات الشعب العربي الفلسطيني وجمع المعلومات حوله وحول أملاكه وأراضيه، وحول أهم التطورات والتغيرات في صفوفه. لقد أولى "مكتب المعلومات" أهمية قصوى لرصد ومراقبة ومتابعة نشاطات الحركة الوطنية الفلسطينية، التي باشرت بتنظيم صفوفها في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وخاصة نشاط الجمعيات الإسلامية - المسيحية والمؤتمرات الوطنية والفعاليات السياسية المختلفة ونشاطات النوادي العربية سواء السياسية أو الثقافية.
وفي سياق تحريه عن القيادات الفلسطينية، فتح "مكتب المعلومات" "بطاقات" للشخصيات والقيادات الفلسطينية العليا وللنشيطين الميدانيين البارزين. وكذلك فتح "بطاقات" للعديد من العائلات الفلسطينية الكبيرة في مناطق متعددة من فلسطين(11).وأجرى العديد من الدراسات عن مناطق متعددة في فلسطين، عن سكانها وأملاكهم، واهتم بالعشائر العربية في النقب وذلك في سياق برنامج طموح لمسح كل فلسطين، لم يتم إلا جزء منه (12). وأولى "مكتب المعلومات" اهتماماً خاصاً بكبار ملاك الأراضي سواء كان هؤلاء الملاك من العرب الفلسطينيين أو من العرب في خارج فلسطين، وتحسس نقاط الضعف فيهم كي يتمكن من ابتزازهم.
بلغت ميزانية مكتب المعلومات في سنة عمله الأولى، في العام 1919، 1528 جنيه إسترليني. وجاء هذا من صندوق خاص، نظمه أساساً حاييم وايزمان، وليس من الميزانية المخصصة إلى "اللجنة الصهيونية" التي أقامت وأشرفت على "مكتب المعلومات" (13).
منذ تأسيسه درج "مكتب المعلومات" على تقديم الخدمات المخابراتية إلى سلطات الاحتلال البريطاني وأجهزته المتعددة. فقد ترجم "مكتب المعلومات" إلى الإنجليزية الأخبار والتقارير التي كانت تصله، والمتعلقة بوجود السلاح بأيدي الفلسطينيين أو بفلسطينيين مطلوبين لسلطات الاحتلال البريطاني، وما شابه ذلك، وسلمها مباشرة وبدون تأخير إلى قسم التحقيقات الجنائي في الشرطة البريطانية الـ CID (Criminal Investigations Department)(14).
وبعد فترة قصيرة من تأسيسه، أخذ مكتب المعلومات، مع ارتفاع وتيرة النضال الوطني الفلسطيني، يقدم تقريراً أسبوعياً إلى مكتب المندوب السامي البريطاني في فلسطين وإلى الإدارة الصهيونية في لندن، لتقوم بدورها بتسليم التقرير إلى وزارة الحربية البريطانية(15).
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر