حــوار فـي المفاهيــم قراءة في الواقع والتحديات الفلسطينية
الكاتب: د. مصطفى البرغوثي
مع تزايد التعقيد في الوضع السياسي الفلسطيني وتكرر الاخطاء وإلتباس المفاهيم، تبدو الحاجة ملحة لنقاش بعض المفاهيم الأساسية التي يجب ان تحكم الحراك الوطني. ويبدو ضرورياً طرح أسئلة جرى تجاهلها او التغاضي عنها بحجة حالة الطواريء التي لا تنتهي، او بحكم العادة المستحكمة بتغليب الاعتبارات التكتيكية على العناصر الاستراتيجية.
غير أن ذلك ليس أمراً سهلاً في ظل التسييس الفئوي المفرط لكل حوار او نقاش، وفي ظل وضع طغت فيه، ولأسباب مختلفة ليس أقلها أهمية حالة الانقسام والاستقطاب الحاد في الساحة الفلسطينية، مقولة "من ليس معي فهو عدوي او خصمي"، بكل ما يعنيه ذلك من عدم استعداد، تحول الى عدم قدرة، على استيعاب الرأي الآخر او النظر بايجابية للأراء النقدية. ويزيد الطين بلة التكاثر الطفيلي لظاهرة كتاب البلاط – ان جاز تسميتهم بالكتاب – والعزوف الواسع للمثقفين العضويين عن التعبير عن آرائهم ولا يفيدها طبعا معسكر النقاد الذين يستبدلوا النقد الموضوعي ببطارية الاتهامات الجاهزة دوماً.
اذن نحن في حالة أعظم ما نكون بحاجة فيها للتحليل والبحث النقدي، ولكننا في أسوأ احوالنا من حيث الاقدام والجرأة على التصدي لهذه المهمة، وذلك كله من ظواهر أزمة لا بد من الاعتراف بوجودها في البنيان السياسي والفكري الفلسطيني.
المفهوم الاول : هل نحن في مرحلة خوض الصراع ام حلــه؟"
ان اختلاف الرؤى والمصالح بين الاتجاهات المختلفة، وتفاوت التقديرات يخلق اتجاهات سياسية مختلفة وذلك هو جوهر التعددية السياسية. ومع ذلك فان اختلافات الرؤى والبرامج لا يجب ان تمس الاطار الاستراتيجي الوطني العام والذي يفترض ان يكون جامعاً. وبكلمات اخرى فان الاختلاف على سبل الوصول الى الهدف لا يجب ان يكون اختلافاً على ماهية الهدف نفسه.
وبالمقارنة، ورغم التفاوت الصارخ بين الأحزاب الاسرائيلية نراها جميعا متفقة على الاطار الاستراتيجي العام. فلا حزب في اسرائيل اليوم يقبل مثلاً قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة وعاصمتها القدس. لان هناك توافقاً بين هذه الاحزاب على الهدف الصهيوني الاستراتيجي العام، وهي أحزاب مختلفة ولكنها جميعا صهيونية.
وقد كان ذلك في الماضي منطبقاً على الساحة الفلسطينية. كان الهدف التحرير الشامل وبعد ذلك اصبح انهاء الاحتلال، والاختلاف كان على الاساليب والوسائل والطرق والآليات.
الشرخ الرئيسي حدث في هذا المجال نتيجة توقيع اتفاق اوسلو. لانه أنشأ انقساماً حول تحديد الطابع الاستراتيجي العام للمرحلة. هل نحن في حالة صراع ام في مرحلة حل للصراع مع الحركة الصهيونية واسرائيل، وما زال هذا الانقسام قائماً.
من الزاوية المفاهيمية، اعتقد وبدون الاجحاف بحق الاجتهاد لأنصار اوسلو، ومع القبول بأعلى درجات حسن النية في تبرير ذلك الاجتهاد، فانه قد ان الاوان لمراجعة ذلك الاجتهاد، ومدى صلاحيته بعد انقضاء سبعة عشر عاماً على توقيع ذلك الاتفاق – ويبدو ذلك بالغ الضرورة في ضوء الحراك التفاوضي الحالي والذي يستند المشاركون فيه من الجانب الفلسطيني على نفس مبررات وادوات التحليل الخاصة بأوسلو. وحتى تكون تلك المراجعة موضوعية تماماً، فلا بد من اسنادها الى النتائج الملموسة لما جرى على الارض.
فما الذي جرى منذ وقع اتفاق أوسلو .
أولاً : لم تنفذ اسرائيل معظم عناصر ذلك الاتفاق، وتراجعت عما نفذته منه عند اول منعطف.
ثانياً : استخدمت اسرائيل الاتفاق وعناصره – مثلاً تقسميات المناطق الى أ ، ب ، ج كوسيلة لتنفيذ مخطط الضم التدريجي للارض وتحويل التجمعات السكانية الفلسطينية في الضفة الغربية الى معازل وكنتونات والهدف هو عزل الفلسطينيين في اطار حكم ذاتي ضعيف على جزر مقطعة الاوصال في مساحة لا تتجاوز 40% من الضفة الغربية.
ثالثاً : استخدمت اسرائيل الاتفاق كرافعة لتكريس وتوسيع نظام التمييز والفصل العنصري، اي ان الاتفاق لم يصبح بديلاً للمشروع الصهيوني كما راهن انصاره الفلسطينيين، بل تحول الى جزء من منظومة تنفيذ المخطط الاسرائيلي نفسه.
رابعاً : حيث ان الاتفاق لم يشمل تجميد الاستيطان زاد عدد المستوطنين في الضفة الغربية منذ توقيعه بنسبة 300% وعدد المستوطنات بنسبة 100%.
خامساً :تحولت ما تسمى بعملية السلام التي لا تنتهي الى بديل للسلام نفسه، واصبحت المفاوضات عملية خالدة لا نهاية لها، وجرى تدجين المجتمع الدولي للقبول بـ (الوضع الراهنstatus Q) بحيث اصبح هدفه مجرد عملية السلام.
سادساً: ادى الاتفاق ومع نشوء السلطة الفلسطينية الى احتواء حركة التحرر وتهميش واضعاف قيادتها – منظمة التحرير الفلسطينية – وانغلاقها، واستبدال معظم مؤسساتها بمؤسسات السلطة.
سابعاً: خلق نشوء السلطة التباساً شاملاً لدى القوى الفلسطينية التي وجدت نفسها جميعها ودون استثناء في تنازع على سلطة (ما زالت تحت الاحتلال) على حساب الوحدة في مواجهة الاحتلال – وذلك كان بلا شك اهم انجازات اوسلو بالنسبة لاسرائيل.
ثامناً : فك الاتفاق جزءاً هاماً من العزلة الدولية عن اسرائيل التي استخدمته لتنشيء علاقات استراتيجية بالغة الاهمية مع دول كالصين والهند وروسيا وغيرها.
تاسعاً : عملية اعادة الانتشار الكاملة الوحيدة التي جرت، في قطاع غزة لم تتم في اطار اتفاق اوسلو، بل بمعزل عنه كخطوة انفرادية كان ايضا من اهدافها الخبيثة تكريس الفصل بين الضفة والقطاع.
وبعد كل هذا يصر البعض على انه لا بديل للمفاوضات سوى المفاوضات في ظل اختلال ميزان القوى، ولا بديل لنهج التفاوض فقط ، الا النهج نفسه. وذلك رغم تكرار الفشل تلو الاخر من فشل واي ريفر وفشل كامب ديفيد الى فشل طابا الى فشل مباحثات استوكهولم الى فشل انابوليس.
ويقابل هذا النهج مفهوم اخر، يعتبر القاعدة الاساس في اية مفاوضات هو توازن القوى، ويؤمن ان ميزان قوى مختل لصالح الخصم لن ينتج حلاً مقبولاً للشعب الفلسطيني، وغني عن القول انه لن ينتج حلاً عادلاً.
البعض يطرح كحلول تغيير المفاوضين او الحصول على ضمانات شكلية للمفاوضات، ولكن ذلك كله يبقى مثل محاولة من وجدوا انفسهم في نفق لا مخرج له ينهكمون بالتفاصيل مثل اضاءة النفق او ملمس جدرانه. لكن ذلك كله لن يغير شيء لان المطلوب ليس تحسين وضع النفق بل الخروج منه بالكامل.
ان الجواب على معضلة الاختلال في ميزان القوى كان بالنسبة لمدرسة المفاوضات، ارضاء الولايات المتحدة، واستخدام نفوذها غير المحدود هي والاتحاد الاوروبي للضغط على اسرائيل. ووصلت التوقعات في هذا المجال ذروتها مع انتخاب الرئيس الامريكي الجديد اوباما، وتعززت بخطابه في القاهرة، ثم تبخرت عندما اكتشف مدى قوة الاعتبارات الاستراتيجية للمؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة، ومدى تأثير اللوبي الاسرائيلي، فتحول الضغط الامريكي من ضغط على اسرائيل الى ضغط على الجانب الاضعف في المعادلة وهو الجانب الفلسطيني.
ان المفاوضات اليوم، تختلف جذرياً عن تلك التي جرت قبل عشرين عاماً، في اعقاب مؤتمر مدريد.
فالاولى جرت بعد الانتفاضة الاولى ونتائجها الباهرة عندما كان الفلسطينيون في حال افضل ولم يكن هناك انقسام داخلي، وكانت اسرائيل في حالة عزلة نسبية، وكان حال العالم العربي، رغم أزمة الخليج، افضل بما لا يقاس.
وكان جوهر التفاوض في حينه الاستناد الى مبدأ المساومة التاريخية – اي القبول بحل الدولتين – دولة في الضفة وغزة بما فيها القدس/تنازل الجانب الفلسطيني الرسمي مقابلها عن الحلم بدولة فلسطين الديموقراطية على كامل التراب الفلسطيني وتنازل عن اكثر من نصف ما كان مقرراً للفلسطينيين في مشروع التقسيم، وقبل بالاعتراف باسرائيل على اساس حدود عام 67، وظن انه سيحصل بالمقابل على الدولة والسلام والازدهار الاقتصادي، ولم يحصل في الواقع الا على اتفاق اوسلو، وسلطة محتلة ومحدودة اشبه بحكم ذاتي هزيل، وانقسام داخلي عميق.
الخطورة في ما يجري اليوم ان الجانب الاسرائيلي يريد اعادة بيع نفس البضاعة القديمة – اي اتفاق اعلان مباديء وليس حلاً شاملاً جديد والابقاء على السلطة المحدودة، اي ليس حلاً شاملاً، مقابل تنازلات فلسطينية جديدة. التنازل عن القدس، والتنازل عن حق العودة، والاعتراف بيهودية دولة اسرائيل، والتنازل عما لا يقل عن 40-60% من مساحة الضفة الغربية و80% من مياهها، والتنازل عن مبدأ سيادة الدولة الفلسطينية واستقلالها.
ونفس الضغوط التي استخدمت لدفع الفلسطينيين الى المفاوضات المباشرة، سيعاد استخدامها مرة اخرى عند كل منعطف لاجبارهم على تقديم التنازلات في كل موضوع من المواضيع. ونفس المبررات التي قدمت للتراجع امام الضغوط وفي مقدمتها الحاجة للتمويل الخارجي، وخطر انهيار السلطة، وعدم قدرتها على دفع الرواتب في حال وقف المساعدات الخارجية ستساق بالطبع لتبرير تنازلات جديدة، ودون ان يجري الانتباه الى ان الاعتمادية على التمويل الاجنبي، وتضخم جهاز السلطة الوظيفي والامني اصبح بحد ذاته عنصر ضعف بنيوي بالغ الخطورة.
ومن هنا لا بد من العودة الى جذر الاختلاف بين من ايدوا اوسلو ومن عارضوه. فمؤيدوا اوسلو قالوا انه السبيل الافضل لتحقيق المصلحة الوطنية في انهاء الاحتلال واقامة دولة مستقلة ومعارضوه قالوا انه سيؤذي تلك المصلحة.
في حينه قيلت تلك المقولة الشهيرة، ان الاتفاق اما ان يؤدي الى دولة او الى كارثة. وقد آن الاوان للاعتراف انه ادى الى كارثة.
ان تلك الكارثة لم تحدث فقط بسبب سوء الاداء الفلسطيني عند انشاء السلطة، وبالتأكيد ليس بسبب استمرار الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، كما يحلو تكراره لهواة جلد الذات، بل لان الحركة الصهيونية وحكومات اسرائيل، وبغض النظر عن حسن او سوء الاداء الفلسطيني لم تكن مستعدة وهي ليست مستعدة للآن ايضا للقبول بالمساومة التاريخية اي حل على اساس دولتين ضمن حدود عام 1967.
والدليل الابرز على ذلك ان كل النهج المعتدل والمتفاني في ضبط الامن وتطبيق الاتفاقيات، بما فيها خريطة الطريق، والذي تولى مقاليد الامور بعد استشهاد الرئيس ياسر عرفات، لم ينجح في زحزحة الموقف الاسرائيلي ولم يحصل على شيء. لا بل كان كل ما جنيناه ازدياد التطرف في المواقف الاسرائيلي ووصول عتاة اليمين والاستيطان والتطرف العنصري الى مقاليد الحكم الاسرائيلي، وتكريس نظام التمييز العنصري كنهج رسمي.
السؤال المركزي هنا هل الاستمرار في نهج اوسلو يقربنا من تحقيق لكل المصلحة ام في الواقع انه اصبح تهديداً للمصلحة اي الهدف نفسه.
ولسنا بحاجة الى اعادة دراسة التاريخ لكي ندرك ان الصراعات تحل عندما ينضج ميزان القوى لحلها. وهي تحل بالاستناد الى معادلة موازين القوى لكل صراع محلياً واقليمياً ودولياً.
وبما ان هناك اعتراف بان ميزان القوى مختل لغير مصالحنا، فمن الطبيعي ان يكون السؤال المنطقي كيف نعدّل ميزان القوى؟
وهذا يعني خوض الصراع لا الهروب منه. وخوضه بوسائل صحيحة تقربنا من الهدف ولا تبعدنا عنه. وذلك يعني خوض الصراع في اطار مخطط استراتيجي، ليس فقط بهدف تنفيس الغضب او فش الغل، بأفعال يستغلها الخصم لايذاء مصالحنا.
انه يعني الامساك بزمام المبادرة وليس مواصلة الغرق في ردود الافعال.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر