الفنان التشكيلي الفلسطيني " مصطفى الحلاج"، من مواليد بلدة سلمه قضاء مدينة يافا بفلسطين عام 1938، درس فنون النحت في كلية الفنون الجميلة بجامعة القاهرة مُتخرجاً بشهادة بكالوريوس عام 1963، أقام بعد تخرجه معرضاً فردياً لأعماله النحتية بمدينة القاهرة عام 1964، لافتاً الأنظار فيه إلى جماليات الأفكار الموصوفة، الدالة على موهبة واعدة وخصوصية جامحة في التشكيل والتعبير. أتم دراساته العليا بجامعة الأقصر متخرجاً منها عام 1968. كان متعدد أمكان الإقامة، موزعاً ما بين العواصم العربية القاهرة وبيروت ودمشق. حاز على مجموعة من الجوائز الأولى والتقديرية عن مشاركاته في المسابقات والتظاهرات المحلية والعربية والدولية، لاسيما المتصلة بتقنيات فنون الحفر والطباعة اليدوية التي ابتكرها، مغرداً في واحتها، وأمسى بذلك مرجعية تقنية وجمالية للعديد من الفنانين التشكيليين العرب.
كان عضواً فاعلاً في الاتحاد العام للفنانين التشكيليين الفلسطينيين والعرب، ومن المؤسسين الأوائل، عكف قُبيل وفاته بنحو ثلاثة سنوات على إنتاج لوحة حفرية غير مسبوقة، تُمكنه من دخول موسوعة "غينس" للأرقام القياسية من ناحية، وتُحقق له المتعة الذاتية في محاولة الوصول إلى لوحة العمر التي أراد لها أن تكون. مُلخصة مسيرة حياته الفنية ومعاناته السياسية كلاجئ، مرتحل في العذابات الفلسطينية من ناحية أُخرى، وتشي بحقيقة اشتغاله التقني ورؤاه الفنية والجمالية، لما يحيطه من أشياء وكائنات حية أدمية وحيوانية، وقصص مفتوح على الحكاية والأسطورة، والتغريد الذاتي في مجاهل الفكرة المتخيلة، وأطلق على لوحته اسماً يليق بتلك التجربة " ارتجالات الحياة" في حلوها ومرها، مؤتلفة من مجموعة قطع محفورة بأدوات الحفر الخاصة، في سياق لوحة جامعة بطولها الذي بلغ نحو ثماني وتسعين متراً بعرض ستين سنتمتر، ولم تكتمل فصولها وذلك بسبب موته الدرامي محترقاً في منزله بمدينة دمشق مساء يوم 15/12/ 2002.
والحديث عن مصطفى الحلاج كإنسان يختلف عنه كفنان، والمقربين إليه يدركون هذا التمايز ما بين شخصه وفنه. لوحاته رافعة جمالية ومسحة ابتكار مميزة في ميادين فن الحفر العربي المعاصر، خلدته وتجاوزت هناته الشخصية الكثيرة في مسيرة حياته الاجتماعية والثقافية. جامعة ما بين ثنائيات التناقض اللوني الطبيعي، المتوالد من دورة الحياة وثنائيات الخير والشر، ترتدي رمزية الملونات المتجلية بالأبيض والأسود. اللذين لا يحتملان الرمادي ويبتعدان عنه، وتظل سطوحهما المتحركة في فضاء التناقض اللوني تقص صور متعددة للأنا الذاتية والعلاقة الشكلية مع الآخر، ونجد جميع لوحاته تمثل مسرحاً مناسباً لجموحه الفردي، تستضيف محياه الشخصي وصورته الذاتية، باعتبارها مفردة أساسية وجوهرية تدور في فلكها بقية العناصر والفِكر، وتفتح بوابة المساءلة والحوار البصري مع محتواها كشكل ومضمون ورؤى تقنية.
لوحاته تُبقى السؤال مفتوحاً على المحاورة النصية ما بين حكاية هنا، وتفصيل هناك، يبحر الحلاج في متن قصائده السردية التي لا تقف في حدود شخوصها ورموزها الموصوفة وحسب، بل تدعو المتلقي للعوم في فضاء المخيلة وتجاوز حدود النص المرئي، وترسم معالم حكايات سريالية الطابع والهوى الشكلي. لم يعرف فيها الفنان الكلل والملل، مصحوبة بديمومة البحث والتجلي والاشتغال التقني والحرفي، واستنباط حلول تقنية جديدة لمساره الفني. بدءاً من صناعة مكابس الطباعة الخاصة بحفرياته بنفسه، واختيار ملوناته وأحباره، وأدواته التقليدية والصناعية، وصولاً لمساحة وعيه الفكري وثقافته الفنية الواسعة في ميدانه، وميادين أُخرى في عالم الفنون المرئية التشكيلية منها والثقافية. لينتهي فيه المطاف لأن يغدو أيقونة فنون الحفر والطباعة اليدوية العربية بلا مُنازع، وله في هذا ما يزيد عن خمسة عقود من الزمن. كقامة فنية تشكيلية متطاولة في حصاد الجوائز العربية والدولية، وعلماً من أعلام فن الحفر (الغرافيك) العربي المعاصر الذي امتدت قنوات ابتكاره لجهات الدنيا الأربع
لوحاته الحفرية تُعد عالماً فنياً مستقلاً بذاته الشكلية والمحتوى الموضوعي، يسبح فيها عكس تيارات الفنون النمطية والتقليدية عموماً، وفنون الحفر والطباعة اليدوية على وجه التخصيص، قصاصاته السردية وحكاياته الوصفية، تؤلف مرجعية بصرية للباحثين والدارسين لفنون الحفر، تُعمق الرؤى النقدية، وتجعل لآليات رؤاه البصرية نكهة معرفية خاصة، لأن كثرة التفاصيل المتواجدة في سطوح لوحاته الحفرية المطبوعة، والحبلى بالمشاهد التعبيرية المحلقة في عالم سريالي، ليس له فيها بداية ولا حتى نهاية، وهي أشبه بقصة متعددة الصور وتحاكي قصص ليالي شهرزاد وشهريار "الحلاجية"، ليليها موصول بنهارها، متدفقة المعاني والرموز والخلفيات المعرفية والبوح الجمالي التي تراود ذات الحلاج ومخيلته وتراكم خبراته الوجودية، وعلى طريقته الخاصة الموصولة بذاته الشخصية كصورة متواجدة في عموم لوحاته.
هذه الأنا المفرطة في ذاتيها والتي تحملك إلى مساحة الابتكار والخصوصية، والعبقرية التي يتخندق في متنها "الحلاج" في مظهره الخارجي وسلوكه الداخلي، واختيار أصدقاءه وزوجاته، ومأكله ومشربة وأماكن جلوسه وتواجده، وبوح لوحاته متعددة النصوص، من كونها خلاصة لهذا النسيج البشري الغرائبي المسكون في جوانحه، ومُعبر عنه في صور ومشاهد شكلية ومرئيات متنوعة، معتبراً ذاته تدخل في "كوما" المعاناة الذاتية وتقارب إلى حد ما مأساة الصوفي الكبير الحلاج المارقة في التاريخ الإسلامي، تحاكي فصول المعاناة الذاتية المنثورة في مسرود نصوصه الحفرية.
الذات هي المفردة الأكثر تواجداً في عموم لوحاته، يضعها أشبه بلازمة مرئية الشكلية، مُجسداً صورة الراوي والضحية، يجمع المسافات البينية والتمايز الوصفي في الشكل والفكرة يرصفها في حلة تشكيلية واحدة، وتشعر كمتلقي بأنك أمام لوحات متناسلة من عمق التاريخ العربي عموماً والمصري الفرعوني خصوصاً، وتقف أمام الفراعنة وجهاً لوجه، يتوسط "الحلاج" المشاهد جميعها في حلة شكلية، تدفعك للقول بأن الحلاج يمثل "فرعون" لوحاته، وزمانه والمهيمن الروحي والنفسي والانفعالي وحتى الجمالي على مقاليد قصائده البصرية الموصوفة.
فلسطين غائبة في صورتها التشكيلية النمطية والتسجيلية، كقصة شعب ومقاومة وجغرافية عاكسة لذاكرة المكان الفلسطيني بجميع مكوناته، هي حاضرة في رمزية الوصف وتجليات الفكرة، مُنحازة لخيارها الفلسفي، الذي يلعب الحلاج النموذج الشخصي المطابق لشخوص متعددة من الشعب العربي الفلسطيني، مسكونة فيه ومتوارية خلف تفاصيل النصوص المرصوفة، ومؤشراته اللونية المتناقضة مُعبرة عن حالة وطن، فيها استنباط لطرائق جديدة مُبتكرة في مجالات إنتاج اللوحة الحفرية المشغولة في إيقاعات شكلية عربية من ذات البعدين "الطول والعرض"، مغادرة بطبيعة الحال النزعات المركزية الأوربية الغربية. سواء من حيث بنائية اللوحة ومعمارية التكوين، واختيار العناصر والمفردات والفكرة التعبيرية والمحتوى الموضوعي لرسالته الفنية المنحازة جملة وتفصيلا لفضائه العربي بكل تاريخه وإنسانيته، وأحقابه الوجودية منذ ما قبل تدوين التاريخ، مروراً سابراً وعاكساً لحضارات بلاد ما بين النهرين والشام ووادي النيل. هذا العناق الوجودي المُعبر عن هويّة وانتماء وانحياز للذات الوجودية الإنسانية، والساعية لتشكيل فسيفساء المجتمع الإنساني المحب لإنسانية الإنسان وذاتيه دون تبعية واحتواء وقهر وانزياح.
لوحات (الحلاج) لا تُفارق مكانها وصيرورة زمانها في التعبير عن الذات الفردية المقاومة على جبهة الثقافة بأشكال مقاومة من نوع فريد، سلاحه فيها ذاكرة متوقدة ويد ماهرة تُحسن فعلها في خامات ومواد صناعية، تجد في صفائح الخشب (المازونيت) كبداية وM.D.F)) توزيعاً عارفاً لقدرات الخامة ومساحة التخيل، ورصف المؤثرات الحفرية الحسيّة ما بين الغائر والنافر. معنية بنسج موسيقى التوازن ما سطحين متناقضين لتفتح صفحة واسعة الطيف، تُمسرح حياته وبيانه البصري في صور تراجيدية حافلة بالبكاء والتي أخذت من مشاعره وأحاسيسه وانفعالاته ونزقه المعهود كل مأخذ.
لوحاته جميعها وثيقة فكرية وجمالية وتقنية، تُلخص قصة إنسان (الحلاج) الذي عاش حياته بكل ما فيها، واوجد لذاته مكانة ولغة تعبيرية بصرية مفعمة بالخصوصية والتفرد، منقوشة ومخطوطة بثنائية التناقض اللوني (الأسود والأبيض)، خطوطاً وأخاديد فنية تشكيلية محققة للتوازن الانفعالي والتقني كمقدمة طبيعية لحالة ابتكار، تجدها في ثنايا النصوص والمفردات والعناصر المنثورة فوق سطوح اللوحات المطبوعة، وتقنيات تشكيلية متمايزة ومُعتادة على العزف خارج سرب المرئيات الكلاسيكية. قدمها الراحل "الحلاج" بأساليب مُبتكرة غير مسبوقة، بما فيها من جودة الصياغة والتأليف والتوليف، وحافلة بمجموعة هائلة من الأحداث والرموز وكأنه فيها يُقدم ألف ليلة وليلة من ليالي (الحلاج) التي لا تنتهي في حيز الواقع وحدود الذاكرة، وجموح المخيلة تُبقيه ظاهرة ومرجعية لكل باحث ومثقف وفنان.
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:15 am من طرف راهب الفكر
» تصريح الناطق الرسمي لجيش رجال الطريقة النقشبندية بصدد التهجير القسري للعراقيين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» زيف المفترين في إعلان خلافة المسلمين
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:14 am من طرف راهب الفكر
» مبارزة شعرية .......
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:11 am من طرف راهب الفكر
» مقاومينا بغزة البواسل للشاعر عطا سليمان رموني
الجمعة 19 أغسطس 2016, 2:08 am من طرف راهب الفكر
» أتثائب... عبلة درويش
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» تصريح ولكن.... وما بعد الجدار/تغريد العزة
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:54 pm من طرف راهب الفكر
» " منديلٌ لبسمات امرأة " لؤي ابو عكر
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» نقد الحزب المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي " سلامة كيلة (للتحميل)
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:53 pm من طرف راهب الفكر
» تلخيص كتاب: تاريـخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700 – 1918
الأحد 24 أغسطس 2014, 1:37 pm من طرف راهب الفكر