[size=16]الإنهيار الذي أصاب الحركة السياسية العربية فرض التفكير بإعادة بنائها. حيث بات واضحاً أنها عاجزة عن مواجهة أخطار قائمة، سواء الخطر الصهيوني الذي إبتلع فلسطين، أو الخطر الإمبريالي الأميركي الذي إحتلّ العراق و يهدد بإحتلالات أخرى. كما أنها عاجزة عن تحقيق التغيير الداخلي الضروري لتحقيق التطوّر و أيضاً لمواجهة الهجوم الإمبريالي و الحفاظ على الإستقلال.
لقد حاولت تحقيق الأهداف التحررية منذ نصف قرن، و حققت بعض التطوّر، لكنها لم تستطع الإستمرار في ذلك، على العكس فقد تحوّل بعضها إلى قوى معيقة، و أسهم بعضها في تدمير طاقات مجتمعية هامة. و تفكّك بعضها الآخر و تهمّش، و بات دون فاعلية أو مقدرة على لعب أي دور.
و لهذا فإن الطموح لتأسيس حركة تحررية عربية جديدة مسألة تحظى بأولوية، و تستحق أن تصبح هي الهاجس الأساس لكل المثقفين الجادين و كل المعنيين بالشأن السياسي. فقد إختلفت المعطيات الواقعية نتيجة تحولات الواقع، كما أن البنى القديمة لم تعد قادرة على تحمُّل أعباء الواقع الجديد، لهذا فهي تعيش أزمة عميقة و تبدو عاجزة عن الفعل، تحاول أن تمارس بعض رد الفعل، الأمر الذي يظهر هزالها. و بالتالي فإن إعادة صياغة الأفكار و البنى باتت في أولويات الفعل السياسي، و الحاجة التي يتوقّف على تحققها تحقيق التطوّر في الفعل الثوري من أجل تحقيق المشروع القومي الديمقراطي العربي.
لكن، ولكي يثمر النقاش و يتحدّد ما هو مؤ سِّس لتجديد حقيقي، من الهام تحديد المهمة الممكنة الآن، خصوصاً و أن المسألة تخصّ تيارات فكرية و سياسية مختلفة، تتفق في مسائل و تتعارض – وربما تتناقض- في أخرى، و تمتلك طموحات متخالفة الآن و على المدى الأبعد، و تمتلك رؤى مختلفة لتحقيق ما هو راهن. الأمر الذي يجعل الإتفاق في قضايا يغرق في بحر من الإختلافات، و يفرض العمل المشترك وسط تناقضات و إختلافات و صراعات. إن الضرورة هنا تفرض التوافق على المسائل الجوهرية التي هي ضرورة في اللحظة الراهنة، لكنها لا تلغي كل التناقضات الأخرى التي ستبقى مجال حوار و تصارع و ربما تناقض أيضاً.
إن إنتقاد كل تيار لذاته، و إنتقاد كلّ للآخرين، و من ثمَّ السعي لإعادة بناء المفاهيم و الأفكار و التصوّرات، و بالتالي الأهداف و آليات العمل و الممارسة، هي مهمة راهنة، و هي مهمة طويلة المدى كذلك. لكن تجاهل كل ذلك و التركيز على الراهن السياسي فقط، و بالتالي التسرّع في التأكيد على حصول التجديد، سوف لن يفعل سوى إعادة إنتاج البنى القديمة، التي هي في حالة " الموت السريري" منذ زمن بعيد، و إعلانها كبُنى جديدة و تأسيس أوهام سرعان ما تنهار في لحظة زمنية عابرة، لأن " الجديد" المعلن لن يستطيع الفعل أكثر مما تستطيع البنى القائمة. إن ورشة فكرية تبدو كأنْ لا مناص منها، ترتبط ب " ورشة" الصراع الواقعي الذي يعتمل في أعماق الطبقات الشعبية العربية، و يتخذ شكلاً تبلور في نزعة المقاومة المستمرة في فلسطين و الناهضة في العراق.
و ربما يكون " النضج" الفكري العام الذي نتج عن توسّع الوعي و قسوة التجربة ذاتها، و كذلك توضُّح طبيعة الصراع و تحدُّده، ربما يكون مدخلاً لحركة متسارعة في إعادة صياغة الرؤية و تشكيل الوعي الجديد، و بالأساس تشكيل " العقل" الجديد القادر على وعي الواقع و وعي آليات تغييره. إننا بحاجة إلى " نقد العقل"، النقد القاسي للعقل، من أجل أن لا نكرّر ( أو لنقل أن لا نجترّ) ما كنا نقوله ( أو ما كانت الحركة السياسية تقوله)، و بالتالي نكرّر خطاباً لا يمكن ألا أن يوصف بأنه " سياسي" ( بين مزدوجين) لأنه يتعلّق ب " الحدث السياسي" فقط، بالظاهر من السياسة إذن، و يسهب في رفضه أو في تأييده، أي بإصدار أحكام القيمة بصدده، دون تحليل معمّق للواقع بشكل عام و لواقع الحدث بشكل خاص. بمعنى أن نكرّر إعتبار " التقارير الصحفية" دراسات فكرية، و أن نقف عند السطح ظانّين أننا في العمق.
يجب إذن أن ننتقل من " السطح السياسي" ( أي الحدث) إلى العمق، أي إلى كل مكوّنات الواقع التي تُنتج هذا الحدث أو ذاك، الأمر الذي يسمح لنا بتحديد رؤيتنا، و بالتالي دورنا في صنع الحدث و ليس في التعليق عليه فقط. إن وعي الواقع، الوعي العميق للواقع، هو الذي يسمح بتحديد آليات الفعل، و بالتالي وضع خطوط العمل من أجل التغيير.
هنا يجب نقد التجربة بمجملها، و خصوصاً تجربة القوى التي لعبت دوراً فاعلاً و قيادياً فيها، من أجل كشف المشكلات التي أدت بها إلى الإنهيار و " الموت السريري". الأمر الذي يفرض نقد الحركة القومية العربية التي طبعت مرحلة كاملة بطابعها، و أسست لإشكالات مجتمعية عميقة لم يخفها التطوّر الذي حققته، على العكس كان المدخل لحدوث كل هذه الإشكالات. إن تجديد الحركة يفرض نقد الحركة القومية القديمة لكي لا نكرّر مشكلات الماضي و ندخل في مآزقه. و هنا يجب ملاحظة أن أس الإشكالية التي حكمت هذه الحركة تمثّل في التباس وعيها لتكوين العالم، أي للنمط الرأسمالي الذي فرض ذاته عالمياً و أصبح هو المقرّر ليس في المراكز فقط، بل و في الأطراف كذلك. و كان التحليل العميق لهذا الوضع يوضّح بأن إنفلات الأطراف و تطوّرها يفرض – و هي تسعى ل" تقليد" المراكز الرأسمالية، أي و هي تسعى لتحقيق التصنيع و الحداثة- أن تنفي الرأسمالية ذاتها، لأن تشكيل علاقات رأسمالية محلية مؤسَّسة على الصناعة لا أفق أمامه و لا إمكانية له نتيجة إنسداد السوق العالمية بسبب السيطرة المسبقة لرأسمالية المراكز، و بالتالي التنافس غير المتكافئ مع الرأسمالية الحاكمة.
و بالتالي، و الفئات التي تسعى لتحقيق الرسملة تخسر الشعب نتيجة ميلها لمراكمة الرأسمال عبر النهب، تصطدم برفض رأسمالية المراكز لميلها من أجل الحفاظ على مستوى من الإستقلال و نزوعها لتحقيق قدر من التصنيع يناسب حاجتها للنهب. مما يدخلها في أزمة منذ البدء، تميل الفئات التي تصل إلى الحكم عبره إلى أن تحقق مصالحها عبر النهب، و بالتالي الإستبداد ( أي الدكتاتورية العنيفة)، و من ثمّ نزع السياسة في المجتمع، الأمر الذي يفضي إلى تعميم الإغتراب و التدهور المستمر للوضع المعيشي و الفوضى، مما يقود إلى أن لا يعود الشعب قابلاً بإستمرار الوضع، فتتأسس بنية داخلية هشة، لا تعود تصمد أمام ضغوط رأسمالية المراكز، و أمام ميلها لتحقيق " التغيير" حينما ترى أن ذلك أصبح ضرورياً.
إذن كان التطوّر الرأسمالي الذي قادته فئات وسطى ريفية، يؤسس لتناقض مع سيطرة النمط الرأسمالي العالمي. و لقد شكّل ذلك أساساً لنشوء خطاب ملفّق حول الإشتراكية، كون الإشتراكية هي النقيض للرأسمالية. حيث كانت –في جوهرها- إشتراكية قائمة على تقديس الملكية الخاصة كخاصية مميزة لها عن الإشتراكية الشيوعية. لهذا كانت إشتراكية منخورة بالميل الرأسمالي، لكنه الميل الذي يؤسس لرأسمالية منتجة، سرعان ما إنحكمت لرأسمالية مافياوية نتيجة مصالح الفئات التي قادتها بالذات. الأمر الذي جعل خطاب العدالة و الإشتراكية غطاء لنهب متتالٍ و متعاظم قاد إلى تشكّل فئات رأسمالية كومبرادورية جديدة، و لم يسهم في فتح الأفق لتجاوز إحتجاز التطوّر الذي فرضه النمط الرأسمالي منذ أن أصبح نمطاً عالمياً. لهذا أُعيد إنتاج الرأسمالية التابعة ( كما في مصر) أو المافيات الرأسمالية ( كما في سوريا و العراق و الجزائر)، بدل أن يتحقق التطوّر الصناعي الضروري و تطوّر القوى المنتجة بشكل عام، و بالتالي تحقيق الأهداف القومية التي كانت أساس نشوء الحركة، أي بدل أن تتحقق الوحدة القومية و يتعزّز الإستقلال القومي و تستمر آليات التطوّر و الحداثة.
إن طبيعة الفئات الإجتماعية التي قادت حركة التحرر القومي العربية، هي التي أسست لهذا الخيار. حيث أن الفئات الوسطى المدينية و خصوصاً الريفية تطرح الرؤى التي تحقق مصالحها، حتى وهي تطرحه بغموض أو بتشويش لم يكونا مقصودين. و كانت الرسملة هي المطابق لتلك المصالح، أو كانت الرسملة تقبع في عمق الخطاب الذي كانت تبثّه ربما دون وعي كاف في ذلك. لكن في وضع صعب فرض أن يسود الخطاب " الإشتراكي"، " المساواتي" ، الذي عنى في الواقع، تدمير البنية الإقطاعية القديمة و تحرير الريف من إضطهاد تاريخي، و من ثمّ فتح الأفق لإعادة صياغة العلاقات الطبقية ( الإجتماعية) عبر هيمنة فئات جديدة هي ذاتها التي وصلت إلى السلطة، أو قسم منها يستفيد من وضعه الجديد لكي يحقق " التراكم الأوّلي" عن طريق نهب " القطاع العام" الذي أسهم في إنشائه.
و إذا كانت هذه الفئات قد حملت المشروع النهضوي العربي، بعد أن كانت البرجوازي العربية ( الواقعية) قد خانته تاركة مثقفيها الذين صاغوه لمصيرها المأساوي سنة 1916 . و بدا أنها تسعى من أجل تحقيقه ( أو تحقيق الجوهري فيه خصوصاً الوحدة القومية و الإستقلال القومي)، فقد تركته جانباً حالما وصلت إلى السلطة و أصبح بإمكانها أن " تتطوّر" هي . بمعنى أنه إذا كانت مصالحها الخاصة المنطلقة من رفض البنية الإقطاعية قد إندمجت بالمصلحة العامة ( المصلحة المجتمعية) التي تعني تحقيق المشروع القومي العربي، فإن وصولها إلى السلطة قد حرّرها من الهم القومي العام لمصلحة التركيز على همّها الخاص، محوّلة المشروع القومي إلى غطاء لتلك المصالح ليس إلا.
في هذا الوضع نلحظ إشكالية الوعي/الفكر، الذي إتّسم بالإختلال و بسيادة المثالية المفرطة و القدرية الفظة و الشكلية البادية. و أيضاً- بالتالي- طغيان العمومية في طرح الأهداف و الرؤية المشوّشة القاصرة. هذا ما يحتاج إلى بحث جاد، و نقد جدّي و فهم حقيقي. ولاشك في أن مجمل النقاشات و الحوارات و الإنتقادات التي نُشرت خلال العقدين الماضيين تسهم في ذلك، و تقدّم مادة غنية في هذا المجال.
إن مجمل خبرة التجربة التي قادتها الحركة القومية العربية توضّح بأن " فك الإرتباط" ( حسب المفهوم الذي يقدّمه د.سمير أمين) مع الرأسمالية و تأسيس نمط إقتصادي/إجتماعي بديل، هو المدخل لتحقيق المشروع التحرري النهضوي العربي، مشروع الوحدة القومية و الإستقلال و التطوّر المجتمعي و الدمقرطة. و بالتالي فهو في جوهر الثورة القومية الديمقراطية ( التي نظّر لها المفكر ياسين الحافظ). لأن التطوّر و التوحد القومي و الحداثة ليست متطابقة مع مصالح الرأسمالية، و ليست متطابقة إلى النهاية مع مصالح الفئات الوسطى، وبالتالي فهي تتحقق فقط في سياق تجاوز الرأسمالية و بالتناقض الجذري مع النمط الرأسمالي العالمي. وهذا الأمر يفرض صياغة الرؤية و التصوّرات التي تعبّر عن الطبقات الفقيرة المسحوقة، المتناقضة مع الرأسمالية و المعنية بتأسيس نمط بديل. لأن دورها الفاعل و الأساسي هو الذي يفتح الأفق لتحقيق الثورة القومية الديمقراطية.
لقد حاولت تحقيق الأهداف التحررية منذ نصف قرن، و حققت بعض التطوّر، لكنها لم تستطع الإستمرار في ذلك، على العكس فقد تحوّل بعضها إلى قوى معيقة، و أسهم بعضها في تدمير طاقات مجتمعية هامة. و تفكّك بعضها الآخر و تهمّش، و بات دون فاعلية أو مقدرة على لعب أي دور.
و لهذا فإن الطموح لتأسيس حركة تحررية عربية جديدة مسألة تحظى بأولوية، و تستحق أن تصبح هي الهاجس الأساس لكل المثقفين الجادين و كل المعنيين بالشأن السياسي. فقد إختلفت المعطيات الواقعية نتيجة تحولات الواقع، كما أن البنى القديمة لم تعد قادرة على تحمُّل أعباء الواقع الجديد، لهذا فهي تعيش أزمة عميقة و تبدو عاجزة عن الفعل، تحاول أن تمارس بعض رد الفعل، الأمر الذي يظهر هزالها. و بالتالي فإن إعادة صياغة الأفكار و البنى باتت في أولويات الفعل السياسي، و الحاجة التي يتوقّف على تحققها تحقيق التطوّر في الفعل الثوري من أجل تحقيق المشروع القومي الديمقراطي العربي.
لكن، ولكي يثمر النقاش و يتحدّد ما هو مؤ سِّس لتجديد حقيقي، من الهام تحديد المهمة الممكنة الآن، خصوصاً و أن المسألة تخصّ تيارات فكرية و سياسية مختلفة، تتفق في مسائل و تتعارض – وربما تتناقض- في أخرى، و تمتلك طموحات متخالفة الآن و على المدى الأبعد، و تمتلك رؤى مختلفة لتحقيق ما هو راهن. الأمر الذي يجعل الإتفاق في قضايا يغرق في بحر من الإختلافات، و يفرض العمل المشترك وسط تناقضات و إختلافات و صراعات. إن الضرورة هنا تفرض التوافق على المسائل الجوهرية التي هي ضرورة في اللحظة الراهنة، لكنها لا تلغي كل التناقضات الأخرى التي ستبقى مجال حوار و تصارع و ربما تناقض أيضاً.
إن إنتقاد كل تيار لذاته، و إنتقاد كلّ للآخرين، و من ثمَّ السعي لإعادة بناء المفاهيم و الأفكار و التصوّرات، و بالتالي الأهداف و آليات العمل و الممارسة، هي مهمة راهنة، و هي مهمة طويلة المدى كذلك. لكن تجاهل كل ذلك و التركيز على الراهن السياسي فقط، و بالتالي التسرّع في التأكيد على حصول التجديد، سوف لن يفعل سوى إعادة إنتاج البنى القديمة، التي هي في حالة " الموت السريري" منذ زمن بعيد، و إعلانها كبُنى جديدة و تأسيس أوهام سرعان ما تنهار في لحظة زمنية عابرة، لأن " الجديد" المعلن لن يستطيع الفعل أكثر مما تستطيع البنى القائمة. إن ورشة فكرية تبدو كأنْ لا مناص منها، ترتبط ب " ورشة" الصراع الواقعي الذي يعتمل في أعماق الطبقات الشعبية العربية، و يتخذ شكلاً تبلور في نزعة المقاومة المستمرة في فلسطين و الناهضة في العراق.
و ربما يكون " النضج" الفكري العام الذي نتج عن توسّع الوعي و قسوة التجربة ذاتها، و كذلك توضُّح طبيعة الصراع و تحدُّده، ربما يكون مدخلاً لحركة متسارعة في إعادة صياغة الرؤية و تشكيل الوعي الجديد، و بالأساس تشكيل " العقل" الجديد القادر على وعي الواقع و وعي آليات تغييره. إننا بحاجة إلى " نقد العقل"، النقد القاسي للعقل، من أجل أن لا نكرّر ( أو لنقل أن لا نجترّ) ما كنا نقوله ( أو ما كانت الحركة السياسية تقوله)، و بالتالي نكرّر خطاباً لا يمكن ألا أن يوصف بأنه " سياسي" ( بين مزدوجين) لأنه يتعلّق ب " الحدث السياسي" فقط، بالظاهر من السياسة إذن، و يسهب في رفضه أو في تأييده، أي بإصدار أحكام القيمة بصدده، دون تحليل معمّق للواقع بشكل عام و لواقع الحدث بشكل خاص. بمعنى أن نكرّر إعتبار " التقارير الصحفية" دراسات فكرية، و أن نقف عند السطح ظانّين أننا في العمق.
يجب إذن أن ننتقل من " السطح السياسي" ( أي الحدث) إلى العمق، أي إلى كل مكوّنات الواقع التي تُنتج هذا الحدث أو ذاك، الأمر الذي يسمح لنا بتحديد رؤيتنا، و بالتالي دورنا في صنع الحدث و ليس في التعليق عليه فقط. إن وعي الواقع، الوعي العميق للواقع، هو الذي يسمح بتحديد آليات الفعل، و بالتالي وضع خطوط العمل من أجل التغيير.
هنا يجب نقد التجربة بمجملها، و خصوصاً تجربة القوى التي لعبت دوراً فاعلاً و قيادياً فيها، من أجل كشف المشكلات التي أدت بها إلى الإنهيار و " الموت السريري". الأمر الذي يفرض نقد الحركة القومية العربية التي طبعت مرحلة كاملة بطابعها، و أسست لإشكالات مجتمعية عميقة لم يخفها التطوّر الذي حققته، على العكس كان المدخل لحدوث كل هذه الإشكالات. إن تجديد الحركة يفرض نقد الحركة القومية القديمة لكي لا نكرّر مشكلات الماضي و ندخل في مآزقه. و هنا يجب ملاحظة أن أس الإشكالية التي حكمت هذه الحركة تمثّل في التباس وعيها لتكوين العالم، أي للنمط الرأسمالي الذي فرض ذاته عالمياً و أصبح هو المقرّر ليس في المراكز فقط، بل و في الأطراف كذلك. و كان التحليل العميق لهذا الوضع يوضّح بأن إنفلات الأطراف و تطوّرها يفرض – و هي تسعى ل" تقليد" المراكز الرأسمالية، أي و هي تسعى لتحقيق التصنيع و الحداثة- أن تنفي الرأسمالية ذاتها، لأن تشكيل علاقات رأسمالية محلية مؤسَّسة على الصناعة لا أفق أمامه و لا إمكانية له نتيجة إنسداد السوق العالمية بسبب السيطرة المسبقة لرأسمالية المراكز، و بالتالي التنافس غير المتكافئ مع الرأسمالية الحاكمة.
و بالتالي، و الفئات التي تسعى لتحقيق الرسملة تخسر الشعب نتيجة ميلها لمراكمة الرأسمال عبر النهب، تصطدم برفض رأسمالية المراكز لميلها من أجل الحفاظ على مستوى من الإستقلال و نزوعها لتحقيق قدر من التصنيع يناسب حاجتها للنهب. مما يدخلها في أزمة منذ البدء، تميل الفئات التي تصل إلى الحكم عبره إلى أن تحقق مصالحها عبر النهب، و بالتالي الإستبداد ( أي الدكتاتورية العنيفة)، و من ثمّ نزع السياسة في المجتمع، الأمر الذي يفضي إلى تعميم الإغتراب و التدهور المستمر للوضع المعيشي و الفوضى، مما يقود إلى أن لا يعود الشعب قابلاً بإستمرار الوضع، فتتأسس بنية داخلية هشة، لا تعود تصمد أمام ضغوط رأسمالية المراكز، و أمام ميلها لتحقيق " التغيير" حينما ترى أن ذلك أصبح ضرورياً.
إذن كان التطوّر الرأسمالي الذي قادته فئات وسطى ريفية، يؤسس لتناقض مع سيطرة النمط الرأسمالي العالمي. و لقد شكّل ذلك أساساً لنشوء خطاب ملفّق حول الإشتراكية، كون الإشتراكية هي النقيض للرأسمالية. حيث كانت –في جوهرها- إشتراكية قائمة على تقديس الملكية الخاصة كخاصية مميزة لها عن الإشتراكية الشيوعية. لهذا كانت إشتراكية منخورة بالميل الرأسمالي، لكنه الميل الذي يؤسس لرأسمالية منتجة، سرعان ما إنحكمت لرأسمالية مافياوية نتيجة مصالح الفئات التي قادتها بالذات. الأمر الذي جعل خطاب العدالة و الإشتراكية غطاء لنهب متتالٍ و متعاظم قاد إلى تشكّل فئات رأسمالية كومبرادورية جديدة، و لم يسهم في فتح الأفق لتجاوز إحتجاز التطوّر الذي فرضه النمط الرأسمالي منذ أن أصبح نمطاً عالمياً. لهذا أُعيد إنتاج الرأسمالية التابعة ( كما في مصر) أو المافيات الرأسمالية ( كما في سوريا و العراق و الجزائر)، بدل أن يتحقق التطوّر الصناعي الضروري و تطوّر القوى المنتجة بشكل عام، و بالتالي تحقيق الأهداف القومية التي كانت أساس نشوء الحركة، أي بدل أن تتحقق الوحدة القومية و يتعزّز الإستقلال القومي و تستمر آليات التطوّر و الحداثة.
إن طبيعة الفئات الإجتماعية التي قادت حركة التحرر القومي العربية، هي التي أسست لهذا الخيار. حيث أن الفئات الوسطى المدينية و خصوصاً الريفية تطرح الرؤى التي تحقق مصالحها، حتى وهي تطرحه بغموض أو بتشويش لم يكونا مقصودين. و كانت الرسملة هي المطابق لتلك المصالح، أو كانت الرسملة تقبع في عمق الخطاب الذي كانت تبثّه ربما دون وعي كاف في ذلك. لكن في وضع صعب فرض أن يسود الخطاب " الإشتراكي"، " المساواتي" ، الذي عنى في الواقع، تدمير البنية الإقطاعية القديمة و تحرير الريف من إضطهاد تاريخي، و من ثمّ فتح الأفق لإعادة صياغة العلاقات الطبقية ( الإجتماعية) عبر هيمنة فئات جديدة هي ذاتها التي وصلت إلى السلطة، أو قسم منها يستفيد من وضعه الجديد لكي يحقق " التراكم الأوّلي" عن طريق نهب " القطاع العام" الذي أسهم في إنشائه.
و إذا كانت هذه الفئات قد حملت المشروع النهضوي العربي، بعد أن كانت البرجوازي العربية ( الواقعية) قد خانته تاركة مثقفيها الذين صاغوه لمصيرها المأساوي سنة 1916 . و بدا أنها تسعى من أجل تحقيقه ( أو تحقيق الجوهري فيه خصوصاً الوحدة القومية و الإستقلال القومي)، فقد تركته جانباً حالما وصلت إلى السلطة و أصبح بإمكانها أن " تتطوّر" هي . بمعنى أنه إذا كانت مصالحها الخاصة المنطلقة من رفض البنية الإقطاعية قد إندمجت بالمصلحة العامة ( المصلحة المجتمعية) التي تعني تحقيق المشروع القومي العربي، فإن وصولها إلى السلطة قد حرّرها من الهم القومي العام لمصلحة التركيز على همّها الخاص، محوّلة المشروع القومي إلى غطاء لتلك المصالح ليس إلا.
في هذا الوضع نلحظ إشكالية الوعي/الفكر، الذي إتّسم بالإختلال و بسيادة المثالية المفرطة و القدرية الفظة و الشكلية البادية. و أيضاً- بالتالي- طغيان العمومية في طرح الأهداف و الرؤية المشوّشة القاصرة. هذا ما يحتاج إلى بحث جاد، و نقد جدّي و فهم حقيقي. ولاشك في أن مجمل النقاشات و الحوارات و الإنتقادات التي نُشرت خلال العقدين الماضيين تسهم في ذلك، و تقدّم مادة غنية في هذا المجال.
إن مجمل خبرة التجربة التي قادتها الحركة القومية العربية توضّح بأن " فك الإرتباط" ( حسب المفهوم الذي يقدّمه د.سمير أمين) مع الرأسمالية و تأسيس نمط إقتصادي/إجتماعي بديل، هو المدخل لتحقيق المشروع التحرري النهضوي العربي، مشروع الوحدة القومية و الإستقلال و التطوّر المجتمعي و الدمقرطة. و بالتالي فهو في جوهر الثورة القومية الديمقراطية ( التي نظّر لها المفكر ياسين الحافظ). لأن التطوّر و التوحد القومي و الحداثة ليست متطابقة مع مصالح الرأسمالية، و ليست متطابقة إلى النهاية مع مصالح الفئات الوسطى، وبالتالي فهي تتحقق فقط في سياق تجاوز الرأسمالية و بالتناقض الجذري مع النمط الرأسمالي العالمي. وهذا الأمر يفرض صياغة الرؤية و التصوّرات التي تعبّر عن الطبقات الفقيرة المسحوقة، المتناقضة مع الرأسمالية و المعنية بتأسيس نمط بديل. لأن دورها الفاعل و الأساسي هو الذي يفتح الأفق لتحقيق الثورة القومية الديمقراطية.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر