على مقربةٍ من مجمع الشفاء الطبي غرب مدينة غزة يقضي الشاب جمال البكري (27 عاماً) وقته في ورشة عمله الصغيرة التي تفوح منها رائحة الألوان الزيتية وبين الأخشاب والقطع النحاسية المتناثرة في أرجاء المكان. |
ويستلهم جمال أعماله الفنية اليدوية البسيطة أثناء عمله في متجر خاله وسط المدينة القديمة في بيع التحف الفنية والقطع النحاسية والفخارية التي يتهافت عليها زبائن من نوعٍ خاص. يقول جمال وهو يمسك بخيطٍ صوفي يربطه بورقٍ ملونٍ بدفترٍ خشبي صنعه للتو، إنه وبعد دخول الحصار المفروض على قطاع غزة سنته الثانية، أدرك أن الأمر سيطول -وفق تقديره الشخصي- كما حصل في حصار الولايات المتحدة لبغداد الذي استمر لسنوات، ونقص كثيرٍ من التحف النادرة التي يبحث عنها محبوها بشغف أنه لا بد أن يجد حلاً بنفسه. يتابع الشاب وهو يواصل عمله: "بعد أن شهد متجر خالي نقصاً حاداً في الأواني الفخارية المستوردة، طلبت من أحد صانعي الفخار صنع مجموعةٍ من تلك الأواني، على أن أعيد تلوينها وكتابة أبياتٍ شعرية حسب رغبة الزبون وأعيد صفها على أرفف المتجر". بداية متعثرة وككل بدايةٍ متعثرة -كما يقول- بدأت العمل وحدي على منضدة صغيرة ألملم لوازم العمل من خيوطٍ ومشارط وألواحٍ خشبية مهترئة وقطع نحاسية غير منتظمة الشكل لأستعيد ما فقدته من زبائن لطالما كانوا يسألون عن توفر تلك القطع الفخارية المستوردة. ولم تفلح منضدة البكري الصغيرة بالوفاء بمتطلبات أولئك الفئة من الزبائن بعدما ازداد الطلب على مشغولاته البسيطة، ما اضطره لاستئجار أحد المحال الصغيرة علها تكفي لوازمه الخشبية ومناشيره اليدوية وما صنعته أنامله. ويتابع البكري أنه شعر أن عمله يشهد توسعاً يومياً بعدما استدل زبائنه على ورشته الذين كانوا يأتون إليه ويطلبون تصاميم للوحاتٍ ودفاتر تذكارية وأوانٍ لحفظ القرطاسية وألبوم للصور العائلية، حتى افتتح متجراً خاصاً به وبشقيقه الذي يصغره في وسط المدينة. ذوق رفيع ويشير إلى أن أغلبية زبائنه من ذوي الذوق الرفيع، حيث يقول: "لم أكن أعلم في بداية الأمر أن الكثيرين لهم تلك الأذواق التي لا أجد صعوبةً في تلبيتها، حيث يظن الكثيرون أن شعباً عانى ويلات الاحتلال وحصاره غدا مهموماً ويبكي على شهدائه وجرحاه ليل نهار، وأصبحت الأعمال الفنية شيئًا من الماضي، فما زال هناك شعبُ حي له ذوقه وفنه كما الشعوب الأخرى". ويروي البكري وهو ينشر قطعةً خشبيةً ليصنع منها لوحاً أملساً ينقش عليه آياتٍ قرآنية، أن إحدى السيدات اعتادت التردد على متجره لتختار تحفاً يدوية من صنعه وشموع مغلفة بصناديق صغيرة - تُذكر بكنوز البحر التي كان قراصنة القرن الـ17 يهيمون عليها - لتهديها لزوجها، ليأتي زوجها غداة اليوم التالي ليطلب تذكاراتٍ خشبية رومانسية يجددان بها حبهما لبعضهما. صنع في فلسطين ويتوقع البكري خلال السنتين القادمتين أن تتمكن ورشته ومتجره الصغيرين من الإنفاق على نفسه وأسرته ويتوسع أكثر ليشارك في معارض عربية أو عالمية، "حتى وإن استمر الحصار اللعين" كما يقول. "كنت دائماً مهتمًأ بمعرفة أماكن صنع التحف والهدايا التذكارية وفق طبيعة عملي عند خالي (...) دول آسيوية وأخرى أوروبية، تساءلت يوماً عن مكان "فلسطين" من بين أؤلئك المصنعين الحرفيين، لذلك أود فعلاً أن أكون من أوائل الحرفيين اليدويين الذي يحمل عبارة Made in Palestine"" (أي صنع في فلسطين) على مشغولاتي". صعوبات ويؤكد جمال أنه يواجه الكثير من المصاعب في توفير المواد الخام لمشغولاته اليدوية، خصوصاً وأن الخشب المادة الأولى في صناعاته والذي شهد انقطاعاً حاداً مع تزايد أيام الحصار على غزة. فحتى معدات القطع والنشر والحف أعاد ترميمها بنفسه، فلا زال الكثير من تلك الأدوات الثانوية "كالعملة النادرة" بعدما انشغل التجار بإدخال الطعام والألبسة بشكلٍ هائل عبر الأنفاق. إلا أنه لم يتوقف ويعلن فشله "فلا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين" -كما يقول- فقد بدأت أجمع أصداف البحر وأزرار الأزياء النسائية وألواح الأخشاب من حطام مراكب الصيد على الساحل، مضيفاً أن "الأرض لن تبخل يوماً بما تجود به على ساكنيها مهما اشتد الحال". أستلهم من الإنترنت وحول الأفكار والتصاميم التي يتقن البكري بأنامله العريضة صنعها، يشير إلى أنه يستلهم أفكاره من مواقع الإنترنت الفنية والحرفية، "حيث هناك آلاف التصاميم الأمريكية والإفريقية والأوروبية العصرية التي تلهمني بتصاميم عصرية أو تاريخية يحبها الزبون ويندهش لروعة تصميمها وبساطتها". ويدرك الزبون الجودة المتقنة في مشغولاته الحرفية الخشبية الأصل ولا يتوان في اقتنائها، فالكثير من ميسوري الحال والخاطبين وحديثي الزواج تستهويهم تلك التذكارات الرقيقة "فشعبنا الفلسطيني ليس كما يتصور البعض أنه قطب مغناطيسي جاذب للمشاكل، بل له فنه وذوقه وحياته الخاصة". كما يقول. والحاجة أم الاختراع، كما يردد جمال، حين أتوقف مثلاً لبرهة عن العمل وأفكر كيف أجمع أدواتي الصغيرة في مكانٍ خشية فقدانها "أنحت إناءً خشبيًا صغيرًا يجمعها لتساعدني في إتمام عملي بشكلٍ أسرع، فحتى ورشتي بحاجةٍ لبعض الدلال". بزيتوننا نصنع حياتنا ويؤكد البكري وقد اتشحت سواعده بنشارة الخشب المدببة، أنه ورغم مرارة العيش وصعوبات الحياة وكسب عيشها إلا أنه يؤمن بالمثل الصيني القائل: "إذا أعطيت أحدهم سمكةً فقد منحته قوت يومه، وإذا أعطيته صنارةً فسيكفي نفسه دائماً وإذا علمته صنع تلك الصنارة فقد منحته منهج حياة". ويختتم البكري"هل من يزرع نخلة سينتظر أُكُلُها؟ بل سيطعم أولاده منها"، صحيح أننا عانينا من الاحتلال وحصاره، لكن ذلك لن يثنينا عن إكمال حياتنا وتذوقنا للفن، هم جرفوا زيتوننا وبرتقالنا، لكننا سنجمع تلك الأغصان ونشكلها بأيدينا لنعيد صنع حياتنا". |
3 مشترك
بأغصان زيتوننا سنصنع حياتنا
لمى جبريل- المدير العام
- جنسيتك : اردنية
اعلام الدول :
رقم العضوية : 2
نقاط : 27505
السٌّمعَة : 43
تاريخ التسجيل : 25/01/2009
- مساهمة رقم 1
بأغصان زيتوننا سنصنع حياتنا
Rita- مشرف مجلة اجراس العودة الثقافية مكتبة اجراس العودة الثقافية
- جنسيتك : فلسطينية
اعلام الدول :
نقاط : 25
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 18/12/2009
- مساهمة رقم 2
رد: بأغصان زيتوننا سنصنع حياتنا
جميل جدا، ورائع أن تكون تلك الرغبة موجودة في كل منا..
دمت بخير..
دمت بخير..
ابو غربة- مشرف مجلة اجراس العودة الثقافية مكتبة اجراس العودة الثقافية
- جنسيتك : جزائرية
اعلام الدول :
نقاط : 913
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 10/03/2009
- مساهمة رقم 3
رد: بأغصان زيتوننا سنصنع حياتنا
هي ارادة الشعب الفلسطيني التي لا تقف عند حد
كل الشكر لمديرتنا الرائعه اجراس
كل الشكر لمديرتنا الرائعه اجراس
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر